السبت، 5 يوليو 2025

مذكرات مجدي يعقوب: جراح خارج السرب

 


سيرة غير ذاتية تجتمع فيها مفاهيم المثابرة، و(المعافرة)، والاجتهاد، والمبادرة، والجرأة، والانسانية، ممثلة في شخصية مؤثرة لا تزال تعيش في عالمنا، وجعلها الله سبباً في إنقاذ حياة الآلاف.

عرضت هذه السيرة أهم محطات حياة مجدي يعقوب من خلال الحديث المباشر معه، أو مع المحيطين به، وبدأ معه منذ نشأته إلى تخرجه من كلية طب القاهرة وتكريمه من عبد الناصر، ثم قراره السفر لبريطانيا للعمل واكتساب الخبرة العملية، وعن سبب رحيله عن مصر، ، قال يعقوب: "لقد كنَّا ندرك أن في مصر مَن ينعمون بالكرامة، ومَن حِيل بينهم وبين الكرامة، لكن عبد الناصر حاول أن يتيح التعليم للجميع، فتهاوت من جرَّاء ذلك المعايير، وإذا بـحَلِّ عبد الناصر يُجهض التميز"، ثم يضيف: "كان تعليم الطب في القاهرة رائعًا، فقوام كل دفعة من الطلبة كان ستين طالبًا فقط ولكن عبد الناصر قال إن التعليم الجامعي حق للجميع، وفتح البوابات بغتة على مصاريعها فتدفقت الجموع، وإذا بنا بعد أن كنَّا ستين طالبًا نصبح ألفًا، وإذا بالطلبة يتدلون من الأسقف يحاولون أن يتسمَّعوا إلى ما يقوله المحاضرون، فلم يبقَ للجودة والتميز من مجال".

بعد عدة سنوات من العمل في بريطانيا انتقل يعقوب لعامٍ واحد للعمل في شيكاغو، ورغم ما اكتسبه من خبرة جديدة، لكنه لم يحب النظام الصحي الأمريكي، ورأى أن النظام الصحي البريطاني الذي يتيح العلاج للجميع هو الأفضل في العالم، وعلى حد تعبيره "في حالة اصابتك بجرح, في حالة مرض ابنك أو ابنتك أو حفيدك, تسارع طالباً العون, فيقول لك شخص من هيئة الصحة الوطنية: هيا هيا ولا يقول لك أرني بطاقتك الإئتمانية"، فعاد يعقوب إلى إنجلترا، وعمل في مستشفى هيرفيلد للقلب، ونجح بمجهوده ومثابرته إلى تحويله من مجرد مستشفى ريفي، إلى أحد أشهر مراكز جراحة وزراعة القلب في العالم، ويستفيد من خدماته مختلف الناس على اختلاف أعمارهم ومستواهم المادي والاجتماعي وحتى جنسياتهم، فأحد مرضاه مثلاً كان بابانداريوس رئيس الوزراء اليوناني، كما عالج ملياردير أمريكي يعتبر خامس أغنى رجل في أمريكا، في الوقت الذي أجرى فيه على التوازي الكثيرمن الجراحات لأطفالٍ رضع.

الكتاب بطبيعة الحال حافل بالعديد من التفاصيل الطبية المتعلقة بالقلب وجراحاته، ومن المفاهيم الجديدة علي في هذا الكتاب، هو جراحة الدومينو، وهي تُجرى لمريض رئتيه معتلتان ويحتاج لزراعة رئتان جديدتان متصلتان بقلب المتبرع، والمتبرع يكون بالطبع شخص ذو أعضاء مناسبة تُوفي في حادث أو خلافه، وتؤخذ موافقة أهله على التبرع، فتجري جراحة لنقل رئتيه وقلبه، وجراحة أخرى لزراعتهما في المريض ذو الرئة المعتلة، ويؤخذ قلب هذا المريض ليزرع في جسد مريض آخر ذو قلب معتل!

وكذلك تعرفت على جراحة التحميل، وتتم غالباً مع مريض ذو قلب ضعيف، يُزرع بجوار قلبه قلبٍ آخر وكأنه يعمل كبطين آخر أو مضخة أخرى تحسن كفاءة القلب، وأحياناً بمرور الوقت يتحسن أداء عضلة القلب الأصلية، فلا يعود المريض بحاجة للقلب الإضافي.

وأشار الكتاب للكثير من الأبحاث والمشاريع العلمية التي شارك فيها يعقوب أو أشرف عليها، ومن آخر هذه الأبحاث – وهي أبحاث لا تزال جارية – السعي للتغلب على مشكلة ندرة الأعضاء المتبرع بها - والتي تؤدي إلى وفاة الكثير من المرضى وهم في قوائم الانتظار – من خلال تركيب أجزاء اصطناعية وعليها خلايا بشرية، وبمراقبة سلوك الجسم البشري، فإن الجسم له القدرة على استكمال هذه الخلايا بالتدريج. وكذلك تجارب أخرى لاستخدام أعضاء الحيوانات في الزراعة، وذُكرت تجربة استعين فيها بقلب خنزير وعاش المريض بعدها لأسبوعين، ومن البديهي أن مثل هذه التجربة قد تكون لا إشكال بها من الناحية العلمية، لكن ينبغي مناقشتها جيداً من الناحية الدينية.

تحدث الكتاب عن علاقات يعقوب وصلاته ومعارفه، والتي مكنته من طلب الدعم المادي للمستشفى وللمشاريع البحثية، وعن تمكنه مثلاً من طلب تبرع ب20 مليون دولار من الملياردير الأمريكي الذي أجرى له العملية، ونجاحه في اقتناص هذا التبرع، وعن دعم المشاهير له ومنهم جيفري آرتشر وعمر الشريف، وتحدث كذلك عن علاقة يعقوب المتميزة بالأميرة ديانا والتي أسمته ملك القلوب، كما تحدث عن تحمسه لمشروع سلسلة الأمل والسعي لتدشينه في بريطانيا والانطلاق منها لدول مختلفة بالعالم الثالث، وبذلك تمكن من إقامة عدد من مستشفيات القلب في أماكن مختلفة، منها مستشفاه الشهير بأسوان، وآخر تحت الإنشاء بمدينة السادس من أكتوبر. وهو في كل هذه المشروعات يحرص على استمرار تمويلها من التبرعات والوقفيات لضمان استمرار علاج المرضى بالمجان، وكذلك يحرص على تدريب وتجهيز الكوادر الطبية من أطباء وممرضين من المجتمع المحلي ليستمر المستشفى بنفس الأداء.

يذكر الكتاب الكثير من القصص عن العديد من العمليات، سواءً الناجحة أو الفاشلة، وفي كل عملية فاشلة نجد أن دافع يعقوب الأساسي كان الأمل في إنقاذ المريض ومنحه فرصة مهما كانت حالته صعبة، طالما كانت هناك قدرة على عمل شيء، واحتمالية للنجاح، ولكن حتى بعد الفشل، فإن يعقوب لا يُحبط ولا يستستلم، بل يستفيد من التجربة ليتجنب في المرة التي تليها ما يمكن أن يؤثر بالسلب على النتيجة، ولهذا كان يعقوب من الجرأة أن يقبل من العمليات ما لا يتجاسر غيره من الأطباء على قبوله، وبذلك أجرى من عمليات القلب أكثر مما أجرى أي شخص!، وفي الوقت ذاته، كان حريصاً على العلاقة الإنسانية مع مرضاه، وكانت هذه اللفتات الإنسانية من أكثر ما يتأثر به المريض وأهله، كأم الطفل التي ظلت تتذكر لسنوات كيف حرص يعقوب على تدفئة السماعة قبل وضعها على جسد طفلها. أما أكثر ما كان يؤثر في يعقوب نفسه، هو أن يستوقفه شاب أو شابة ليشكره، ويخبره أنه قد أجرى له جراحة قلب وهو طفل!

لعل سر نجاح يعقوب هو الإصرار والدأب والمثابرة وحبه لعمله وإنهماكه فيه لا للمادة، ولكن لحب العلم وللحرص على الحياة الإنسانية، وبديهي أن هذا الانهماك أثر على حياته الأسرية وعلى الوقت الذي يتيحه لزوجته وأولاده، ونختم بهذا الحوار الدال بين أندرو – ابن يعقوب – الذي سأل والده: "ما سرُّ إصرارك على الإفراط في العمل، والسفر في العالم بجنون، وإحراق كل شمعة من طرفيها؟". فأجابه يعقوب قائلًا: "لأن أي شيءٍ أقل من ذلك سيكون عاديًّا، وأنا لا أحتمل أن أعيش عاديًّا"!

ليست هناك تعليقات: