حينما اندلعت الثورة المصرية – و حين أقول ثورة فأنا أعني 25 يناير بالطبع – كان الإسلاميون أحد أركان المشهد مع غيرهم من أبناء الشعب, آمن بذلك من آمن و أنكر ذلك من أنكر.
بعد تنحي مبارك, اختلفت المواقف تبعًا لتغير الوضع السياسي...التزمت نسبة كبيرة من الإسلاميين الحزبيين بقرارات و مواقف قياداتهم و أحزابهم و جماعاتهم في السير في المسار السياسي و الإصلاحي بكل ما شاب هذا المسار من عوار, في حين إنحاز آخرون مع إخوانهم من الإسلاميين المستقلين إلى مسار الحل الثوري, و لم يتخلفوا عن أي من الجولات الكبرى مع العسكر سواء في محمد محمود أو مجلس الوزراء أو العباسية..و كان تحركهم مبنيًا على قناعاتهم و فهمهم للإسلام الذي هو أكبر من رؤية أي حزب أو جماعة. و كان عدم تقيدهم بقيود الحزبية و بفهم و رؤية شيوخ معينين للدين محررًا لهم من الالتزام إلا بالمباديء.
لا أحب أن أصف هؤلاء بأنهم (الإسلاميون الثوريون) لأني أرفض مصطلح الإسلام الثوري من الأساس, لأن الإسلام في أصله يحوي مباديء الثورة و عدم الخنوع و السكوت على الظلم..الإسلام هو دينٌ سيد الشهداء فيه بعد حمزة هو رجلٌ خرج إلى إمامٍ جائر فأمره و نهاه, فقتله.
من هذه الرؤية و الفهم للإسلام, و من مبدأ الاستعلاء و رفض الظلم و الخنوع, و من مبدأ نصرة المظلوم, كان تحرك هذا النفر من الإسلاميين...و في إطار الهدف المشترك و هو إنجاح هذه الثورة, كانت أكتافهم في أكتاف (إخوانهم) من التيارات الأخرى غير الإسلامية.
كانت فترة حكم مرسي فترة صعبة على الجميع, كانت فترة مليئة بالأحداث الملتبسة بجوار الأخطاء الواضحة التي لا يزال نفرٌ من الإخوان لا يرونها حتى اليوم...و عندما وصلنا لنهاية المشهد في 30 يونيو, كان الشقاق الكبير.
بشكل شخصي, كنت أرى أن وجود مرسي – أو استمرار سياسته بغض النظر عن وجود شخصه – هو أمرٌ مضر بالبلد و بالدعوة في الوقت ذاته, لكن النقطة هي في كيفية خروجه من المشهد, فإن كان وجوده خطأ, فإن إصلاح هذا الخطأ لا يكون بخطأ أكبر منه...بل بكارثة.
لا يزال بيننا مغفلون حتى اليوم يتكلمون عن 30 يونيو على أساس أنها ثورة شعبية, و في الوقت نفسه فقد وجدنا أن رفاق الأمس قد صار عديدٌ منهم في معسكر الإنقلاب و في صف العسكر الذين كنا ننهتف ضدهم فيما مضى, في حين اختار آخرون أن يعيشوا في أجواء يوتوبية حالمين باليوم الذي سيقودون فيه جماهير (الشعب) عما قريب ليتخلصوا فيه من العسكر بعد أن يقضي العسكر على الإخوان و الإسلاميين جميعاً...أما أحسنهم حالًا فقد اختار الصمت.
خرج البعض حاملًا الشعار السخيف (يسقط كل من خان..عسكر فلول إخوان) متحدثين عن تيار ثالث, و لكن حتى التيار الثالث هذا ولد في حالة استقطاب حاد فصار عندنا (التيار الثالث) و (الميدان الثالث) لعدم قبول البعض أن يقف في مربع واحد مع شباب حركة أحرار الموصومين في نظرهم بأنهم إسلاميون, في حين يحاول هؤلاء أن يدرءوا عن أنفسهم (الشبهة) بالمبالغة في ترديد الهتاف السخيف السابق المساوي بين الجميع في نفس درجة الجرم. و في النهاية فيبدو أن رفاق الأمس قد انخفضوا بسقف أحلامهم و عادوا حتى لما قبل 2010, في حين يشغل آخرون أنفسهم بالحديث عن (معركة الدستور) في حين أننا نعيش في (اللا دولة) و نُحكم بشريعة الغاب!
كان الاستقطاب في أشده في الوقت السابق و التالي مباشرةً للإنقلاب, و كانت المشاعر السلبية في أوجها...انقطعت العديد من العلاقات و تحطمت أواصر الصداقة السابقة بين رفاق الأمس, أو صارت على شعرة في أحسن الأحوال....ربما هدأت النفوس قليلاً بمرور الوقت, لكن التجربة قد تركت قناعة لدى الكثيرين: أن ما حدث بالأمس لن يتكرر, و أن هذه الأكتاف لن تنضم في مظاهرة واحدة مرةً أخرى.
الحقيقة أن هذا البلد يحتاج تيار ثالث إسلامي, و تيار ثالث بشرطة أو سمه تيارًا رابعًا أو ما شئت من غير الإسلاميين...هذه التيارات مكونة في الأساس من النخبة الشبابية داخل الإسلاميين و غيرهم, و التي تؤمن بالحل الثوري, و في الوقت ذاته تؤمن أن المشكلة الأساسية ليست في شخص الحاكم أو أيديولوجيته, بقدر ما هي في النظام نفسه..نظام الدولة الحديثة المهيمنة على أقدار من يعيش فيها, الدولة التي تسحق مواطنيها و تتعامل معهم على أساس كونهم أدوات و أرقام فحسب. يؤمن جميع هؤلاء الشباب أنه لا خلاص إلا بتفكيك هذه الدولة, و أن هذا التفكيك يحتاج معارك و جولات متتالية من احتلال المساحات التي تسيطر عليها الدولة, بالإضافة إلى إنهاكها و كسر قيودها. هذا النظام يحتاج إلى تكتيك حرب العصابات, و أعني التكتيك فقط لا الحرب نفسها, بمعنى هجمات صغيرة كثيرة متفرقة بأشكال متنوعة في أماكن مختلفة بشكل ينهكه و يعريه أمام شعبه, و هو التكتيك المعروف باسم (الكلب و البرغوث).
بشكل مختصر: الحلول واحدة و المسار واحد, لكن كل منهم سيسير في مسار منفصل...مساران متوازيان يؤديان لنفس الهدف, و يكون الخلاف التالي هو مرجعية و حدود النظام المنشود بعد التخلص من النظام القائم.
ما يبغيه الطرفان من قيم مجردة مثل الحق و العدل و المساواة و الحرية هي أهداف مشتركة, لكن المرجعية هي التي تعيد تعريف هذه المصطلحات, و هي التي تؤطرها و تضع حدودها.
في الوقت الحالي, يبدو مسار الإسلاميين المستقلين متقاطعًا مع مسار الإخوان, و المسألة في نظر العديد من رفاق الأمس مختزلة في كون السبب هو المرجعية النهائية المشتركة, متغافلين عن كون المعركة الحالية أكبر من مجرد خلاف أيديولوجي, و أكبر من أن تختزل في مرسي أو جماعة الإخوان كلها, و أننا في حرب مع النظام الذي ثرنا عليه في يناير لكن بشكل أعنف و أكثر دموية بشكل لا يُقارن مع أي مواجهات سابقة. و لا يعنينا هنا أن نذكر هؤلاء بما هو بدهي لكل من يدعي إتساقًا مع الشعارات التي يرفعها – أو كان يرفعها – لكن نعود و نتكلم عن أن المسار الحالي المتقاطع مع الإخوان لن يكون كذلك بالضرورة إلى النهاية.
فالواقع أن الإنقلاب و ما تبعه و تكشف قيادات الجماعة أمام قواعدها قد أحدث هزة كبيرة داخل الجماعة, هذه الهزة و إن كانت قد غيرت مفاهيم العديد من شباب الجماعة و سببت مراجعات فكرية لدى الكثيرين, لكنها من جهة أخرى قد قامت برد فعل معاكس تماماً لدى البقية, فما زالنا نقابل كثيرين داخل صفوف الجماعة و مؤيديها ممن لا يتكلم سوى عن المؤامرة التي حدثت, متناسيًا الأخطاء و الخطايا بل و الحمق الذي كان بدوره مؤامرة أخرى لكن مؤامرة داخلية أوصلتنا في النهاية للمشهد الراهن. و إن كان هناك من يشعر بالأنفة لأن يعترف بأخطاء الماضي, فليس مطلوبًا منك يا سيدي أن تعترف, لكن المطلوب على الأقل أن تدرك, لأن إدراك هذه الأخطاء و فهم هذه الحقيقة هو السبيل الوحيد لمنع تكرارها.
و لهذا أقول أن المسار المتقاطع حالياً مع جماعة الإخوان لن يكون بالضرورة مسارًا واحدًا للنهاية, لأنه ليس من الواضح هل سينتصر التيار الذي قام بالمراجعات و أدرك أخطاء الماضي, أم التيار الثاني الغارق حتى أذنيه في نظرية المؤامرة. لكن المؤكد هو أن الخارطة الإسلامية قد أعيد تشكيلها و ترتيبها بشكلٍ كبير, و بالأخص داخل جماعة الإخوان. يكفي التغير الكبير في النظرة تجاه الديمقراطية, ففي حين كان هناك من يكفر بمبادئها و يؤمن بآلياتها فقط, كان هناك من يؤمن بكليهما..أما الآن, فلا آليات و لا مباديء.
و في حين يتذبذب الجميع بين التيارات سواء التقليدية أو ثالث أو رابع, يقف تيار آخر بهدوء على جنب يمسك ببندقيته و ينظر لكل العبث الدائر على الساحة, و يعرف أن قلوبًا عديدة قد صارت معلقة به, و لا يمنعها إلا محاذير شرعية و تورع عن الدماء و عن سفك دم من لا يزالون يؤمنون بكونهم (مسلمين), رغم أنهم يومًا عن يومٍ يثبتون لنا بعدهم عن هذا الاسم, لنكون شعبًا و هم شعب بحق.
و ما زالت اللوحة تُرسم, و ما زالت القصة لم تنته بعد.