الأحد، 26 أبريل 2009

الاستشهاد

قد يكون من الغريب أن أسارع الى كتابة هذه الخاطرة و أنا أستمع لمقطوعة موسيقية وردت فى نهاية فيلم (الطريق الى ايلات).
أستمع إليها و أمام عينى تمر مشاهد أذكرها, صور الضباط المشاركين فى العملية, ثم تأتى الموسيقى فى لحظة شديدة الشجن تتزامن مع عرض صورة الشهيد الوحيد فى العملية(رقيب محمد فوزى البرقوقى).
عند هذه اللحظة أشعر بقشعريرة و أن شعر جسدى يقف!!
هذه اللحظة تذكرنى بمرة أخرى, فيلم(عمالقة البحار), الذى تدور احداثه فى فترة العدوان الثلاثى, و بطولة ضباط البحرية المصرية و صمودهم فى وجه المعتدين, و فى مشهد يظهر طاقم السفينة و قد استشهد كله, و على وجوههم امارات الطمأنينة و الهدوء, و أذكر أن الدموع وقتها قد طفرت من عينى.
مشهد آخر, كنت و صديق نتذاكر البطولات التى حدثت فى حرب أكتوبر, ذكر لى أنه قد حضر محاضرة ألقاها محارب قديم كان ضابطاً شارك فى الحرب, كان يتحدث عن النقاط الحصينة التى أقامها اليهود, و مدى صعوبة دكها و تدميرها و السيطرة عليها, فكان الاستيلاء عليها عن طريق الأفراد هو الوسيلة المتبعة, و كان الجندى يتحرك من تلقاء نفسه بدون تلقى أى أوامر, فيلقى نفسه فوق المدفع الرشاش البارز من النقطة الحصينة ليكون جسده درعاً , و ليحمى زملاءه و يفسح لهم الطريق للعبور و السيطرة.
أتخيل هذا المشهد فأقول لصديقى كفى, و عيناى تدمعان.
أتذكر لقاءً تليفزيونياً مع الشيخ حافظ محمد قائد المقاومة المسلحة فى السويس أيام حرب رمضان, يتكلم الرجل العجوز عن البطولات التى قام بها أهل البلد فى القتال مع اليهود, و كيف اضطروا الى دفن بعض الشهداء فى اماكنهم فى الشوارع, و تنتهى الحرب و تمر الأيام و تحفر الشوارع ليجدوا أجساد الشهداء كما هى بدمائها الساخنة, و ابتسامة الرضا على وجوههم, الأجساد الطيبة فى الأرض الطيبة التى تأبى أن تأكل أجساد الشهداء.
أستمر فى التذكر و فى الكتابة جنباً الى جنب, يمر أمام عينى شريط من مشاهد رأيتها فى أفلام سينمائية, أو وثائقية, أو لقطات حية من الأخبار, أتذكر شهداء سقطوا فى ميادين القتال فى سيناء و مرج عيون و كابل و الفلوجة و غزة, و أبرياء استشهدوا فى مذابح جماعية كما حدث فى سربرينتشا و جروزنى و جنين, أتذكر شهداء أحد الذين بكى عليهم الرسول صلى الله عليه و سلم, و شهداء مؤتة, و شهداء القادسية و اليرموك و الزلاقة و حطين و عين جالوت, أتذكر شهداء التل الكبير الذين راحوا ضحية الخيانة, و شهداء هزيمة يونيو الذين راحوا ضحية ال......
أتذكر شهداء الدعوة و الجهاد على مر العصور, أتذكر أن كل هؤلاء قد حملوا أرواحهم على أكفهم و بذلوا أنفسهم لكى نعيش نحن, و لكى تصلنا دعوة الله, و لكى تصبح كلمة الذين كفروا السفلى و كلمة الله هى العليا.
أتذكر أن أى شهيد هو فى الأصل مقاتل أو مقاوم أو مجاهد, و هذه هى الخطوة السابقة لكى تصل لهذه المنزلة, أو قل, لكى تصل لهذه الغاية, نعم هى الغاية طالما كنا ننتمى لأمة تبغى إحدى الحسنيين:نصر أو شهادة.
أتذكر سيدنا خبيب بن عدى و هو معلق فوق الصليب بين مشركى مكة و يقول لهم:
و لست أبالى حين أُقتلُ مسلماً.........على أى جنبٍ كان فى الله مصرعى
و ذلك فى ذات الإلهِ و إن يشأ.........يبارك فى أوصالِ شلوٍ مُمزعِ
أتذكر أحاديث مختلفة لرسولنا الكريم: من جهز غازياً فقد غزا, و من خلف غازيا فى أهله بخير فقد غزا.
من طلب الشهادة بصدق, بلغه الله منازل الشهداء و لو مات على فراشه.
أتذكر دعاء سيدنا عمر:اللهم أرزقنى شهادةً فى سبيلك, و اجعل موتى فى حرم رسولك.
أتذكر كل هذا و أكثر, و أردت أن تتذكروه معى.

الاثنين، 20 أبريل 2009

رأس الحربة



عندما كان المرء يعجب فى صغره لرؤية إسرائيل و هى تعربد فى الدنيا, و تفعل كل ما تفعله بدون حساب, و بتأييد مطلق من العالم الغربى و على رأسه أمريكا, فإن التفسير الذى كنا نجده ممن هم أكبر منا, أن هذا راجع لأن اليهود متحكمون بشكل كبير فى إقتصاديات الدول الكبرى, و أنهم لهذا يشكلون التوجه و القرار السياسى لهذه الدول.

هذا التبرير يوحى أن ساسة هذه الدول كأنهم مغلوبون على أمورهم, و كأنهم واقعون طوال الوقت لضغوط و إبتزازات من إسرائيل و من كل لوبى صهيونى فى الغرب, و فى المقدمة اللوبى الصهيونى الأمريكى, لكن ما نود أن نوضحه فى هذا المقال أن هذا التبرير قاصر إلى حد كبير.

فوجود إسرائيل من البداية هو ثمرة للتحالف غير المقدس بين اليهود و قوى الإستعمار الغربى, تحالف بين صهاينة من أديان مختلفة, نعم من أديان مختلفة, فالصهيونية كفكر ليست حكراً على اليهود, بل إنها كفكرة تنادى بعودة اليهود إلى فلسطين قد ظهرت بين مسيحيين قبل أن يتبناها من تبناها من اليهود أنفسهم.

كان من الممكن أن أضع علامة تعجب فى نهاية الفقرة السابقة يا قارئى العزيز, لكن الأمر كله ليس فيه ما يدعو للعجب, إن أى تحالفات غير مقدسة مثل هذه قائمة فى الأساس على مبدأ المصلحة, و كما قال تشرشل:لا توجد صداقات دائمة أو عداوات دائمة, توجد فقط مصالح دائمة.

الصهيونية المسيحية حينما نشأت و نادت بعودة اليهود (لوطنهم القومى) فى فلسطين, فإن هذا كله لغرض وحيد, هو تحقيق نبؤات الكتاب المقدس, و التعجيل بقيام حرب نهاية العالم(هرمجدون) تمهيداً لعودة المسيح و حكمه الألفى السعيد(يؤمن هؤلاء بأنه لابد لعودة المسيح أن يتجمع جميع اليهود فى أرض فلسطين, ثم تقوم حرب شاملة بين قوى الخير و الشر, و يعتنق من تبقى من اليهود المسيحية و تنتصر قوى الخير-النصارى-و يعود المسيح ليحكم العالم ألف سنة ينعم فيها العالم بالسلام التام).

أما الصهاينة اليهود, و جلهم من العلمانيين و غير المتدينين, بل و الملاحدة, فنظرتهم للمسألة اليهودية نظرة قومية عنصرية بحتة, و الصهيونية مشروع قومى إستعمارى إستيطانى من الدرجة الأولى, و عندما تعلم أن هرتزل كان لديه خيارات متعددة بخلاف فلسطين لكى تقوم الدولة العبرية عليها-شرق أفريقيا(كينيا و أوغندا), الأرجنيتين, مدغشقر, سيناء!-عندها ستدرك هذه الحقيقة, و ما كان إختيار فلسطين إلا لكى تكتسب الصهيونية بعدا روحيا يجتذب معه قلوب اليهود المؤمنين المتدينين, و يكون حافزاً لهم لترك أوطانهم و الهجرة, أو قل إن شئت(العودة لوطنهم الأصلى).

و لكى يتحقق هذا كان لابد من التحالف غير المقدس مع الإستعمار الغربى, و كان لابد من إقناع القوى الغربية بأن مصلحتها فى الشرق تكتمل بوجود جيب إستيطانى دائم لها فى المنطقة, يفصل بين الدول العربية, و يقطع الطريق على أى إتصال أو وحدة, و يكون مركزاً للفكر و النمط الغربى (المتقدم) فى الشرق(المتخلف), و يكون حتى منفذاً لتصريف البضائع الغربية-بما فيها البضاعة الفكرية-يعنى بإختصار, رأس الحربة للإستعمار الغربى.

طرق الصهاينة أبواب عدة دول فى رحلتهم هذه, فى أوج قوة العسكرية البروسية الألمانية فكروا فى ألمانيا, كما فكروا فى فرنسا(كان لنابليون سبق فى هذا المضمار عندما نادى يهود العالم أثناء حملته على الشرق بالعودة الى فلسطين!), و كانت إنجلترا هى الورقة الرابحة و التى تلاقت مصلحتها مع مصالح اليهود على طول الخط فكان وعد بلفور الشهير, و عندما غربت الشمس عن الإمبراطورية البريطانية إرتموا فى أحضان الوريثة الشرعية لقوى الإستعمار:الولايات المتحدة الأمريكية.

و كما كان تحالف هذه القوة الإستعمارية الصغيرة مع الإستعمار بكافة أشكاله, لم يجد الصهاينة من اليهود حرجاً من التعاون مع عدد من المعروفين بمعاداتهم الشديدة للسامية-قد تندهش عندما تعلم أن بلفور نفسه كان معادياً للسامية-و كان التعاون بين الصهاينة و النازيين تعاوناً مشهوداً, و كل هذا لتحقيق مصلحة مشتركة للطرفين, فللجانب الصهيونى:العمل على تهجير اليهود من أوروبا إلى فلسطين, و بالنسبة للإستعمار الغربى:التخلص من عبء وجود اليهود فى المجتمعات الأوروبية(بسبب النظرة العنصرية القومية, أو عدم قدرة اليهود على الإندماج, أو عدم الإقتناع بكون اليهود عنصراً صالحاً فى المجتمع الأوروبى من الأساس) و نعود مرة أخرى لنضيف أهم نقطتين اللتان نعتبرهما ملخصاً لهذا التحالف غير المقدس: الرؤية الصهيونية المسيحية لليهود التى توجب مساعدة اليهود على (العودة) لفلسطين, و من ثم إقامة دولة لهم و العمل على دعمها على طول الخط, و السبب الثانى, هو أن تصبح رأس الحربة لقوى الإستعمار, تطعن بها بلادنا فى القلب.

لذا فالدعم غير المشروط الذى تقدمه أمريكا مثلاً لإسرائيل ليس ضعفاً من أمريكا بطبيعة الحال, فإن وجود إسرائيل كدولة طفيلية مزروعة فى المنطقة مرتبط حتى الآن بشكل كبير بالهبات الرسمية و الغير رسمية التى تصلها من الغرب, من الحكومة الأمريكية فى شكل معونات الأسلحة و المعونات المادية, و من يهود الشتات و المسيحيين الصهيونيين الذين يقدمون دعماً ماليا ضخماً لضمان بقاء دولة إسرائيل.

لكن فى لحظات معينة حينما تتصرف إسرائيل تصرفاً ضد مصلحة أمريكا, فإن أمريكا تضرب على يدها على الفور, نذكر مثلين أحدهما قديم من الخمسينيات من القرن الماضى, حينما شاركت إسرائيل فى العدوان الثلاثى على مصر, و كان لتهديد الرئيس الأمريكى أيزنهاور و ضغطه على إسرائيل أثره فى التعجيل بإنسحابها, صحيح أن بن جوريون وقتها وعد الشعب الإسرائيل أن ما حدث-من ضغط أمريكى على إسرائيل-لن يتكرر, لكن هذا الوعد أكبر من بن جوريون ذاته.

المثل الثانى قريب, حيث أبدت أمريكا إعتراضاً كبيراً على قيام إسرائيل ببيع عدد من طائرات الإستطلاع المبكر بتكنولوجيا حديثة طورتها إسرائيل إلى الصين, و حينها لم تجد إسرائيل مفراً من إلغاء الصفقة حتى لا تغضب راعيتها و أمها أمريكا.

قد ينخدع البعض لرؤية كم التزلف لليهود الذى يبديه المترشحون للرئاسة الأمريكية, و حقيقى أن اللوبى اليهودى يمثل قوة ضغط داخلية كبيرة, لكن من جانب آخر, فإن لعبة السياسة و الإنتخابات و ما تتطلبه من حتمية إجتذاب كل الأصوات و رؤوس الأموال المؤثرة القادرة على دعم العملية الإنتخابية, كل هذا يوضح سبب هذا التزلف و النفاق, لكن أى دعم غير مشروط لإسرائيل بعد هذا هو قائم بصورة أساسية على دعم مصالح أمريكا و الغرب الإستعمارى فى بلادنا.

إن الحذاء الإسرائيلى لا يدوس على رقبة أمريكا, بل إن العكس هو الصحيح, و الطريق لسقوط تل أبيب يمر بسقوط واشنطن, لا تظنوا أن أمريكا ستتنفس الصعداء إذا سقطت إسرائيل, أو إختفى كل اليهود, إنهم حتى لم يعودوا يكتفون بوجود هذا الجيب الإستيطانى, و لا بإستعمارهم الإقتصادى و الثقافى لنا, فعادوا مرة أخرى للإستعمار بشكله الكلاسيكى كما هو حادث فى العراق.

إن تغيير السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط سيكون أحد العوامل الأساسية فى تفكيك إسرائيل, فإسرائيل بكل ما تبدو عليه من تقدم و تطور و إكتفاء لا تستطيع الصمود وحدها بدون دعم قوى الإستعمار, و أعود و أكرر كلمة الإستعمار و لن أمل من تكرارها , فالبعض يظن أن الإستعمار مصطلح كلاسيكى قديم قد ولى زمنه منذ ستينيات القرن الماضى, لكن الصحيح أن هذا المفهوم موجود منذ بداية التاريخ, و سيستمر و لكنه يتخذ صوراً و أشكالاً مختلفة حسب الزمان و المكان و تغير الظرف السياسى.

و نحن لن نربط مصيرنا برغبتنا فى أن يتعطف علينا الإله الأمريكى و ينظر لنا بعين العطف و يغير سياسته نحونا, فالخيار الأول و الأساسى هو الإستمرار فى المقاومة بكل أشكالها, و على رأسها المقاومة المسلحة, تسير معها أسلحة المقاطعة و دعم المقاومين مادياً و أدبياً و معنوياً, و نشر فكر المقاومة و روح الجهاد و إحياء العزائم و رفع الهمم.

القضاء على مخططات الإستعمار التخريبية فى بلادنا هو السلاح الثانى فى معركتنا, و أبرز مظاهر التخريب هو تخريب الجيل و القضاء على الشباب:فكرياً, و حتى جسدياً, و هو ما علينا أن نقاومه-كل حسب قدرته فى المحيط الذى يتحرك به-بتصحيح المفاهيم و رفع الغشاوات عن العيون, و أن ننتقل من مقاعد التنظير إلى العمل الفعلى.

و مخاطبة الرأى العام الغربى و إستمرار التواصل معه, مع الأحرار من الشعوب الأخرى, لكى تكون الصورة واضحة أمامهم, لكى يعلموا أن مصالح بلادهم ليست فى إستمرار الإستعمار, هذا التواصل مهم, فمع تزايد عدد المؤمنين بوجهة نظرنا تتولد قوة ضغط داخلية أخرى فى الغرب, قد لا تكون حتى الآن لها نفس تأثير القوى المعادية, لكن على المدى البعيد, ستنقلب الموازين, لأن العالم يتغير, و هذه من سنن التاريخ التى تعودنا عليها.

و قد يرى كثيرون أن هذه أوهام و أضغاث أحلام, لكن التاريخ علمنا أن دوام الحال من المحال, فهناك قوى تولد و قوى أخرى تغرب عنها الشمس, و هناك آخرون همل لا يؤثرون فى أى شىء, و لكن قد يصبحوا مؤثرين بدورهم فى فترة لاحقة-كحال العرب قبل و بعد الإسلام-المهم أن نتحرك و نعمل كى نكون بدورنا من المؤثرين لا من الهمل و الأتباع.

و لسوف يأتى اليوم الذى تنكسر فيه رأس الحربة بأيادينا, و ربما يكون هذا مقروناً بإنكسار الحربة ذاتها.