ربما يُعد اسم مالك بن نبى غريباً على أذهان البعض, و ربما ظن من يقرأ اسمه لأول مرة أنه اسم لفقيه مسلم عاش فى القرون الوسطى مثلاً, فإذا كان هذا حالك, فاعلم أن مالكاً هو فيلسوف جزائرى مسلم عاش فى القرن العشرين, و توفى فى السبيعينيات بعد أن ترك تراثاً فكرياً عظيماً, و عدد من النظريات أهمها نظرية القابلية للإستعمار, و التى سنحاول مناقشتها هنا بشىء من التفصيل.
فى العديد من الكتب التى قرأتها,وجدت من كتابها اشارات للمفكر الراحل, و ذكر موجز و عابر لبعض آرائه, و لكن لم يقع فى يدى أحد كتبه كى أتعرف على فكره بشىء من التفصيل, و لم يحدث هذا الا مؤخراً و الفضل لمدونة عالم الكتب التى تحتوى على العديد من كتبه, و كان من حظى أن حملت كتاب شروط النهضة الذى جذبنى عنوانه, و كان -لحظى أيضاً-هو أهم كتبه , و الذى ناقش فيه النظرية سالفة الذكر.
فى هذا الكتاب الذى كُتب فى الأربيعينيات, حاول المفكر الراحل أن يعرض للمسلمين الشروط التى يراها واجبة لنهضة الأمة, و ذلك فى وقت كان العالم الإسلامى كله تقريباً يرزح تحت نير الإستعمار, و تعرض ابن نبى الى ذكر التجربة الجزائرية التى كان أساسها اتباع الآية الكريمة ((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) , و التى آمن أنها هى السبيل الوحيد للخلاص.
تكلم الكاتب عن الحضارة, و الفرق بين الحضارة الغربية المادية, و الحضارة الإسلامية القائمة على الروح و العقل, و أن عناصر أى حضارة هى معادلة=انسان+تراب(مادة)+وقت.
و كان أهم ما عرضه المفكر الراحل فى كتابه هو نظرية القابلية للإستعمار, و نستطيع أن نلخص رأيه فى هذا السطر(لكى لا نكون مستعمرين,يجب أن نتحرر من القابلية للإستعمار).
القابلية للإستعمار بكل بساطة, هى حالة نفسية تمر بها الشعوب المُستعمَرة, ناتجة من الهزيمة النفسية و المعنوية من المُستعمِر الذى لا يتوانى عن نشر الروح الانهزامية بين أفراد الشعوب التى يستعمرها, و يعمل على تزييف وعيهم و إقناعهم فى اللاوعى لديهم بأنه لا سبيل لتطورهم و نهوضهم إلا إذا إتبعوا سبيله فى الحياة, و بهذه الطريقة تظل الشعوب المُستعمَرة فى حالة تبعية دائمة للإستعماريين, لأن الذل و الهوان و مسخ الهوية الوطنية و الضعف و الإستكانة و اليأس كلها قيود يقيدنا بها المُستعمر حتى لا ننهض و نتحرر.
و من وجهة نظر مالك بن نبى, إن الشعوب التى تخضع للإستعمار تتحمل بعض هذه المسئولية , و تصبح شعوباً قابلة للإستعمار و تسمح لأمم أخرى أن تحتلها و تقودها و تمسخ هويتها, لأنها بكل بساطة تستسلم و تستكين , و لا تحاول أن تتعلم من الدروس, و تغير الأوضاع التى أدت بها للوصول الى هذه الحالة من الهوان.
هذا هو ملخص نظرية الكاتب, و فى رأيى أن هذا الكتاب الذى كُتب فى ألأربيعينيات فى ظل عالم مسلم خاضع لإستعمار غربى أوروبى , يظل محتفظاً بقيمته فى القرن الواحد و العشرين.
فبعض الناس ترتبط عنده كلمة الإستعمار إرتباطاً شرطياً بحقبة زمنية معينة, تنتهى بعقد الخمسينيات الذى شهد تحرر معظم الدول المُستعمرة فى آسيا و أفريقيا, كما يرتبط اللفظ فى ذهنه بأشخاص كان لهم دورهم فى قيادة حركات التحرر فى بلادهم كغاندى فى الهند مثلاً, أو بمن تخطوا حدود بلادهم و ساندوا حركات التحرر فى العالم الثالث كله كجمال عبد الناصر.
و يكون واهماً من يظن أن الإستعمار الذى تكرر كثيراً فى خطب عبد الناصر و أغانى عبد الحليم قد انتهى و زال, ربما رحل الإستعمار بجنوده و جيوشه, و لكنه ترك وراؤه جيوشاً من أنواعٍ أخرى, دعاة على أبواب جهنم, و هم من جلدتنا و يتكلمون بألسنتنا.
فالإستعمار لم يرحل بجيشه من أرض إلا بعد أن تأكد من أنه ترك فى مواقع السلطة و التوجيه مسوخاً لا حظ لهم من الدين أو الوطنية, يقودون بلدانهم بالحديد و النار لتنفيذ مخططات و أجندات غربية, فمن حكام يفتحون أبواب بلدانهم لجيوش من المنصرين, و فى الوقت ذاته يقمعون كل من يحاول إحياء الشريعة و نشر الصحة الإسلامية, الى حكام و مثقفين يسيرون فى ركاب الغرب, و يتخذون من العلمانية ديناً, و من الإسلام عدواً, حتى صار همهم الأكبر هو محاربة و محو كل ما يمت للإسلام و الهوية الإسلامية بصلة, و لإن كان أتاتورك -الذى قيل عنه أنه بعد أن كانت تركيا فى مقدمة الشرق جعلها فى مؤخرة الغرب-أقول أنه لإن كان من أوائل من نفذ أجندة الإستعمار بحرفية تامة,بل و حتى بأكثر مما حلم به الإستعمار, فإنه على الأقل كان واضحاً, و ليس كحكام آخرين لبسوا ثياب المؤمنين و ادعوا أنهم غيورين على الإسلام, و نصت دساتير بلادهم على أن الإسلام المصدر الرئيس للتشريع, بينما القول موسى و العمل فرعون.
نعم رحل الإستعمار بجنوده, و لكن بعد أن جند عملاءً له على أراضينا, من حكام,و مسئولين فى دوائر صنع القرار,و مفكرين, و إعلاميين, بل و فى قلب من يضعون مناهج التعليم, كل هذا لكى تظل شعوبنا على حالها,فى حالة إستعمار, فتبقى خاضعة, خانعة, تابعة,تُسرق منها ثرواتها و هى تصفق بل و تشكر السارق, و تلتمس منه الحماية و تطلب منه الرضا, بل و تستعديه على أخوتها.
نحن ما زلنا نعيش فى حقبة الإستعمار يا سادة, ربما قد نسى البعض أن هناك بلد اسمه فلسطين ما زال مستعمراً بأكمله, و أننا نتفاوض على شبر و ننسى أن بقية الأرض ملكُ لنا, ربما بعد بضعة سنوات يتعود بعضنا على الوضع الراهن فى أفغانستان و العراق, و ننسى أن الكفاح المسلح الذى أخرج الاستعمار من بلداننا فى الخمسينات و الستينات هو السبيل الوحيد لإنهاء هذا الوضع.
ما زلنا نعيش فى حقبة الإستعمار, طالما أننا نرزح تحت قيود السلبية و الهوان, و نترك أمورنا رهن بمشيئة هذا أو ذاك, و نصفق لأبنائنا الذين يحسنون العد و وصف الألوان و الأشياء بالإنجليزية, و عندما نسألهم عن معانيها بالعربية لا يستطيعون, نصفق لهم بعد أن مسخنا هويتهم!!!
ما زلنا نعيش فى حقبة الإستعمار طالما أن مناهج الدين تُعدل, و التاريخ يُزيف, و المصلح مطرود, و المفسد معبود.
ما زلنا نعيش فى حقبة الإستعمار طالما أن الوهن فى قلوبنا قد ثبت, و أن شعلة الجهاد قد خبت.
لكن مع كل ما نعيش فيه من سلبيات, يجب ألا نيأس, و نؤمن بأن المستقبل لهذا الدين.
و أنه لا سبيل لتغيير أحوالنا إلا بتغيير ما بأنفسنا, يجب أن نتخلص من القابلية للإستعمار.
و يمكن للقارىء مطالعة الكتاب المذكور و غيره من كتب المفكر الراحل من مدونة عالم الكتب
و للمزيد عن المفكر الراحل, يمكن زيارة هذه المدونة التى تحمل اسمه
أسأل الله أن ينفعنا بما علمنا,و أن يعيننا على تغيير أحوالنا و ما بأنفسنا الى الأفضل, و أن يستخدمنا و لا يستبدلنا, و أن نكون جيل النصر المنشود, إنه ولى ذلك و القادر عليه.
و إلى لقاء آخر مع شخصية أخرى بإذن الله.