السبت، 21 يونيو 2025

من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن - الجزء الأول

 


هذا الكتاب نسيج وحده، حظى بإعجاب كل من قرأه، وأثنى عليه العلامة الطناحي في مقالاته، وكانت مقدمة هذا الكتاب مقال الطناحي عنه، وقال فيها:

(ومع غزارة هذه المعارف التي يقدمها لنا الكاتب، ونفاستها، فهو لا يُدل بها على قارئه، ولا يسوقها في موكب تتقدمه الخيالة، ويحف به راكبو الدراجات، وتكتنفه دقات الطبول، كما يفعل كثير من الكتاب الآن، وإنما يأتيك كلامه سهلا رهوا، يتهادى في إهاب الكرامة والتواضع والإسماح، وعليه من العلم بهاؤه، ومن الجد أماراته بأسلوب عذب ،مصفى، أسلوب كاتب يحترم عقل قارئه، ويريد إمتاعه لا التعالى عليه. يقول في الفصل الثانى الأعجمى المعنوى والأعجمي العلم - فى مناقشة المفسرين الذين اعتمدوا في تفسير أسماء أنبياء بني إسرائيل على المعجم العربي وحده، يقول: «وأنا أيها القارىء العزيز - إن كنت لا تعرف عبرية التوراة أويونانية الأناجيل، بما في هذه وتلك من أعلام آرامية بل ومصرية - أحيانا- لا أريد لك أن يفوتك شيء من حلاوة بحث أريد أن أحبره لك تحبيراً : أريد منك أن تشترط على توثيق ما أحدثك به، فلا أكيل لك القول جزافاً آمنا ألا تكشف زيفى، لأنك لا تعلم شيئاً من أمر تلك اللغات التي ذكرت لك. ليس هذا من العلم في شيء، وإنما هو من التدليس»).

والغرض الأساسي من الكتاب، هو عرض ما وصل إليه المؤلف باجتهاده الذي لم يسبقه إليه أحد فيما نعرف، وهو أن الاسم العَلَم الأعجمي حينما يُذكر في أي موضعٍ في القرآن، فإنما يُترجَم معناه في سياق الآيات، وانتبه لهذا الأمر أولاً حينما عرف أن معنى زكريا هو (ذاكر الله)، ولاحظ موقعها من الآيات في مطلع سورة مريم "ذكر رحمة ربك عبده زكريا"، ثم بالبحث رأى أن هذا الأمر مضطرد في كتاب الله، وأنه ( لا يكاد يخلو علم أعجمي في القرآن من النص على ترجمة معناه في سياق الآية ترجمة دقيقة مطابقة)، وفي ذلك يقول في موضعٍ آخر (ولكن هذا الذى لا تلتفت إليه يتواتر في كل علم أعجمي مذكور باسمه أو بكنيته في القرآن فتتساءل أمقصود هو أم غَيْرُ مقصود ؟ أم أنه الإعجاز البياتي الألفاظ والصور على هذا النسق المتناغم المتجانس لا يُراد منه إلا الذي يؤلف بين هذا ؟ وأنا لا أقول لك إن المقصود هو هذا أو ذاك، فلا يملك مخلوق تقييد مقاصد الخالق عز وجل ، وإنما الذى أقوله لك هو أن لإعجاز القرآن وجوها هذا أحدها : إنه دليل العلم، ودليل القدرة.)، بالإضافة إلى ذلك، يرى الكاتب أن بعض الأسماء لها ترجمات وتفسيرات رأى أن أهل لغاتها جانبوا الصواب فيها، فيخطيء أصحاب اللغة ويصيب القرآن.

والكتاب من جزئين، يبدأ الكاتب الجزء الأول الذي يستغرق نصف هذا الجزء بثلاثة فصول بديعة  في تاريخ وفقه اللغة تعتبر بمثابة الأصول والتمهيد للتطبيق الذي يستغرق بقية الكتاب، وفي التطبيق يعرض الأعلام الأعجمية المذكورة في القرآن اسماً اسماً، ويحلل معناه في لغته الأصلية، ويعرض ما يقرره من أن القرآن يفسر في ثنايا الآيات المعنى الدقيق لكل اسم أعجمي علم ورد في القرآن، أياً كانت اللغة المشتق منها هذا الاسم، ولو كانت لغة منقرضة.

والحقيقة أن المقدمة والتمهيد بهذا الكتاب بها من اللطائف والأفكار النفيسة ما يحار المرء أيها ينقل وأيها يقتبس، وأحسب أن الله قد فتح على كاتبه ويسر له سبيل عرض فكرته، والتي تحتاج أن تُقرأ بهدوءٍ وروية حتى تُهضم، فإذا ما استوعبها قارئها فرح بها، لما فتحت له من أبوابٍ جديدة في النظر لإعجاز كتاب الله تعالى، وشرف اللغة التي اصطفاها الله لتكون وعاءً لكتابه.

سأنقل هنا بعض أهم ما صادفني وأعجبني في هذا الكتاب الجميل:

(وليس القرآن عربيا فحسب ، وإنما هو عربي مبين . تجد النص على هذا في قوله عز وجل : "وإنه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرین. بلسان عربی مبين".

ولفظ " المبين " حيثما ورد في كل القران ـ وقد ورد لفظه نعتا للمعرفة والنكرة ١١٩ مرة- لا يعنى الإفصاح والإبانة ، وإنما يعنى حيث ورد ، تأكيد اكتمال تحقق الصفة فى الموصوف . إليك بعض الأمثلة ، وعليك بالباقي في مواضعه من المصحف:

"فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين" ، أي ثعبان حق، لا شك في ثعبانيته.

"إن الشيطان للإنسان عدو مبين" ، أي هو العدو يقيناً ، لا خفاء لعداوته.

"إنا فتحنا لك فتحا مبينا" ، أى أن صلح الحديبية وإن تجهمه أول الأمر بعض أجلاء الصحابة ، ليس فتحا فحسب ، وإنما هو فتح حق ، ليس له إلا هذا الاسم.

"هو الحق المبين"، يصف نفسه تبارکت أسماؤه ، أي هو عين الحق جل جلاله ، لا يمارى فيه أحد.

من هنا تدرك أن وصف لغة القرآن بأنها لسان عربی مبين ، يعني أنه بلسان عربي بين العربية ، أو هو حق العربية ، لا يماري في عربيته إلا جاهل بالعربية نفسها.)

وفي موضعٍ آخر يقول:

(ولقد امتن الله على العرب بالقرآن، وأكرم بها منة أن يكون لسان القرآن لسانهم.

نعم، شرُفت العربية بالقرآن، وشرُفَ أهلها.

وقد تتساءل : كيف استحقت العربية هذا الشرف؟

لا يكفي أن تقول نزل القرآن عربیا لمجرد أن المنزل عليه القرآن عربی والمنزل إليهم القرآن عرب .

بل هو تقدير العليم الخبير ، الذي لا يمضي أمرا إلا أحكمه.

إنه عز وجل يصطفی لرسالته الرسول، ويصطفي لرسوله الجيل الذي يحمل الرسالة ، ويصطفي لخاتم رسله البقعة التي تنطلق منها الرسالة إلى أقاصى الأرض.

وهو أيضاً جل شأنه يصطفی لرسالته الأداة ، وأداة الإسلام هي هذا القرآن الناطق بالعربية .

کيف وسعت العربية هذا القرآن ؟ کیف حملت وقره ؟ ما تلك الحضارة التي أنضجت تلك اللغة ، واللغة كما تعلم هي نِضاج الحضارة ؟ وهل كانت للعرب قبل القرآن حضارة ؟ فمتى اكتمل لها نحوها وصرفها وإعرابها ؟ متى تهيأ لها شعراؤها وخطباؤها وفصحاؤها ؟ بل كيف فهم العرب عنه ؟ كيف تذوقوا حلاوته ؟ كيف سلموا بإعجازه ؟

الحق أن العربية هُيئت تهيئةً لتلقي هذا القرآن ، وژیئت تزیینا لتليق به ، وأُنضجت إنضاجا لتكون وعاءه ، وأُحكمت إحكاماً لتعبر عنه ، فما نزل القرآن إلا وقد تهيأ لها هذا كله ضد منطق التاريخ ومنطق الحضارة .

وتلك وحدها معجزة ، وليس شيء على الله بعزيز .

لم تكن العربية وقت نزول القرآن ، بمستواها هذا الفني المحكم ، لغة كتابة ، فقد أريد للقرآن أن يكون " قرآنا ".

كانت العربية وقت نزول القرآن ، بمستواها هذا الفني المحكم ، لغة الخطاب اليومي ، لا لغة يصطنعها فحسب أهل الفكر والفن والأدب ، ولم تكن بمستواها هذا الفني المحكم لغة الخطاب لدى الصفوة من سادة قريش فحسب ، بل كانت هي لغة الخاصة والعامة .

وهذا هو أصلا معنى اللغة : لا تلتمس في المدونات وبطون الكتب، ولا تهمهم بها الأقلام وتحبر الصحف ، وإنما اللغة هي التي ينطلق بها اللسان سجيةً ، فتبصر بها العين ، وتسمع الأذن .

وكان هذا ضرورياً لرسالة تخاطب الكافة، لا تعويل فيها على متحنثٍ أو متكهن.)

وأعقب على ذلك بأن قوله (يصطفي لرسالته الرسول) يتماشى مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ اصطفى مِن ولدِ إبراهيمَ ، إسماعيلَ ، واصطَفى من ولدِ إسماعيلَ بَني كنانةَ ، واصطَفى من بَني كنانةَ قُرَيْشًا ، واصطفى من قُرَيْشٍ بَني هاشمٍ ، واصطَفاني من بَني هاشمٍ" فهو خيارٌ من خيارٍ من خيار. وقد أنشأه الله في منازل أبلغ العرب وأوسطهم وأفصحهم لساناً.

وقوله (يصطفي لرسوله الجيل الذي يحمل الرسالة) يذكرني بقول سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ). وقول سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم، والله رب الكعبة).

ثم ننتقل لهذه الفائدة لغوية من الكتاب، حيث يقول الكاتب:

(من اللغات صرفي وغروی ، فأما اللغات الغروية ، ومنها أسرة اللغات الهندية - الأوروبية ، كالسنسكريتية والفارسية ، وكاليونانية واللاتينية وبناتها الأوروبيات، فهي اللغات التي تستعين في اشتقاق المعنى الموسع من المعني البسيط بإضافة اللواصق من خلف ومن قدام ، فيبدو لك اللفظ منحوتاً من كلمة واحدة نطقاً وكتابة وهي من بضعة أجزاء موصولة ، وكأنها شد بعضها إلى بعض بغراء . من ذلك في اللاتينية مثلا كلمة emancipio بمختلف صورها في اللغات الأوروبية الحديثة . ومعناها العتق والانعتاق : تظنها من كلمة واحدة ، وهي من ثلاثة أجزاء شدت إلى بعض

(e)+(man)+(cipio)

الجزء الأول (e) بمعنى "خارجاً"

والثاني (man) بمعنى "اليد"

والثالث (cipio) بمعنى "الأخذ"

فهي إذن ليست كلمة وإنما هي جملة أو شبه جملة ، معناها الحرفي " الإخراج من أخذ اليد "، أو " الإخراج من ملك اليمين "

وأما اللغات الصرفية ومنها على سبيل المثال العربية والآرامية والعبرية، في الفصيلة السامية المنتمية إلى أسرة اللغات الأفريقية - الآسيوية ، فهي لا تستعين في اشتقاق المعنى الموسع من المعني البسيط بإضافة اللواصق أو بتجميع أجزاء الكلام . وإنما هي تنحت جذور الألفاظ لجذور المعاني ، ثم تشتق الموسع من البسيط "بالتصرف" في بنية الجذر الأصلي وفق أوزان ثابتة لكل منها معناها التوسعي المحدد ، بغض النظر عن جذر اللفظ الأصلي ، من ذلك في العربية "فَعَلَ، وفَعًل، وتَفَعًل، وانفعل، واستفعل،وفاعَلَ، وتفاعل...الخ" .

وليست أحرف الزيادة التي تلحظها وسط الجذر کتضعیف العين في "فَعًل" ، والمد بالألف في فاعَلَ ، أو المضافة في أول الجذر مثل الهمزة والنون في انفعل، والهمزة والسين والتاء في استفعل، كاللواصق في اللغات الهندية-الأوروبية، لأن أحرف الزيادة هذه ليست في ذاتها معنى كما هو الحال في لواصق اللغات الهندية-الأوروبية، وإنما لها وظيفة صرفية، تصرف جذر اللفظ عن معناه البسيط إلى معناه الموسع.

وأياً كانت ميزة الصرفي على الغَرَوي، مما لا نتصدى له الآن، فهي عند اللغويين سمة فارقة حاسمة بين المجموعات اللغوية).

ويقول في موضعٍ آخر، وهو بمثابة النتيجة للتمهيد السابق:

(أما اللغة التي تستعير من غيرها معاني الأفعال وأسماء الأفعال، فهي لغة قد عقم تفكير أهلها وضحل، ينتظرون من غيرهم أن يفكر لهم، ثم يأخذوا عنه أخذ الببغاء والقردة، فيزدادوا تبعية. فلعة أهل الحضارة الغالبة هي المثل على تطور اللغة بتطور الحضارة الذاتية لأبناء اللغة ، ولغة الحضارة التابعة في المثل على تحور اللغة بتأثير الغزو اللغوي - الحضاري .

ولأن الألفاظ هي أوعية المعانی ، تماماً كما أن الجسد وعاء الروح ، تستطيع أن تقول إن المعانی پتوالد بعضها من بعض بقدر ما تتوالد الألفاظ بعضها من بعض، أي بقدر ما تكون اللغة قادرة على نحت الألفاظ واشتقاق اللفظ من اللفظ .

وتستطيع أن ترتب على هذا . مصيباً غير مخطيء - أن اللغة الأغزر ألفاظا أو الأقدر على نحت جذور الألفاظ ، هي اللغة الأقدر على توليد المعانی ،وأنها اللغة الأدق عبارة، الأوضح فكرة ، الأطوع لتشقيق المعانی ، الأقوى على التخيل والإبداع، الأملك لعنان الفكر ، الأثبت في وجه الغزو اللغوي - الحضاري .

ولأن الحروف - أي الأصوات . هي لبنات الألفاظ ، تستطيع أن نقول إن اللغة الأقدر على نحت جذور الألفاظ ، هي اللغة الأكثر احتواء لكافة الأصوات المفردة الممكنة ، أي الأوفر أصواتًا وحروف نطق .

وتستطيع أن تضيف إلى هذا أن اللغات الصرفية ذوات الأوزان ، كما هو الحال في اللغات السامية ، وأمها العربية ، هي وحدها - دون اللغات الغروية - الأقدر على تمثيل الألفاظ الأعجمية وهضمها ، لأنها - وبالذات اللغة العربية - لا تقبل اللفظ الأعجمي على صورته في لغته ، وإنما تعربه فتجانس بين حروفه على مقتضی مخارج أصواتها ، ثم تقولبه في قوالبها وتصبه في أوزانها، ثم تشتق منه ، وتتصرف فيه حتى يبدو اللفظ الأعجمی لغير المتخصص وكأنما ولد عربياً لأبٍ عربی .

واللغة العربية في هذا كله - دون سائر اللغات . فرس لا يُداني ، لأنها الأكثر حروفاً ، الأغزر جذوراً ، الأوفر أوزاناً ، الأضبط نحواً و موازین صرف. ولكنها أيضاً - ولنفس الأسباب - اللغة الأقمن باشتباه الأعجمي فيها بالعربي ، لأن اللفظ المنقول إليها ذابت عجمة معناه في عروية صورته بعد تعريبه).

واقرأوا معي وصفه هذا للقصص القرآني:

(هذا الجو العام ، الذي توحيه الآيات ، سمة يتفرد بها القصص القرآنی من دون كل قصص.

الحدث المروي في القرآن لا يسرد عليك كما يسرد الخبر ولكنه - على خلاف ما تجد في التوراة والإنجيل - يبعث لك من غياهب التاريخ حيا نابضا مشخصا، وإذا أنت في قلب الحدث ، تسمع وترى ، وقد طويت المسافات واستدار الزمن .

تجد قريبا من هذا في قصة نوح مع قومه (الآيات ٢٥ - ٤٨ من سورة هود) حين يبلغ الحدث ذروته ، فتحسب أنك من ركاب السفينة مع نوح وهي تجرى بك في موج كالجبال ، وربما اشتد بك " الحضور " فهممت بأن تمد يدك إلى قمة جبل حاذاها الماء ، تريد أن تلتقط الابن العاق وهو يغرق ، ولكن موجة عاتية تحول دونك ، فتسترجع ويسترجع نوح ، فقد نهى عن ذلك من قبلك ، ولا يفرخ روعك إلا بانتهاء المشهد وقیله عز وجل : ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك }، فتثوب إليك نفسك).

واقرأوا معي كذلك هذه الفائدة في تفسيره لمفهوم الفتنة:

(والذى يجب التنبيه إليه أن الفتنة من الله عز وجل هى على اصل معناها في اللغة : تمحيص واختبار . ليست هى الغوايةً والإضلال ، بل هذان هما عاقبة الفتنة حين يسوء المآل . إنها امتحانُ فُرضَ عليك ، وموقف زج بك فيه : تخرج منه إما إلى الهدى وإما إلى الضلال . وطوق النجاة ذكر الله عز وجل . إن ذكرته ذكرك فنجاك، وإن عميت فقد اخترت لنفسك.

وليست الفتنة بالملائكة كغواية إبليس . فتنة الملائكة تمكين وتعليم . ثم تنبيه وتحذير ، كما تجد فى قوله عز وجل على لسان هاروت وماروت : {وما يُعَلِّمَانِ من حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تَكْفُر{ (البقرة) (۱۰۲) . أما غواية إبليس فإملاء واستدراج إلى الزّيغ والضلال . إنه يُعَمِّي عليك أمره . لا يقول لك أنا ابليس جنتُ أضلك وأغويك ! ولكنه يأتيك فى ثوب الوسواس الخناس ، يُخامر عقلك ويُحدثك بلسانك ، فَتَظُنُّه حديث النفس . وربما ضَبَطَتَهُ وهو يُفسد قراءتك ويقطع عليك صلاتك . وهو حين يُحَدِّثُكَ يُجَمّل لك السيئة ويُحَسَنُ القبيح ، وربما أطراك فأرداك . وهو يقعد بك عن النهوض فى طاعات الله عز وجل ، ويَهِيجُكَ إلى الفحشاء والمنكر والبغى . وهو لا يكتفى منك بمعصية الله خالقك ، وإنما لا يزال بك حتى يُوئَسَك من رحمته ، فَتُمعن ولا تبالى ، وتُصرّ على ما أنت فيه ، قد أخذتك العزة بالإثم فيعمى البصر والبصيرة ، ولا يُفْلِتُكَ حتى تنطق بكلمة الكفر ، فَيَهْوى بك معه في قاع جهنم ، وكأن الله لم يُحذركَ ويُنذرك).

وفي جزئية التطبيق قد نتفق مع بعض الأجزاء، ونختلف مع أخرى بأن نجد فيها بعض المبالغة، بل وبعض التكلف لإثبات أن النظرية مضطردة مع كل الأعلام، لكن في كل الأحوال، فإن الفكرة الأساسية هي اجتهادٌ مبذولٌ به جهدٌ معتبر، وانظرمعي للمثل الذي ضربه في المقدمة لتفسيره لاسم (يوسف)، والمنهج المفترض اتباعه عند السعي لتفسير معنى الاسم الأعجمي، فيقول: (الصحيح أن تُؤصل أولا معنى العلم الأعجمي في لغته ، ثم تتلمس هذا المعنى نفسه في الآيات من القرآن التي تتحدث عن هذا الإسم ، مُصَرِّحا به ، أو مُكَنِّى عنه ، أو محذوفا لدلالة السياق عليه، وأنا زعيم لك بأنك ستجد هذا المعنى في كل عَلَم ، مرة واحدة على الأقل، وهذا كاف . وحبذا لو تواتر هذا الترادف في أكثر من موضع، إذن لاستبان لك أن هذا الترادف لم يأت عرَضا . وحبذا أيضا لو أتيح لك ترجمة تلك الآية من القرآن إلى لغة ذلك الاسم العلم ، كى يتجلى لك كالشمس سطوعا تطابق اللفظين في تلك اللغة : الاسم العلم ومعناه . من ذلك قوله عز وجل : { ولما دخلوا على يُوسُفَ آوى إليه أخاه } (يوسف : ٦٩) ، وترجمتها الحرفية بالعبرية هى : " ويُبوو إل يوسف ويُوسف إلا و أحيو " ، ومرة أخرى في قوله عز وجل : }فلما دخلوا على يُوسُفَ آوى إليه أبويه{ )يوسف : ٩٩) وترجمتها العبرية هى : " ويُبؤُو إلى يوسف ويُوسف إلا و أبوتاو " . في الترجمة العبرية (والترجمة من عندى فلا ذكر لهذا فى التوراة العبرانية(، تجد لفظة " يُوسف " مكرراً على التلاصق - يُوسف ويُوسف - الأولى هى الاسم العَلَم يُوسُفُ عليه السلام ، أما يُوسف الثانية فهى فعله (ترجمة) " آوى " : (فلما دخلوا على يُوسُفَ آوى إليه) فتستخلص أن القرآن يَدُلُّكَ على معنى اسم " يوسف " عليه السلام بفعل صَدَرَ منه - الإيواء والاستضافة - كان بحق محور دوره عليه السلام في تاريخ بني إسرائيل وكأن الاسم يُلخّصُ لك هذا الدور أصدق تلخيص : كان يوسف لبنى اسرائيل في مصر نِعمَ " الآوى – المضيف).

مر الكاتب بالأعلام الأعجمية علماً علماً بالترتيب التاريخي، وبدأ باسم جبريل الذي يمكن أن يُترجم بأنه "جبار الله"، وهو ما يستقيم بالتفسير بالترادف بقول الله تعالى "ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين"، وقوله تعالى "علمه شديد القوى. ذو مرةٍ – أي قوةٍ – فاستوى". أما ميكائيل، فقد رجح الاسم القرآني (ميكال) على معنى الاسم العبراني، وأن الاسم القرآني يأتي كأنه صيغة مبالغة من الوكيل، ورأى أنه من إعجاز القرآن أنه يصحح لأهل العبرية نطق ميكائيل.

أما مذهبه فيما لم يرد من أعلامٍ في الكتب السابقة – كمالك خازن النار – فهو أن مثل هذا العَلَم يجيء في القرآن على أصله عربياً، بخلاف الأعلام الأخرى، يعربها القرآن حسب ما يتوافق مع قواعد العربية وصرفها. وأضاف فائدة لطيفة أخرى، وهي أن ثبوت العَلَمية على اسم (مالك) باسم عربي – رغم أن أهل النار من أمم شتى – يعني أن لسان الخلق سيرتد في الآخرة عربياً. وقد ذهب في تفسير أسماء هاروت وماروت نفس هذا المذهب، وأن أصلها على زِنة المبالغة من الهراء والمرية. أما (ابراهيم) فقد انتهى إلى أن معانه (إمام الناس) وربطه بقول الله (إني جاعلك للناس إماما)، أما (إسماعيل) فهو (سَمِعَ الله)، وإما (إسرائيل) فانتهي إلى أنه (عهد الله أو إصر الله)، وريطه بقول الله (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة).

وفي الفصل الذي حلل فيه اسم ابليس، أعجبتني هذه الفقرة: (وقد ثبتت العلمية لإبليس بهذا الاسم في الملأ الأعلى على النداء من الله عز وجل : { قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين{  ( الحجر ۳۲) ، وهذا قاطع في أن إبليس سُمّى بهذا الاسم قبل إهباط آدم من الجنة ، أي على اللفظ العربي قبل أن تتفرق ألسنة البشر لهجات فَلْغَات ، شأنه شأن آدم ، خلافا لجبريل وميكال اللذين لم يخاطبا في القرآن على النداء من الله عز وجل لسبق ثبوت العلمية لهما على اللفظ الآرامي - العبرى فى التوراة والإنجيل . أما إبليس وآدم فقد خوطبا على النداء من الله عز وجل باسميهما هذين فَهُمَا كما قال سبحانه، لا يُبدل القولُ لديه.)، وإن كنت لم أقتنع بما ذهب له من أن اسم (ابليس) جاء من جمع (أب+ليس) وربط ذلك بكونه أول من أبى، ولكن كما قلنا، هي اجتهاداتٌ لا أكثر، وله بإذن الله أجر المجتهد، وهو كثيراً ما ينهي اجتهاداته بقوله (والله تعالى بغيبه أعلم).

وإلى هنا ننهي هذا العرض للجزء الأول من هذا الكتاب الجميل الفريد، جزى الله كاتبه خيرا وأجزل له المثوبة، ونكمل رحلتنا الممتعة مع الجزء الثاني بإذن الله.

ليست هناك تعليقات: