الجمعة، 29 يناير 2010

مدينة البهائم

مدينة البهائم هو عنوان رواية للكاتبة التشيلية إيزابيل الليندى, و ليس الغرض من هذا المقال هو عرض هذه الرواية لأنى أصلاً لم أقرأها بعد, و لكن الغرض هو مناقشة هذا المصطلح.
بدايةً-و قد يكون هذا من الغريب- فإن أول مرة انتبهت فيها لهذا المصطلح كان لدى مشاهدتى لفيلم السفارة فى العمارة, فى أحد المشاهد يحتفل عادل إمام بعيد ميلاده فيفاجأ بأسرة صديقته اليسارية تحضر لتهنئته و لتحتفل معه, و يهديه إبن عمها كتاباً هدية, فيقول له:ايه ده؟ فيجيب:مدينة البهائم, فيرد قائلاً:شكراً يا حبيبى كلك ذوق, و يلقى بالكتاب من النافذة!!
المهم, صرت أستخدم هذا المصطلح كلما وجدت أى من أصدقائى أو معارفى يتصرف تصرفاً يتسم بالغباء الشديد, أو كلما وجدت نفسى وسط مجموعة من البشر يتصرفون بغوغائية و بطريقة لا تستحق إلا أن توصف بأقل من كلمة (بهيمية).
كلما كنت أستخدم هذا المصطلح, كان أصدقائى يضحكون و يؤكدون على كلامى, ما أكثر المواقف الغبية التى كنت أراها فأعلق قائلاً بكل أسى:مدينة البهائم, فأجد من أمامى يضحك و يقول:آه و الله عندك حق, ثم يبدأ بدوره فى استخدام نفس المصطلح فى مواقف شبيهة, و ما أكثرها!!
المشكلة أن الأحداث و المواقف التى تستدعى استخدام هذا المصطلح قد باتت من الكثرة بحيث صار لدى المرء شعور قوى بأنه يعيش فى مدينة بهائم كبيرة, و أن من حوله بهائم يرتدون أقنعة بشرية, و بعضهم قد تمكنت منهم البهيمية بحيث تكاد ترى لهم ذيولاً, و تسمع لهم خواراً و(تنعيراً).
نعم, يدخل على أحدهم مكتبى فلا أسمعه يتكلم, بل أسمع له صوتاً كالبقرة(مووووووووه), فلا تملك إلا أن تصرفه بسرعة كى ترتاح من غبائه و حتى لا يضيع لك وقتك و يستهلك أعصابك.
و كى نشعر بمدى الكارثة التى نعيشها, فلنعرض بعض الأمثلة التى نعيشها كل يوم:
-عندما تركب مواصلة عاملة و تجد بجوارك من يشغل أغنية على تليفونه المحمول-و يا سلام لو كان من التليفونات الصينى ذات الصوت العالى-و تجده يشغل أغنية من أغانى طارق الشيخ أو بعرور, و يُسمع جميع الركاب رغماً عنهم, و عندما تطلب منه أن يخفض الصوت-لا أن يوقف الأغنية-ينظر لك و يسألك بغباء:هو كدة الصوت عالى؟!!
إذا مررت بهذا الموقف, فأنت فى مدينة البهائم.
-عندما تجلس فى مكان مغلق و تجد لافتة على الحائط مكتوب عليها (ممنوع التدخين), ثم تنظر يميناً و يساراً و تجد الكل يدخن بلا اكتراث, و اذا طلبت منهم بحزم أن يمتنعوا عن التدخين لأنه يضايقك و لأن هذا سلوك غير متحضر, تجد من يطفىء السيجارة و هو متضرر, آخر لا يتحرك إلا بعد شجار, و آخر يجادلك و يقول :إذا كان من حقك أن تشم هواءً نقياً فمن حقى أن أدخن!!
إذا مررت بهذا الموقف, فأنت فى مدينة البهائم.
-عندما تسير فى الشارع و تسمع ألفاظاً يندى لها الجبين, تجد أناساً مزاحهم الوحيد هو قلة الأدب و الشتائم, أما شجارهم فهو الضرب و سب الدين, و ما أكثر هذا و ما أكثر ذاك, من أقل شىء.
أنت ما زلت فى مدينة البهائم.
-عندما تُعرَض عليك تقارير أو بيانات كتبها شباب من جيلك, أو حتى أفراد أكبر منك, و تجدهم يخطئون فى التهجئة-ناهيك عن الأخطاء النحوية -و عندما تتناقش مع شاب و تجد معلوماته الجغرافية و التاريخية و السياسية و اللغوية و حتى الحسابية تحت مستوى الصفر, و لا أتكلم عن معلومات متخصصة لكن فقط ما تم دراسته فى المدرسة.
إذا إفتقدت كل هذا و لم تجد فى رأس محدثك إلا كرة قدم كبيرة مع كمية كبيرة من الأغانى و الكليبات و الأفلام, فتذكر أنك ما زلت فى مدينة البهائم.
-عندما يُحاكم قاضيان محترمان مثل المستشار مكى و المستشار البسطاويسى فى مايو 2006, و يتم ضرب الناس فى المظاهرات, و فى الوقت ذاته تجد شباب و فتيات يتظاهرون أمام محكمة أخرى من أجل المتهرب من التجنيد تامر حسنى, و يهتفون بكل حرقة: نموت نموت و يخرج تامر.
عندها إبتسم, فإنك مواطن فى مدينة البهائم.
-عندما تجد حكومتك تلصق على باب منزلك منذ ما يزيد على العشر سنوات بادج شركة الغاز, و تجد أنه لم يصل لمنزلك حتى اليوم, بينما يتم تصديره لإسرائيل.
عندما تجد حكومتك الرشيدة تنفق أموالها فى تكسير الأرصفة و إعادة تنفيذها من جديد بإرتفاعات أعلى لتعذيب كبار السن, و يتم تكسير الشوارع أكثر من مرة فى العام الواحد من أجل مرافق مختلفة بلا تنسيق أو ترتيب, فى حين تجد على أطراف محافظتك-بل و فى قلبها-من لا تصل اليه مياه الشرب أصلاً.
عندما تجد الإعلام مسيطراً على عقول شريحة كبيرة من مواطنيك, و أن أمثال عمرو أديب و مدحت شلبى و مصطفى عبده و شوبير و غيرهم هم المتحدثين الرسميين مع أنهم ليس لديهم أدنى مستوى من الشعور بالمسئولية, و لا تقدير عواقب الأمور, و يتسببون بذلك مع أقرانهم فى الجزائر فى شحن أدى لأزمة كبيرة ما زلنا نعيشها.
عندما تجد حكومتك التى تخاصم الدين و تدعى الفصل بين الدين و الدولة و تهمشه و تهمش العلماء على طول الخط, ثم تجدهم يقحمون فتوى دينية من شيخ الأزهر لدعم موقفهم البائس من مسألة الجدار العازل.
عندما تجد حكومتك تستغفلك و تستغفل الشعب بدعوى حماية الأمن القومى, و تارة تستخدم هذه الدعوى لإثبات الحق فى تشييد الجدار الفولاذى, و تارة أخرى تجد من يستمر فى التصريح بأنه لا يوجد جدار عازل من اصله, و كل ما يجرى هناك هو مجرد إنشاءات (هندسية) ضرورية(برضه للأمن القومى).
عندما تجد كل توجه البلد يصب فى خانة واحدة, و هى الانتقال من حكم الأب الى حكم الإبن, حتى لو كان ثمن ذلك تنفيذ الأجندة الأمريكية الصهيونية بشكل كامل.
عندما تجد كل هذا, فأنت بلا شك فى مدينة البهائم.
أحسب أن الأمور قد خرجت عن نطاق الغباء الفردى و التصرفات الهمجية لما هو أكثر من هذا, لكن صدقونى إنها سلسلة مرتبطة ببعضها, من أصغر مواطن إلى رأس الدولة, فالعامل المشترك هو البهيمية و الغباء و الجهل و الرعونة و عدم الإحساس بالمسئولية و تغييب العقل و تجاهل المنطق.
إنهم بكل إختصار المصريون الجدد الذين تكلمت عنهم نوارة نجم, ثم تكلم عنهم الأستاذ فهمى هويدى.
هؤلاء المصريون الجدد, أصنفهم إلى غافلين, و مغفلين, و مستغفلين.
الغافلون هم مصريون لم يفقدوا معدنهم الأصيل, لكنهم يتأثرون بكل ما يجرى حولهم من أحداث و من توجيه إعلامى يصب فى خدمة مخططات الحكومة, لكنهم سرعان ما يعودون لرشدهم و صوابهم إذا أعطوا لعقولهم الفرصة للتفكير, و إذا وجدوا من يأخذ بأياديهم للحق و الصواب و يزيل من على أعينهم الغشاوة, و هؤلاء ليس عددهم بالقليل, إنهم فقط يحتاجون لفرصة و لتنقية الأجواء المسمومة التى يعيشون فيها.
و المغفلون هم الذين يسلمون عقولهم بالكامل لمن يملأها بالقاذورات, إنهم من لا يتركون لعقولهم فرصة للتفكير و ينساقون كالقطيع وراء أى بريق, و حتى إذا حاولت إقناعهم بالمنطق و بالأدلة فإنهم لا يتركون لك الفرصة لإقناعهم, فهم قد أراحوا عقولهم من التفكير و كفاهم القناعات الخاطئة التى ثبتت فى عقولهم و تحركهم بكل حماس و غوغائية.
أما المستغفلين فهم الذين يستغفلونا و يريدون تحريكنا كالدمى أو كأحجار على رقعة الشطرنج, يستخدمون الإعلام لغسل العقول و توجيه الناس لخدمة مخططاتهم و لتعمية الأنظار عن نواياهم الحقيقية, و همهم الرئيس هو مصلحتهم أما مصلحة البلد و مصالح الناس فتأتى فى مرتبة متأخرة, إن كان لها مكان أصلاً.
و لا أريد لكل النماذج السلبية التى عرضتها فى السابق أن يساء فهم كلامى, فأولاً: مصطلح البهائم ليس الغرض منه السب بطبيعة الحال, لا أستخدمه بالمعنى العامى الدارج, و لكنى أعنى به التصرف بغباء و بشكل غير متحضر أو مسئول, بشكل بهيمى, بشكل يلغى العقل يصبح معه الإنسان فى منزلة أدنى-و ليست مساوية حتى-للحيوان البهيم.
و ثانياً: ليس الغرض أن نقسم المجتمع الى مصريين جدد و غير جدد-أو قدامى كما رأيت فى إحدى مجموعات الفيس بوك-فالأمر له أبعاد سأحاول توضيحها:
فمن طبيعة الحال أن يتمايز الناس عن بعضهم بسبب تنوعهم البشرى, فهناك التمايز الجنسى, و التمايز العرقى, و التمايز المهنى, و التمايز الاجتماعى, و التمايز الأيديولوجى....الخ
يحدث هذا التمايز بسبب الاختلاف و التنوع, فنحن ذكور و إناث, و نحن عرب و عجم و بيض و سود, و نحن أطباء و عمال و مهندسون و جنود و رؤساء مجالس ادارة, و نحن فقراء و أغنياء و طبقة وسطى, و نحن متدينون و علمانيون و يساريون و إشتراكيون و ليبرليون...الخ.
و كل هذا التنوع يصب فى خدمة البشرية لأنه تعبير عن التكامل البشرى, فكل منا يحتاج للآخر لأن كل منا يتميز عن الآخر بشىء يفتقده هو, و بذلك تكتمل الصورة, و حتى فى الاختلافات الفكرية فإن التنوع مفيد و مثرى لهؤلاء الذين يقدرون قيمة الاختلاف و عندهم القدرة على الاستفادة من الآخر حتى لو اختلف معه فى الرؤى, إنه سيتسفيد من المساحة المشتركة إن وجدت, أو يعالج بعض القصور فى فكره إن وجد بعض الحق لدى غيره.
و أسوأ شىء هو الإعراض و صم الآذان و رفض الآخر و كيل الاتهامات و الإنعزال فى نهاية المطاف, أسوأ شىء أن نصل لمرحلة ننقسم فيها الى معسكرين مثلاً, معسكر نسميه المصريين الجدد نسمه بكل السلبيات التى نراها, بينما ينظر الطرف الآخر لنا على أننا كائنات من العصر الحجرى خرجت من المتحف, ثم ينزع كل طرف عن الآخر مصريته.
فأنا و غيرى نجد من يتهمنا بعدم الانتماء!!لماذا؟ بسبب رفضنا للجدار العازل الذى يبنى لحماية مصر من(إرهاب حماس و تهريب الأسلحة و المخدرات) , و كذلك لرفضنا لما سبق مباراة الجزائر و تبعها من سفه, و لرفضنا الكفر بالعروبة و لرفضنا أن ننسى من الأخ(فلسطين و الجزائر) و من العدو (لابد أن أذكر هنا أن العدو هو إسرائيل لأن هناك من نسى ذلك).
أمامنا طريقتين فى التعامل مع الأمور, الطريقة الأولى أن تؤمن أنك تعيش فى مدينة البهائم, و توقن بأن كل من حولك هو من (البهائم) لكونه يختلف معك, و تنظر للآخر نظرة إستعلاء, و تنعزل عن المجتمع , و يتعاظم إحساسك بالغربة و تعيش فى برج عاجى تقضى وقتك فى الحديث مع أمثالك و أقرانك من الحكماء وحيدى عصرهم و أوانهم, تمضون أوقاتكم فى الجدل و السفسطة إلى أن تنسوا من أين جئتم, و إلى أين أنتم ذاهبون.
و الطريقة الثانية هى أن تدرك أنك أيضاً تعيش فى مدينة البهائم, لكن تعتبر نفسك طبيباً بيطرياً مهمته علاج هذه البهائم, لا تنظر لها أبداً بنظرة إستعلاء بل بنظرة رثاء, إنهم يستحقون منك أن تأخذ بأياديهم و تفتح أعينهم و تزيل عنها الغشاوة, إنهم ليسوا بأغراب عنك بل إن منهم بعض زملائك و معارفك و اصدقائك, بل و أهلك أيها المغرور.
إنك لم تأت من كوكب آخر, و لو أنك تؤمن بأنك تتميز عنهم أو أن الله إصطفاك بعلم حباك إياه أو ثقافة تميزت بها فإن واجبك أن تزكى عن هذا العلم, و زكاته نشره, و إلا كنت كاتماً للعلم, لا تيأس أو تفقد الأمل فى التغيير فإن اليأس كفر فى ديننا.
كل منا له دائرة يستطيع أن يؤثر فيها, و يختلف قطر هذه الدائرة من أحدنا للآخر حسب ظروفه و حسب علمه و مواهبه و قدراته على التأثير و الإقناع, فإما أن تمارس دورك بإيجابية, و إما أن تنحسر هذه الدائرة حتى تقتصر عليك أنت, ثم تفاجأ بأنك لم تستطع حتى أن تغير من نفسك.
إذا لم تستطع فى دائرة تأثيرك أن تساعد صديقاً على التوقف عن التدخين, أو تشجع آخر على الانتظام فى الصلاة, أو تحرك ثالث لنبذ السلبية و أن يشارك بإيجابية فى مجتمعه و يستخرج بطاقة إنتخابية مثلاً, أو تحث رابعاً على القراءة...الخ
إذا لم تفعل أى من هذا, فماذا تنتظر؟ و ماذا تريد؟ تريد فقط أن تنتقد و ترسل رسائل سلبية بدون أى فعل إيجابى واحد؟
صدقنى , ساعتها ستكون أنت بدورك عضواً فى مدينة البهائم.
لك الخيار, إنعزل عن من حولك و إغرق فى اليأس و الإحساس بالغربة و التطلع الى سراب خارجى لا تستطيع الوصول اليه, و عش حياتك فى عذاب و قلق, و لن تغير شيئاً فى النهاية.
أو تعلم أن تتعايش مع من حولك و تتكيف مع الظروف, إسخط على الواقع لكن لا يقتصر سخطك على الإنتقاد فحسب بل حاول أن يكون لك دور مهما كان صغيراً و لو كان مع شخص واحد, إجعل لك قضية و هدف و ليكن لك طموح, إذا شعرت بالغربة فتذكر قول رسولك صلى الله عليه و سلم(طوبى للغرباء) لكن سر على هديه فإنه عاش حياته هادياً و لم يعشها هارباً.
و نسأل الله الهداية لنا و للجميع, و نسأل الله أن ننسى هذه الكلمة :مدينة البهائم.