يتناول هذا الكتاب عرض لمذكرات 5 من القادة العسكريين في مرحلة ما بين هزيمة 67 وما قبل حرب أكتوبر، وإن كانت مذكرات صدقي محمود لا ينطبق عليها هذا الوصف.
بدأ بمذكرات الفريق
مدكور أبو العز، أول قائد لسلاح الطيران بعد الهزيمة، والذي استطاع في فترة
قصيرة شحذ همم رجاله وجمع قواتهم ليوجه ضربة قوية للعدو على جبهة قناة السويس في
15 يوليو، ومن المؤسف أن الرجل استمر في موقعه حتى 31 أكتوبر (فقط 130 يوماً)، بذل فيها جهداً جباراً في محاولة إعادة
بناء هذا السلاح.
تدرج مدكور في المواقع إلى أن أصبح مديراً للكلية الجوية ثم رئيساً لأركان
القوات الجوية، وفي هذه المرحلة، تكررت طلباته بالحصول على اعتماد مالي لإنشاء
الدشم لحماية الطائرات، ورأى أن لها الأولوية عن شراء مدمرة جديدة أو تكوين فرقة
جديدة بالجيش لأن هذه القوات لن تكون في أمان ما لم تكن الطائرات المكلفة بحمايتها
في أمان بدورها، كما اشتكى من مراكز القوى الموجودة في السلاح ومن سياسة قائده صدقي
محمود، وفي عام 64 أُبعد عن منصبه ليعمل محافظاً لأسوان، وقد ذكر أنه قبل الهزيمة
بأيام أرسل رأيه الصريح كقائد طيران سابق، محذراً فيه من مصير القوات الجوية
والقوات المسلحة ككل إذا دخلت حرباً، وأن السلاح الجوي سيُحطم كله مثلما حدث في 56
إذا ما تلقى الضربة الأولى، وبعد الهزيمة، وبسبب صراحته وتقديره الصحيح وقراءته
للواقع، طلبه عبد الناصر بالإسم ليتولى مهمة إعادة بناء السلاح. ومع ما وعد عبد
الناصر له بتقديم كل الدعم الذي يحتاجه، فإن النظرة الأمنية كانت تغلب عبد الناصر،
ويطلب بسببها إحالة العديد من الضباط للمعاش، إما بسبب الولاء للمشير، أو لأن لهم
أقارب من الإخوان المسلمين، ولما عارضه مدكور لأن هؤلاء ضباط ذوي خبرة ويحتاجهم
للمعركة، كان رد عبد الناصر هو أنه يرى الإخوان ألعن من اليهود! وخرج الطيارون من
الجيش ولكن استطاع مدكور بفضل الله إعادتهم مرة أخرى بعد فترة وجيزة.
كما تحدث عن طلبه الاعتمادات المالية اللازمة لإصلاح المطارات وبناء الدشم
وتجهيز مطارات جديدة، وموافقة عبد الناصر، ووقوف مدكور بحزم أمام مساومة فوزي له
بتقسيم المبلغ على دفعتين، وتهديده بالاستقالة، ليضطر فوزي للرضوخ لطلبه.
يقص علينا الفريق مدكور روايته للنجاح الذي حققه في هزيمة العدو في معركة
جوية في 15 يوليو 1967 بعد 40 يوماً من الهزيمة، وكذلك قصف قواته على القناة
وإحداث خسائر جسيمة بها، بما جعل العدو يطلب وقف إطلاق النار. وفي روايته هذه
يخبرنا أنه قد وصلته معلومات بتحرش العدو بقواتنا، فاتصل بالقائد العام الفريق
فوزي وطلب منه السماح له بالتدخل، ورفض الفريق فوزي ذلك، ثم اتصل به اللواء أحمد
إسماعيل قائد الجبهة وأخبره وهو مضطرب بالموقف الصعب لقواته أمام العدو والذي
يحتاج لتدخل جوي، فما كان من مدكور إلا أن أعاد الاتصال بفوزي وأخبره أنه إزاء
مكالمة أحمد إسماعيل له لا يستطيع أن يقف متفرجاً وأنه سيرسل قواته لضرب العدو،
فوافق فوزي، وحققت قواتنا نصراً مادياً ومعنوياً في هذه المعركة أعاد لها الثقة في
نفسها.
ومن جهةٍ أخرى، وكعادة فوزي في نسب الفضل في الانجازات لنفسه ولتوجيهاته،
فإنه في مذكراته يذكر أنه أعطى تعليمات للفريق مدكور لمواجهة السيطرة الجوية
للعدو، وترك له الحرية في اتخاذ التوقيت، وبالتالي فإن إنجاز مدكور هو بسبب
توجيهات فوزي، وعجبي!
وتحتل انتقادات مدكور لفوزي ولسلوكيات الأخير معه مساحة معتبرة، وكان من
الواضح أن التعاون بينهما صار في حكم المستحيل، وتقدم مدكور باستقالته لعبد الناصر
بسبب ذلك، واستبقاه عبد الناصر ولكن خرج مدكور في النهاية بمساعي فوزي وبطلب
السوفييت أيضاً! ،
ومدكور في مذكراته يكيل الاتهامات للاتحاد السوفييتي، ويصفه بالصديق الخائن، بل
واعتبره نوعاً من الاستعمار، وتحدث عن صلف وعجرفة المارشال زاخاروف، وعن اضطرار
المارشال للإقرار بأن الطائرات الميج لا يمكنها تغطية كافة الأرض المحتلة ولابد
للهجوم على العدو من التنسيق مع سوريا والعراق، ويذكر أن عبد الناصر اعتبر أن
الاتحاد السوفييتي قد (خلا به)، وأن الحل ليس في يد
الروس، ولكن في يد الأمريكان!
وفي سياق الانتقاد للسوفييت، عرض خطاباً طويلاً هاماً أرسله للسادات قبل
قرار السادات بالاستغناء عن المستشارين الروس، وكان الخطاب حافلاً بأوجه القصور في
السلاح الروسي، وفيما يقدمه لنا الروس ويحجبوه عنا مقابل ما يوفره الأمريكان
للعدو، بل وقرر أن الروس تواطأوا مع العدو ضدنا، ولم يشاركونا ما لديهم من معلومات
عن أوضاع قوات العدو رغم رصدهم كل شيء بالأقمار الصناعية، وذكر معلومة انفرد بها –
وأعتقدها غير دقيقة – أن السفير السوفييتي في الساعة الثالثة من فجر يوم 5 يونيو
ذهب لمنزل عبد الناصر وأيقظه وطلب منه ألا يكون الباديء بالضرب، وأعتقد أنه خلط
بين هذا الموقف وموقف آخر سابق.
كما انتقد مدكور أداء المخابرات الحربية ورئيسها محمد صادق، وكان من
المفاجيء لي أن أجده ينتقد أداءها بعد الهزيمة أيضاً وليس قبل الهزيمة كما اجتمعت
على ذلك بقية الشهادات – باستثناء شهادة صادق نفسه بالطبع – ومن صور الاخفاقات
تكرار الابلاغ عن نية العدو للعبور للضفة الغربية وتقدم بعض قواته، فتستنفر القوات
الجوية وتقوم بطلعة لضرب هذه القوات المزعومة فلا تجدها، ورأى أن هذه المعلومات
المغلوطة هي في الأعلب من تسريبات المخابرات الإسرائيلية لإرهاق قواتنا وشغلها عن
إعادة البناء.
وتأخذ القيادة السياسية والعسكرية نصيبها في الانتقادات لمسئوليتها في
الهزيمة وللمقامرة بمقدرات البلاد والدخول في مغامرة لمجرد (التهويش) دون إعداد،
بل ويذكر أن عبد الناصر قال في معرض الندم على تصرفاته أمام بعض القادة "إن تهويشة المرة دي منفعتش"!
ويحتل عرض الجوادي لمذكرات مدكور وحدها أكثر من ثلث الكتاب، ولكن القاريء لن يمل منها، فهي تنم عن رجلٍ محترم، شجاع قوي الشخصية، يُحمد له دوره في القوات المسلحة، ويؤسَف على أنه لم يستمر في موقعه أكثر من ذلك، ولكن الله أعلم بما كان ويكون، وبما كان سيكون.
***
يعرض لنا الجوادي بعد ذلك مذكرات محمد صادق،
وفي وقت نشر الجوادي للكتاب، لم تكن مذكرات صادق قد جُمعت في كتاب كامل، حيث لم
تصدر إلا في 2018 بتحرير عبده مباشر، وقد سبق أن قمت بعمل مراجعة للكتاب هنا.
أما ما رجع إليه الجوادي، فهي مجموعة من المقالات والحوارات الصحفية، وهي
على أية حال تغطي بعض الأجزاء المهمة في مسيرة صادق، وخصوصاً دوره في أحداث مايو
71، ودور المخابرات الحربية في 67، ولا تنفرد هذه المقالات بزيادات عن الموجود
بالكتاب إلا في مواضع قليلة وهامشية، ففي حديثه عن سوء علاقته بالسادات قبل
إقالته، ذكر أن جيهان السادات تواصلت مع زوجة صلاح نصر وطلبت منها أن تطلب من
زوجها أن يدلهم على أي معلومات يُمكن أن تُدين صادق، وفي مشهدٍ آخر يذكر أن
السادات أقاله مساء نفس اليوم الذي وعده فيه في الصباح باستخلافه في منصب رئيس
الجمهورية، وذكر الجوادي أنه فيما يبدو أن السادات وعد الجمسي بعد ذلك وعداً
مشابهاً، وكل هذه معلومات لا نستطيع تدقيقها لعدم وجود شهود عليها، والشواهد
الوحيدة التي قد تُجزم بصحتها هي دهاء السادات نفسه.
***
ثم يعرض لنا بعد ذلك مذكرات قائد الطيران الفريق
أول صدقي محمود، وهي أيضاً منشورة في عدد من المقالات الصحفية، ومن المعروف
أنه حوكم بعد الهزيمة، ووُجهت له 5 تهم بريء من 4 منها، وأُدين في تهمة واحدة فقط
تتعلق بخطأ تقديراته المبدئية لنسبة الخسائر التي يتعرض لها سلاح الطيران إذا ما
تلقى الضربة الأولى، وما يمكن أن يؤديه بعد هذا.
يتحدث صدقي محمود عن تاريخه العسكري وكونه أحد رواد سلاح الطيران في مصر،
وينفرد بقولٍ لا نعول عليه – بالمخالفة لكل الروايات بما فيها رواية مدكور أبو
العز - بأنه لم يخسر سلاح طيرانه كله في
56 وأنه قام بتهريب طائرات كثيرة للدول المجاورة، وخسر الباقي في معارك جوية، وينفي
أن يكون عبد الناصر قد طلب إقالته بعد 56، ويدلل على ذلك بأنه تولى مسؤوليات أخرى
بجوار قيادة سلاح الطيران، مثل شركة مصر للطيران، ولو أن هذا الدفاع لا يستقيم
لمعرفتنا بفوضى المناصب والامتيازات التي كانت توزع على القادة في تلك المرحلة، والتي
نتج عنها عدم تركيزهم في مهامهم الأساسية.
يذكر صدقي كذلك أنه كان واعياً لأهمية وجود خطة هندسية للانشاءات اللازمة
للقوات الجوية وإنشاء الدشم وشراء أجهزة الإنذار الحديثة ووسائل الدفاع الجوي،
وأنه خلال الفترة ما بين الحربين كان يكرر الطلبات لأخذ الاعتمادات المالية
اللازمة ولا يتلقى سوى الوعود، وأنه في عام 66 قدم تقرير تقدير موقف مفاده أنه
بدون المطالب التي كرر طلبها لن يكون جاهزاً لدخول معركة، وأنه إذا تحققت المطالب
الآن فلن يكون جاهزاً قبل 1970، ولكن من قراءة الشهادات الأخرى، نخرج باقتناع أنه
كان يقابل الرفض بشكلٍ سلبي، ويكتفي فقط بإعادة الطلب مرة أخرى كل عام، بدون أخذ
موقف حاد أو حاسم لإنقاذ الوضع.
تحدث أيضاَ عن أن القرارات العسكرية الكبرى كانت تصدر عن لقاءات دردشة تتم
أحياناً صدفة وبدون سابق ترتيب زمني، ومن ضمنها قرار حشد القوات الذي عرفوا به
كقادة بعد أن صدر. وأنه حينما اتصل بالفريق فوزي وسأله عما يحدث رد عليه فوزي
ضاحكاً بألا يشغل باله وأن الموضوع ليس أكثر من مظاهرة عسكرية. ويتحدث عن اجتماع
أبو صوير الشهير في 23 مايو وعن طلبه من ناصر أن يسمح له بقصف إيلات ورفض عبد
الناصر، وعن طلب أحد الطيارين الشبان الكلمة وقيامه بتحليل سياسي وعسكري للموقف
لينتهي أن الجرب قائمة لا محالة، وأن عبد الناصر طمأنه بأن الموقف سيًحل سياسياً.
ثم يحدثنا عن اجتماع 2 يونيو والجدال الذي تم حول تلقي الضربة الأولى، وعن
سؤاله عن سبب تكدس الطائرات في المطار ورده بأنه لا يستطيع أن يترك الطائرات في
المطارات الخلفية في حالة الحاجة للهجوم بسبب قصر مدى الطائرات، وهو هنا ينفرد
برواية أنه لم يصدر من عبد الناصر تحذير بخصوص هجوم يوم 5 يونيو، ويدلل على ذلك
بالاجراءات التي تمت بعد ذلك، ومنها أن رئاسة الجمهورية نفسها تواصلت معه وطلبت
تجهيز الطائرات التي ستقل حسين الشافعي ورئيس الوزراء العراقي لزيارة المطار
المتواجد به السرب العراقي يوم 5 يونيو نفسه، وكذلك سفر المشير نفسه للجبهة في نفس
اليوم.
ثم ينتقل لوصف أحداث يوم الهجوم، وهو هنا ينفرد بمشاهد لا يصفها غيره لكونه
كان مرافقاً للمشير في الطائرة وشاهداً عما حدث فيها من تخبط، ثم مرافقاً له عند
العودة من المطار للقيادة، وتحدث عن البطولات الفردية لعدد من الطيارين الذين
قاموا بطلعات انتحارية، وينتقد تقييد الدفاع الجوي على مستوى الجمهورية ويذكر أن
القواعد أن يُقيد فقط من مطار الإقلاع والهبوط، وأن فوزي هو من أصدر الأمر بتعميم
تقييده.
ويعرض محرر المذكرات تحقيقاته الصحفية الخاصة عن إشارة عجلون وكيف تأخر
وصولها للقيادة فلم تصل إلا بعد بدء الهجوم فعلاً، والرواية بها بعض الاضافات عن
المذكور في الشهادات الأخرى، وهي قصة حزينة تنتهي بأن شُكلت لجنة للتحقيق في هذا
الموضوع، وقيل أنها قدمت تقريرها لعبد الناصر فأمر بعدم إذاعته حتى لا يسخر منا
الروس أكثر مما سخروا بالفعل!
ويتحدث صدقي عن متاعبنا مع الروس في توفير قطع الغيار وبعض الأسلحة، وعن مشاريع
التصنيع وصناعة المحركات والطائرات والصواريخ، ويرجح أنها أُوقفت بضغط سوفييتي،
وأنه اكتشف أن السوفييت ينزعون من الطائرات بعض أجهزة التوجيه والإنذار باقتراب
طائرات العدو، وأن 4 من طائراتهم أُسقطت بواسطة العدو في سيناء في عام 66 – منها طائرتان
قادهما طياران روس - نتيجة تخلف هذه
الطئرات لعدم توفر هذه الأجهزة بها!
وبطبيعة الحال لا تنتظر من الرجل أن يُدين نفسه، لكن شهادته هنا مهمة
بالتأكيد لتعرض الجانب الآخر من الصورة، لكن بغض النظر إن كان ظالماً أو مظلوماً،
فإن استمرار أي قيادة في موقعها ل14 عاماً لابد أن تؤثر على أداء صاحبها بالسلب
وتصيبه بالتكلس، ولا يكفي في رأيي الدفاع بالتأكيد عن أنه تكرر منه طلب الاعتمادات
المالية لتلبية احتياجات قواته دون جدوى، فهو حتى لم يُهدد بالاستقالة على حد
علمي، بعكس مدكور أبو العز الذي هدد بالاستقالة ما لم تستجب القيادة لطلبه في عمل
الدشم لحماية الطائرات، فاستجابت القيادة.
***
في الفصل الرابع يعرض الجزء الثاني من مذكرات الفريق
فوزي في كتابه (استراتيجية المصالحة)، وقد كتبت عنه مراجعة مستقلة هنا.
***
وفي الفصل الأخير، ينقل لنا شهادة الفريق صلاح
الدين الحديدي عن رئاسته للمحكمة التي حاكمت قادة الطيران، وذلك نقلاً عن
حوار تم معه في مجلة الشباب، ويذكر أن محكمةً أخرى كانت مختصة بمحاكمة ضباط الجيش
وصدر عنها أحكام قاسية، بخلاف الأحكام التي صدرت من محكمته وكان أقصاها سجن 15 سنة
لقائد الطيران، وبراءة بعض المتهمين، وطلب منه الفريق فوزي تأجيل نشر الأحكام لحين
انتهاء المحكمة الأخرى من عملها وتُنشر الأحكام سوياً، فكانت النتيجة أن الناس
قرأوا في الجرائد حكماً بالسجن على قائد الطيران وبجواره حكم بالإعدام على ملازم
ثانٍ، وهكذا، فثار الناس واندلعت المظاهرات الشهيرة في 68، وأعيدت المحاكمة مرة
أخرى، ونفس من حصلوا على البراءة حصلوا عليها مرة أخرى، أما أصحاب الأحكام فزادت
مدة أحكامهم فقط لتهدئة الرأي العام.
وإلى هنا ينتهي هذا الكتاب الهام، والذي يجمع شهادات تحتاج إلى قراءتها ومقارنتها
بغيرها في طريقنا لاستكمال الصورة عن الهزيمة ومسبباتها، ومقارنتها بواقعنا، كي
ندرك إلى أين نحن ذاهبون!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق