تتناول هذه المذكرات المسيرة المهنية للواء حسن طلعت ما بين مايو 1939، وحتى إقالته في مايو 1971، في مسيرة تنقل فيها في محطات مختلفة داخل جهاز الأمن، وكان له دورٌ أساسي في تأسيس جهاز المباحث العامة – الذي عُرف لاحقاً بأمن الدولة – ووصل إلى منصب مدير الجهاز، إلى أن أقاله السادات واعتقله على خلفية ما سماه ثورة التصحيح، كما كان طلعت هو صاحب فكرة إنشاء قوات الأمن المركزي.
بدأ طلعت كتابه بمقدمة نظرية يشرح فيها مفهوم الأمن السياسي وأهميته وصوره
عبر التاريخ، ثم بدأ في عرض مسيرته المهنية، منذ التحاقه بكلية الشرطة، ثم تخرجه
وعمله في أماكن متعددة مثل الجوازات والتموين، ثم انتقاله للعمل بالقلم السياسي،
الذي تحول بعد ذلك إلى المباحث العامة.
تحدث طلعت عن الأوضاع الوظيفية الصعبة لضباط الشرطة والتي دفعتهم لتنظيم
إضراب عام، كما تناول طلعت في حديثه ذكر الاحتكاكات العديدة مع المحتل الإنجليزي،
وخصوصاً خلال الفترة التي خدم فيها طلعت في الإسماعيلية، وتحدث عن بعض الأدوار
الوطنية التي شارك فيها، مثل تنبيه الفدائيين لحملة تفتيشية يعد لها الإنجليز،
فتمكنوا من نقل ذخائرهم بعيداً عن أعين المحتل، كما تحدث عن مشاركته في تشجيع
العمال المصريين على ترك الخدمة في معسكرات الإنجليز، وترتب على ذلك إلقاء
الإنجليز القبض عليهم وإبعادهم له عن الإسماعيلية. كما تحدث طلعت أيضاً عن تغير
مشاعر المصريين عموماً ومعهم الضباط تجاه الملك، وحنقهم ونقمتهم عليه، وتفكيره هو
وعدد من زملائه في تكوين تنظيم من ضباط الشرطة لقلب نظام الحكم، وتفكيرهم في
التواصل مع ضباط الجيش، وأنهم كانوا على وشك الانكشاف لأن الضابط الذي كانوا
سيتواصلون معه كان أحد أعضاء الحرس الحديدي.
تحدث عن أحداث 25 يناير في الاسماعيلية والتي تلاها حريق القاهرة يوم 26،
ووصف المظاهرات وتحدث عن قيادة الضباط لبعضها، وتراخي الشرطة في التصدي
للمتنظاهرين، وعرض بعض التفاصيل التي توحي بوجود بعض العناصر التي ساعدت على زيادة
الإثارة وتأجيج المشاعر. وذكر أنه بعد هذه الأحداث، بدى اهتمام الأمريكان بالسيطرة
على الموقف الداخلي بالبلاد وحماية عرش الملك، فأرسلوا ضابطاً أعطى للضباط
المصريين محاضرات في كيفية السيطرة على الجماهير الثائرة، ورتبوا لابتعاث بعض
الضباط لأمريكا للندرب عملياً على طرق السيطرة على الشغب.
وصف طلعت أحداث ليلة ثورة 23 يوليو، وفرحته واستبشاره بها، وشغلته
الاضطرابات التي تلت الثورة وفي مقدمتها إضراب عمال كفر الدوار وجعلته يفكر في (وجوب إنشاء جهاز جديد بهيئة الشرطة يؤمن بالثورة وبمبادئها،
على أن ينتشر أفراد هذا الجهاز في جميع أنحاء البلاد لملاحظة الحالة والسيطرة على
تطوراتها قبل أن تصل إلى حد الصدام بين الجيش والعمال)، فاقترح الفكرة على
ياور اللواء محمد نجيب، واقترح كذلك اسم المرشح لرئاسة الجهاز المقترح، فأخذوا
بنصيحته، وصدر قرار بإنشاء إدارة المباحث العامة لتحل محل القسم المخصوص بالوزارة
والأقلام السياسية بالمحافظات، ونُقل طلعت للعمل بالإدارة الجديدة.
يتبدى بالكتاب إيمان طلعت الشديد بعبد الناصر، وولائه وإنصافه له على طول
الخط، لدرجة التصريح بأن عبد الناصر كان لا يتأخر عن تلبية احتياجات محمد نجيب
طوال فترة تحديد إقامته، وأن محمد نجيب هو نفسه السبب في الحالة المزرية التي كان
عليها محل إقامته بفيلا زينب الوكيل وما حدث لها من إهمال!، كما انحاز طلعت
بمشاعره كليةً لعبد الناصر أثناء أزمة مارس 54 الشهيرة، بل وأعرب عن فرحه عند
سماعه عن حشد رجال عبد الناصر لعمال النقل العام وتشجيعهم على الإضراب وتمنى لهم
التوفيق في ذلك!، وهذه مجرد أمثلة فقط، فعبد الناصر يظهر طوال هذه المذكرات في
صورة القديس، والكثير من الاجراءات التعسفية والمقيدة للحريات أو حتى الاجراءات
القمعية إنا يتم تهوينها والتقليل من حجمها أو تجاهل ذكرها تماماً، فالحراسات
وتصفية الاقطاع لا يصدر فيها قرار إلا بعد دراسة من لجانٍ خاصة، ويذكر أنه من
الطبيعي حدوث (بعض) الأخطاء، أما المعتقلين السياسيين، فيذكر أنه كان يتم
الافراج عنهم تباعاً بعد دراسة حالاتهم، وتجاهل ذكر ما حدث للإخوان والشيوعيين في
السجون، حتى في كارثة مثل هزيمة يونيو، فإن من يتحمل مسئوليتها هم القادة
العسكريين الذين حذرهم عبد الناصر مسبقاً بأن الحرب ستقع يوم 5 يونيو، لا عبد
الناصر الذي على الأقل يتحمل المسئولية السياسية عن وصول الأوضاع إلى حافة المعركة
دون استعداد كاف، وعلى النقيض من ذلك، ينال السادات وعهده نصيبه من اللمز
والانتقاد.
وقد كنت أتوقع أن أجد الكثير من التفاصيل لفترة عمله خلال العهد الناصري،
لكني وجدت أن ما ذكره من تفاصيل لسنوات خدمته برتبته الصغيرة في العهد الملكي فاق
ما ذكره من تفاصيل وهو يترقى وصولاً لرتبة اللواء في العهد الناصري، ولا نجد من
التفاصيل الجنائية سوى أمثلة قليلة جداً أهمها دوره في القبض على (السفاح) الذي
استوحى محفوظ من قصته رواية (اللص والكلاب)، وقد تحدث طلعت عن قضية تنظيم 65 والتي
قُدمت حينها كنجاح من المباحث الجنائية العسكرية مقابل عدم يقظة من المباحث
العامة، في حين يدافع طلعت عن المباحث العامة ذاكراً أن مصادر المباحث كانت قد
وضعت يدها بالفعل على أول الخيوط للتنظيم، ولكن المصادر الأخرى تحدثنا عن وجود
تنظيم بالفعل، لكن تنفي أن هذا التنظيم هدف لاغتيال عبد الناصر من الأساس. وعلى
العموم، فإن طلعت في مذكراته يتناول الإخوان بالانتقادات منذ معرفته بهم من قبل
الثورة، وينعى عليهم دورهم في اغتيال عدد من الساسة كأحمد ماهر والنقراشي، ويُعرب
عن اختلافه الفكري معهم، وهو أمرٌ متوقع ومتفهم من ضابط أمن وصل لهذا المنصب.
وينفرد طلعت بذكر تفاصيل جنازة عبد الناصر لدوره في تأمينها، كما يتحدث في
مواضع مختلفة عن تأمين زيارات عبد الناصر الخارجية، أو تأمين الوفود العربية
والأجنبية الزائرة خلال المؤتمرات، كما يخبرنا بأوامره – التي أصدرها على مسئوليته
الشخصية - لقوات الشرطة بعدم الاحتكاك بالمظاهرات
الشعبية في 9 و 10 يونيو، كما ينفرد بالحديث عن كواليس وصول جثمان فاروق لمصر
واختياره لمكان الدفن الأول بجوار إبراهيم باشا بحضور الأميرتين فوزية وفائقة، قبل
أن ينقل الجثمان في عهد السادات ليُدفن في جامع الرفاعي، لكن طلعت مع ذلك لا
يعطينا تفاصيل أكثر عن بعض اللحظات المهمة، مثل تصرف قوات الشرطة مع مظاهرات
الطلبة في 68 عقب صدور أحكام ضباط الطيران، والتي تجمع المصادر على أنها ووجهت
بقسوة، وهو ما لا يظهر في شهادة طلعت، بل على العكس تماماً، يدعي إصدار الأوامر
بالتعامل مع المظاهرات باللين وعدم اللجوء للعنف، وأن شعراوي جمعة كان سيقدم
استقالته بسبب مخالفة مأمور حلوان للتعليمات وإطلاقه أعيرة نارية في الهواء أصابت
أحد المتظاهرين وقتلته، وكلها تصريحات أشبه بتصريحات المركز القومي لحقوق الإنسان!
ومن الشخصيات العديدة التي ذكرها طلعت في مذكراته، نتوقف عند شخصية حسن
التهامي، وقد تواترت الشهادات المختلفة وأجمعت على غرابة أطواره وأفكاره وخصوصاً
في عهد السادات، ويذكر طلعت بعض الأقوال والمواقف التي صدرت من التهامي وجعلت طلعت
يتلقى آراؤه بحذر وحيطة، إلى أن أخبره التهامي مرة بأنه إذا أقدم على أي عمل ولو كان إزهاق روح إنسان، فإنه لا
يفعله بأمره وإنما بأمر الله، فسأله
طلعت عما إذا كان هو سيدنا الخضر، فأجابه
التهامي بالإيجاب، وعندها أدرك طلعت أنه وصل مع ذلك الرجل لنهاية المطاف،
وأنه لا ينبغي أن يأخذ أي حديث له مأخذ الجد. وجدير بالذكر أن التهامي كان اختيار
السادات ليكون أول من يتحاور مع العدو الإسرائيلي كقناة خلفية قبل المضي في عملية
السلام، وكان لقائه مع موشى ديان!
وفي حديثه عن مرحلة هزيمة 67 ثم حرب الاستنزاف، استوقفني موقفان أحببت أن
أنقلهما لأنهما يحملان بعض الكرامات من الله عز وجل ولطفه بنا، فقد ذكر أن (إادارة
الشؤون العامة بالقوات المسلحة كانت قد وزعت على الضباط والجنود آية الكرسي مكتوبة
على بطاقات صغيرة ليحتفظوا بها في جيوبهم تبركاً وتيمناً، وعقب انتهاء احدى
الغارات وكانت غارة عنيفة خرج ضابط مصري ومعه الخبير الروسي من المخبأ، فطلب منه
الضابط الروسي أن يعطيه بطاقة مشابهة للبطاقة التي يحملها. وعندما سأله الضابط
المصري عن السبب وقد أخذه العجب أجاب الروسي بانه قد أصبح مقتنعاً بأن المصريين
ليسوا الذين يتولون الدفاع عن بلادهم بل لا بد أن هناك قوة أخرى خفية أكبر وأعظم
تدافع عن مصر، وعلل ذلك قائلا أنه كان يخرج من المخبأ عقب كل غارة وهو يتوقع رؤية
قدراً هائلاً من التدمير في المعدات ومن الخسائر في الأرواح ولكن لدهشته كان يرى أن
معظم القنابل قد سقطت على أماكن خالية وأن المعدات التي تدمر لا تكاد تذكر وأن
الاصابات البشرية طفيفة ولا تعادل اطلاقاً ضراوة الغارات وحجم المتفجرات التي تلقيها
الطائرات ولذلك فإنه قرر الاحتفاظ بواحدة من هذه البطاقات!)
أما الموقف الثاني، فقد ذكر أن (العدو كان يركز
غاراته لتدمير الأهداف الحيوية كالمصانع ومحطات الكهرباء والكبارى والسدود، ولخشيته
من الانقضاض على السدود والقناطر مباشرة لكثافة الدفاع الجوي عنها، اخترع العدو
طريقة جديدة لمهاجمتها وذلك بالقاء ألغام عائمة في مجرى النيل أعلى القناطر
ليجرفها التيار فتصطدم بها مدمرة اياها لتغرق الوادي بما فيه من سكان وزروع .
وفي
احدى الليالي أُبلغ طلعت بحدوث انفجارات كبيرة في مجرى النيل أعلى قناطر نجع حمادي،
وبالبحث اتضح أن ألغاماً اسرائيلية عائمة قد اصطدمت بكتلة من نبات ورد النيل الذي
كان يطفو على وجه الماء فانفجرت، وحالت رعاية الله وعنايته دون اتمام الجريمة
الاسرائيلية الآثمة باغراق البلاد وتدمير القناطر. وأحال الله ورد النيل من نقمة
تعوق الملاحة وتمتص كميات كبيرة من المياه الى نعمة تحمي البلاد والعباد!).
وعند الحديث عن المرحلة الساداتية، يذكر ما لمسه من تغير في السياسات
والخروج عما رآه خط عبد الناصر وامتعاضه من ذلك، ثم ينتقل بنا لأحداث مايو 71،
فيبدأ بذكر مكالمة من شعراوي جمعة له يوم 13 مايو يخبره فيها عن اجتماعات للسادات
بعدد من المسئولين وأنه الآن مجتمع بمحافظ الاسكندرية ممدوح سالم، وأنه – شعراوي-
ضاق ذرعاً بهذه السياسية وأنه سيقدم استقالته، وطلب من طلعت إعدام تسجيلات المراقبة
التليفونية، ويذكر طلعت أن السادات في نفس اليوم كان قد أصدر قراراً بإلغاء
المراقبة التليفونية أيضاً، وعلى الرغم من ذلك، اُعتقل طلعت واُتهم طلعت بأنه تعمد
إعدام التسجيلات حتى لا تصل لرئيس الجمهورية فيجد فيها ما يدين (المتآمرين) عليه،
في حين يذكر طلعت أن نسخة من التسجيلات كانت تُرسل أصلاً إلى رئاسة الجمهورية منذ
عهد عبد الناصر واستمراراً في عهد السادات، وبهذا فإن هذا الاتهام لا محل له، وهذه
المعلومة ينفرد بها طلعت، لكن على كل حال، لم يطل المقام بطلعت في السجن فبُريء
وأخرج منه في أغسطس 71.
ومع تفهمنا لكونه موتوراً من السادات لما فعله معه، فإنه حينما ينتقد
السادات ويلمزه يشتط في ذلك أحياناً بصور قد تدعو للسخرية، فمثلاً عندما تحدث عن
الاستفتاء على اختيار السادات للرئاسة، قال: " ولما كانت الاستفتاءات تسمح
بأن يدلى الناخب بصوته فى أى مركز انتخابي ولا يلزم أن يكون ذلك هو الدائرة المقيد
بجداول انتخابها، فقد كانت إخطارات بعض اللجان الانتخابية تصيبنا بالذهول (!!)
وخرجت بنتيجة هى أن هذه الاستفتاءات ليست الوسيلة الأمثل لاستطلاع اتجاه الشعب
ورغباته الحقيقية."، وهنا لا نملك إلا أن نضحك ونحن نصدر بعض
الأصوات الاعتراضية، ونسأله: وماذا عن الاستفتاءات التي جرت في عهد عبد الناصر؟!
وعلى كلٍ، فإن لهذه المذكرات أهميتها البالغة نظراُ لموقع صاحبها ورتبته
ودوره المؤسس في هيكلة الداخلية بصورتها الحديثة بعد ثورة 52، وعلى ما يتبدى من
روح صاحبها من هدوءٍ وإتزانٍ ووطنية وقدرٍ عميق من التدين، فإننا في الوقت ذاته لن
نكون مخطئين إذا قلنا بأنه أحد الآباء المؤسسين والمربين للأجيال التي تلته من
الشرطة، وأن قدراً كبيراً مما أرساه –أو شارك في إرسائه – من نظم، هي الأسس التي
تسير عليها الداخلية حتى اليوم.