عندما أفكر فى العلماء و المفكرين و الأشخاص الذين أثروا فى شخصيتى و عقلى و تفكيرى,فإن الشيخ محمد الغزالى-رحمه الله-يأتى فى مقدمة هؤلاء.
و إن كانت العملية التعليمية تتطلب علاقة بين مدرس و طالب, أو شيخ و تلميذه, فإن الشيخ محمد الغزالى هو شيخى الذى لم أره و لم يرنى, و العلاقة التى ربطت بينى و بينه هى كتبه العديدة التى تزين مكتبتى.
منذ طفولتى, و أنا أسمع اسم الشيخ الغزالى يتردد فى بيتنا, و خصوصاً من جدتى رحمها الله, و لا يقترن الذكر الا بكل تقدير و احترام, و ما زلت أذكر مشهد من نشرة الأخبار التى أذاعت نبأ وفاة الشيخ العظيم فى السعودية, بعد حضوره مهرجان الجنادرية الثقافى هناك, فى عام 96 على ما أذكر, و كم حزن عليه الناس وقتئذ.
كنت ما زلت صغيراً-ربما فى المرحلة الاعدادية-و لكن لفت نظرى ان مكتبتنا تحتوى على العديد من كتبه,لا أذكر ما أول كتاب قرأته له, لكنى ادرك جيداً أنى قد شغفت بأسلوب الشيخ فى كتابته, فهو ليس شيخاً تقليدياً, و لا أذكر أنى قرأت له كتاباً مخصصاً فى العبادات أو العقيدة مثلاً, لأن معظم كتاباته كانت تصب فى خانة الإصلاح:إصلاح ما أصاب الفكر الإسلامى من جمود, و مناقشة القضايا الفقهية و حاضر مصر و العالم الإسلامى فى زمن إجتمع فيه الهجوم على الإسلام مقترناً بحالة تردى و هوان كبيرة للمسلمين.
أول ما أسرنى فى فكر الشيخ الغزالى, هو اعتدال الرجل و وسطيته , و فقهه و ذكاؤه, و قوته و شجاعته, و بساطته و بلاغته, و يكفى أن ترى صورة عادية له لكى تشعر بأن هذه الصفات مجتمعة به, فالذكاء يلمع فى عينيه, و القوة ظاهرة فى قسماته, و البساطة و عدم التكلف باديان عليه.
يكتب الشيخ الغزالى كتبه عادة فى صورة مقالات مجتمعة , تمتاز بالبلاغة و الايجاز, فلا تمل و أنت تقرأ, بل تلتهم الكتاب فى تشوق و أنت مأخوذ بكم المعلومات التى يضمنها الكاتب ثنايا الحديث, فمن رأى فقيه قديم هنا, الى شرح حديث هناك, الى فهم جديد لمبدأ قرآنى و كأنك تقرأ الآية لأول مرة, و فى نهاية الكتاب دعوة للمسلمين و حث لهم على الأخذ بأحد شروط النهضة, أو التخلى عن سبب من أسباب الخذلان.
من أهم كتب الشيخ الغزالى كتاب قذائف الحق, و هو كتاب ممنوع فى مصر-بل فى أغلب البلدان العربية- لخطورة المعلومات التى ضمنها, و هو قذائف بالفعل, و أذكر انى قرأته و عمرى حوالى 15 سنة, و كم تأثرت وقتها لدى قراءتى للتقرير الرهيب الذى تضمنه الكتاب عن مخطط الكنيسة القبطية فى مصر, و أيضاً التقرير الذى تضمن كيفية القضاء على دعوة الاخوان المسلمين فى العهد الناصرى من خلال خطط شيطانية تؤدى فى النهاية لإفساد وعى عموم المسلمين فى مصر و تجهيلهم بدينهم على المدى البعيد, و كل هذا للقضاء على فكر معارض بعينه!!!و يمكن للقارىء ببحث بسيط على الانترنت الحصول على نسخة من الكتاب ليقرأ بنفسه .
أزعم أنى قبل أن أقرأ للشيخ الغزالى كنت ماضياً فى طريق التعصب للرأى, و عدم قبول الرأى الآخر, و ربما لو لم أقرأ لهذا الرجل و الذين على شاكلته لتحولت الى (قفل) كبير, و لكن الشيخ الذى أمضى عمره فى معارك فكرية مع أناس يختلفون معه فى الفكر الى أقصى درجة, لم يكن أبداَ كذلك, على العكس, كان يفند آراء الخصوم بشكل علمى ذكى فقهى دقيق, و كان أكثر ما يضايقه هو الأغبياء و المتنطعين و المتشددين, لأنهم ربما كانوا أضر على الدعوة و الدين من هؤلاء الذين يهاجمونه من المعسكرات الأخرى, و ما زال الشيخ الغزالى يلاقى هجوماَ -حتى بعد مماته-من هؤلاء و هؤلاء.
كان الشيخ مهموماً بحال الأمة كلها, و كان دائم التحذير فى كتاباته من الهجمات التى يتعرض لها ديننا و أمتنا على كل الجبهات,سواء من الداخل أو الخارج, فمن متشددين و متنطعين محسوبين على الدعوة و هم ينفرون الناس عن الإسلام بقلة فقههم و ضيق آفاقهم, الى مسلمين بالإسم و محل الميلاد فقط, لكن عقولهم سارت فى ركاب الغرب و تحولوا الى أبواق تروج لبضاعته, أو أدوات تنفذ مشاريعه, و هم إما مفكرين و مثقفين, أو حكام و مسئولين.
هذا عن الجبهة الداخلية, أما على الجبهة الخارجية, فكان دائم التحذير من مخططات الصليبية العالمية و الاستعمار الغربى الصليبى و ربيبته الدولة العبرية, و جيوش المنصرين الذين يعملون فى الدول الإسلامية, و المؤلفات التى يصدرها المستشرقين و التى يدسون فيها سموماً و أكاذيب لتشويه حقيقة الدين و التاريخ الاسلامى.
و اذا كان الشيخ قد دأب على الكتابة عن كل هذه الهجمات و ابرازها, فإنه كان يفعل هذا لإيقاظ الناس و توعيتهم بما يدبر لهم و لدينهم, و رغم أنه عاش فى زمن شهد تراجعاً عاماً للمسلمين فى كافة المجالات, فإنه كان دائم الأمل و التفاؤل, و كان يدرك جيداً أن المستقبل لهذا الدين.
ترك الشيخ الغزالى تراثاً فكرياً عظيماً, أكثر من خمسين كتاباً, اذا بدأت بقراءة كتاب له ستدمن أسلوبه و ستنتقل الى غيره,و من اهم كتبه برأيى:
قذائف الحق.
قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة و القيم الوافدة و الذى ناقش فيه قضايا المرأة المسلمة من منظور معتدل مفنداً حجج المضيقين عليها, و واقفاُ بحزم فى وجه المتحررين.
السنة النبوية بين أهل الفقه و أهل الحديث, و الذى طالب فيه بأن يكون من يتصدى لشرح السنة النبوية فقيهاً, و أن يعتنى بالمتون بجوار الأسانيد.
من هنا نعلم, و هو رد راق على كتاب (من هنا نبدأ)للمفكر الراحل خالد مخمد خالد, و الذى كان قد شط فيه قليلا عن الطريق, و لكن الشيخ الغزالى فند آراء صديقه خالد محمد خالد بأسلوب علمى راق مهذب كان من أثره عودة الكاتب الكبير الى الحق.
دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين
معركة المصحف
دفاع عن العقيدة و الشريعة ضد مطاعن المستشرقين
صيحة تحذير من دعاة التنصير
مستقبل الاسلام خارج أرضه
و غيرهم الكثير و الكثير من الكتب و المقالات
مهما كتبت عن شيخى, فلن أوفيه حقه, رحمه الله, و أسأل الله أن ينفعنا جميعا بعلمه,و أن يجعله فى ميزان حسناته, و أن يكون فكره سبباً فى تنوير بصيرة الشباب, و نبراساً لمن سيكون على عاتقهم اصلاح شأن هذه الأمة,اللهم آمين.
هناك 3 تعليقات:
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
بارك الله فيك بكل خير اخى الكريم محمد
عشيخنا الغزالى رحمه الله هو استاذ فريد من نوعه
استاذ بمعنى الكلمة استاذ تربى فى مدرسة الاسلام الحق على يد خير الخلق فنهل من مشاربه و لم يبخل على تلامذته ابدا بقليل او كثير
فى انتظار البقية ان شاء الله
اخوك باسم
مقال رائع يا محمد
هابدأ اغير منك ومن اسلوب الجميل ككاتب كده
ما شاء الله عليك
حاجة جملية جدا
و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته
أخى الحبيب باسم
جزاك الله كل الخير,و الحقيقة مثل ما قلت فى المقال,أننى مهما تكلمت عن شيخنا الراحل فلن استطيع أن أوفيه حقه,هو يستحق كتب تتحدث عنه و عن سيرته العطرة,و ما هذا المقال الا محاولة متواضعة, و عرفان شخصى بجميله على و على غيرى.
أثر فى جداً سرعة تعليقك على المقال الذى كتبته بالأمس فقط,و جزاك الله خيراً على ارساله لأسرتنا أسرة الوريقات,و يا رب بقية المحتوى يعجبك,و أسألك الدعاء لى بالإخلاص.
أختى ولاء
أن تصف ولاء الشملول مقال للعبد لله بأنه رائع,و أنه حاجة جميلة جداً, فهذه شهادة أعتز بها,لأنها شهادة من كاتبة محترفة لها باعها فى الكتابة لمجرد هاوٍ صغير,و أتمنى أن تلفتى نظرى دوماً لأى قصور فى الأسلوب بعينك الناقدة,و أنا أعلم أنك لن تجاملى فى الحق,و أتمنى أن تعجبك المقالات التالية, و جزاك الله خيراً يا أختى.
إرسال تعليق