الأربعاء، 18 يونيو 2025

استراتيجية المصالحة: الجزء الثاني من مذكرات الفريق أول محمد فوزي

 


هذا الكتاب هو الجزء الثاني من مذكرات الفريق محمد فوزي، بعد كتابه (حرب الثلاث سنوات).

بدأ فوزي الكتاب بتمهيد أكاديمي طويل عن الاستراتيجيات العسكرية المختلفة وأساليب إعداد الدولة للحرب، ليصل لمفهوم استراتيجية المواجهة الشاملة، والغرض الأساسي من تلك المقدمة هو إثبات أن هذه الاستراتيجية كانت هي استراتيجية الدولة والقوات المسلحة حتى وفاة عبد الناصر، أما الاستراتيجية التي سار عليها السادات من بعده، فهي ما أسماه (استراتيجية المصالحة)، والتي اعتبر أنه لا مكان لها لمن يريد استرداد حقوقه كاملة.

بعد ذلك عرض ما يعتبر ملخصاً للاستعدادات العسكرية خلال مرحلة ما بعد الهزيمة، وهو ما فصله في الجزء الأول، ثم انتقل إلى الحديث عن وفاة عبد الناصر، وانتقال السلطة إلى السادات.

استفاض في وصف شخصية السادات ولجوئه للمناورات، وهو وصفٌ نتفق معه بالطبع، وكان المبرر الرئيس لما رآه من توجهات السادات هو تخلي الأخير – في نظره – عن قرار الحرب، وسعيه للحلول السياسية والدبلوماسية بغية تجنب الخسائر في الأرواح.

والحقيقة أن فوزي في مذكراته بجزئيها، يُصر على نقطتين: الأولى هي أن مصر كانت قد استكملت استعداداتها العسكرية للحرب، وكان لديها خطة شاملة للتحرير، وفي انتظار القرار السياسي لبدء العمليات، والثانية، هي أن الدعم السوفييتي كان يسير بشكل سلس ولم يتبق لاستكمال الاستعدادات سوى وصول صواريخ للدفاع الجوي للدفاع عن الصعيد، لكنها لا تؤثر على بدء العمليات حيث يمكن الدفاع بواسطة الطيران، ويدعي أن السادات اتخذ هذه المعلومة ذريعة لتأجيل قرار الحرب بدعوى أنه لا يمكن أن يحارب والصعيد مكشوف.

وقد ناقشت هذه النقطة في تعليقي على مذكرات فوزي ومذكرات صادق، ومع التسليم بصعوبة تصديق أن القوات المسلحة حتى مايو 1971 خطة هجومية حسب شهادة صادق – وهو ما يدين صادق نفسه الذي كان رئيساً للأركان منذ عام 1969 – فإنه من الناحية الأخرى، من غير المنطقي أن يكون الخلاف الأساسي بين صادق من جهة، والشاذلي والسادات من جهة أخرى، هو الوصول للمضايق أو الاكتفاء بتحرير 12 كم شرق القناة طبقاً للإمكانيات المتاحة وقتها، في حين يدعي فوزي أن الإمكانيات كانت متاحة في 1970 لتحرير الأرض كلها وصولاً إلى الحدود.

وفوزي في وصفه التفصيلي لتطور الأحداث خلال فترة معايشته للسادات لا يكتفي فقط بتكرار عزوف الرجل عن الحرب، ولكن يريد أن ينقل لنا صورة أنه كان متجاوزاً للمؤسسات الدستورية وساعياً للانفراد بالقرار، وهذا أمرٌ مضحكٌ جداً، لأنه يظهر فوزي وبقية مجموعة 15 مايو بمظهر المتباكين على الديمقراطية التي سيذبحها استبداد السادات، في حين أنهم جميعاً عاشوا حتى مماتهم يسبحون بحمد عبد الناصر، الذي رسخ مباديء الاستبداد الحديث في الدول العربية كلها.

وكذلك يبدو في حديثه بصورة الرجل المنضبط الهاديء الذي يتعامل مع الرئيس بكل احترام، وينقل لنا مثلاً روايته لاجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمناقشة مشروع الاتحاد الثلاثي بين مصر وسوريا وليبيا، وفي حين ينقل لنا محمد صادق في مذكراته أن فوزي بدأ الاجتماع بعرض رأيه المعارض للاتفاقية -  في حين أن المتبع غالباً أن القائد العام لا يبدأ بعرض وجهة نظره حتى لا يُصادر على آراء الحضور أو يؤثر عليهم – وأنه حرص على حضور الجلسة كلها والتأكد من أن بقية الحضور يشاركونه الرأي، في حين يكتفي فوزي بالقول بأن الأمر عُرض على الحضور وأُخذت آراؤهم وأنه ترك صادق ليكمل الجلسة من بعده، وهذه من فوائد الإطلاع على نفس الحدث من روايات مختلفة، ومن خلال الصورة العامة وقراءة الشخصية ومواقفها، يمكن الترجيح بين هذه الروايات.

أما بخصوص موقف السادات من الحرب وسعيه للتسويات السلمية، فقراءتي الشخصية هي أن السادات كان يسير في المسارين، ولكنه كان يحاول الوصول لحل مبدئي بدون قتال، قد يكون هذا للحصول على بريق عالمي كونه أعاد قناة السويس للملاحة – حسب تفسير فوزي – أو قد يكون ذلك حتى يبدو للعالم أجمع أنه استنفد كل الوسائل السلمية، وأمام عناد إسرائيل لم يكن هناك مناصٌ من الحرب، لكن تطورات الأحداث بعد ذلك تؤكد أنه لم يكن بالطبع ضد خيار الحرب كمبدأ، ولكن كتوقيت وأسلوب، مع رفضنا التام لتصرفاته وقراراته خلال الحرب والتي قللت من مكاسب النصر بشكلٍ كبير، ومن الخلل أن يستمر فوزي حتى الثمانينيات في تفسير سياسة السادات بأنها رغبة في التنصل من المعركة وأن قدراته الشخصية أقل من أن يقود الدولة خلال الحرب، في حين أن الرجل بعدها بسنتين قد خاض الحرب فعلاً.

ذكر فوزي بعد ذلك أن السادات في 26 أبريل 1971 اجتمع به على انفراد وأعطاه التوجيه المبدئي لمعركة تحرير الأرض، وأن فوزي طلب من السادات تحديد موعد المعركة بالضبط ليحدد له السادات يوم 20 مايو، ويذكر فوزي أنه بدأ العمل لتحضير القوات المسلحة بناءً على هذا التوجيه، ثم يدعي أنه من مواقف مختلفة في الأيام الثالثة أدرك أن السادات يراوغ ولا نية له لدخول المعركة، فآثر تقديم الاستقالة. ونقل لنا كواليس تقديم الاستقالة بما يخالف تماماً رواية صادق للأحداث، ثم يتحدث عن تحديد إقامته ثم القبض عليه وتقديمه للمحاكمة، وانتقاده لما رآه انحياز من هيئة المحكمة والادعاء ضده، وشهادات شهود النفي والإثبات، وأورد شهادات لعدد من القادة في صفه، كما حاول تفنيد بعض ما ورد في التسجيلات بين بقية مجموعة مراكز القوى، وبالأخص جملة (فوزي حيكون جاهز)، ويريد منا أن نصدق أن المقصود هنا أن جاهز للمعركة!

ومع وجود بعض المنطق في أجزاء من دفاع فوزي عن نفسه، مثل تعليقه على الوثيقة التي أظهرها الفريق صادق بعد موت السادات وبها تكليفات بتحريك بعض الوحدات في المنطقة المركزية، وفسرها صادق بأنها ترتيبات لانقلاب عسكري، ويدافع فوزي عن نفسه قائلاً أن هذه التكليفات تتكرر منه كثيراً، وأنه لو كان في نيته ترتيب لانقلاب، فهل يُعقل أن يسجلها على نفسه في وثيقة مكتوبة، لكن ما نعرفه عن مجموعة مايو وتجسسهم على رئيس الجمهورية وكذلك لقاءات فوزي بهم وآخرها في مكتبه بعد أن كتب استقالته حسب ما كتب، يجعلنا ذلك لا نسلم ببراءة فوزي، أو تصديقه بأن سبب استقالته هو اختلافه مع السادات بخصوص الحرب.

لم يكمل فوزي مدة الحبس، حيث خرج بعفو من السادات في 1974، والتقى بالسادات مرتين بعدها، وفي المرة الأخيرة عام 1977 طلب منه السادات الجلوس مع لجنة برئاسة حسني مبارك لكتابة تاريخ ثورة يوليو ومنها أحداث هزيمة 67، ويذكر فوزي أنه سجل معهم شهادته، وفوجيء بها بعد ذلك تُنشر في شكل حلقات لمدة خمسة أيام بجريدة الأخبار، ومرةً أخرى نجد حديثاً عن هذه اللجنة التي لم نسمع عن أن نتائج أعمالها قد نُشرت أو أتيحت حتى للمؤرخين والباحثين، ولعلها في الأغلب محفوظة في أرشيف رئاسة الجمهورية.

ويُنهي فوزي كتابه بالتأكيد على ما بدأ به، مبرئاً نفسه من كل نقيصة، وناسباً للسادات كل قصور، ولا ننسى للرجل فضله ودوره في إعادة بناء القوات المسلحة بعد الحرب، لكن من مذكراته نفسها يمكننا قراءة شخصيته بما يجعلنا نثق أنها – أي المذكرات – لا تخلو من الغرض والمبالغات والتدليس، والله أعلم. 

ليست هناك تعليقات: