الأربعاء، 18 يونيو 2025

استراتيجية المصالحة: الجزء الثاني من مذكرات الفريق أول محمد فوزي

 


هذا الكتاب هو الجزء الثاني من مذكرات الفريق محمد فوزي، بعد كتابه (حرب الثلاث سنوات).

بدأ فوزي الكتاب بتمهيد أكاديمي طويل عن الاستراتيجيات العسكرية المختلفة وأساليب إعداد الدولة للحرب، ليصل لمفهوم استراتيجية المواجهة الشاملة، والغرض الأساسي من تلك المقدمة هو إثبات أن هذه الاستراتيجية كانت هي استراتيجية الدولة والقوات المسلحة حتى وفاة عبد الناصر، أما الاستراتيجية التي سار عليها السادات من بعده، فهي ما أسماه (استراتيجية المصالحة)، والتي اعتبر أنه لا مكان لها لمن يريد استرداد حقوقه كاملة.

بعد ذلك عرض ما يعتبر ملخصاً للاستعدادات العسكرية خلال مرحلة ما بعد الهزيمة، وهو ما فصله في الجزء الأول، ثم انتقل إلى الحديث عن وفاة عبد الناصر، وانتقال السلطة إلى السادات.

استفاض في وصف شخصية السادات ولجوئه للمناورات، وهو وصفٌ نتفق معه بالطبع، وكان المبرر الرئيس لما رآه من توجهات السادات هو تخلي الأخير – في نظره – عن قرار الحرب، وسعيه للحلول السياسية والدبلوماسية بغية تجنب الخسائر في الأرواح.

والحقيقة أن فوزي في مذكراته بجزئيها، يُصر على نقطتين: الأولى هي أن مصر كانت قد استكملت استعداداتها العسكرية للحرب، وكان لديها خطة شاملة للتحرير، وفي انتظار القرار السياسي لبدء العمليات، والثانية، هي أن الدعم السوفييتي كان يسير بشكل سلس ولم يتبق لاستكمال الاستعدادات سوى وصول صواريخ للدفاع الجوي للدفاع عن الصعيد، لكنها لا تؤثر على بدء العمليات حيث يمكن الدفاع بواسطة الطيران، ويدعي أن السادات اتخذ هذه المعلومة ذريعة لتأجيل قرار الحرب بدعوى أنه لا يمكن أن يحارب والصعيد مكشوف.

وقد ناقشت هذه النقطة في تعليقي على مذكرات فوزي ومذكرات صادق، ومع التسليم بصعوبة تصديق أن القوات المسلحة حتى مايو 1971 خطة هجومية حسب شهادة صادق – وهو ما يدين صادق نفسه الذي كان رئيساً للأركان منذ عام 1969 – فإنه من الناحية الأخرى، من غير المنطقي أن يكون الخلاف الأساسي بين صادق من جهة، والشاذلي والسادات من جهة أخرى، هو الوصول للمضايق أو الاكتفاء بتحرير 12 كم شرق القناة طبقاً للإمكانيات المتاحة وقتها، في حين يدعي فوزي أن الإمكانيات كانت متاحة في 1970 لتحرير الأرض كلها وصولاً إلى الحدود.

وفوزي في وصفه التفصيلي لتطور الأحداث خلال فترة معايشته للسادات لا يكتفي فقط بتكرار عزوف الرجل عن الحرب، ولكن يريد أن ينقل لنا صورة أنه كان متجاوزاً للمؤسسات الدستورية وساعياً للانفراد بالقرار، وهذا أمرٌ مضحكٌ جداً، لأنه يظهر فوزي وبقية مجموعة 15 مايو بمظهر المتباكين على الديمقراطية التي سيذبحها استبداد السادات، في حين أنهم جميعاً عاشوا حتى مماتهم يسبحون بحمد عبد الناصر، الذي رسخ مباديء الاستبداد الحديث في الدول العربية كلها.

وكذلك يبدو في حديثه بصورة الرجل المنضبط الهاديء الذي يتعامل مع الرئيس بكل احترام، وينقل لنا مثلاً روايته لاجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمناقشة مشروع الاتحاد الثلاثي بين مصر وسوريا وليبيا، وفي حين ينقل لنا محمد صادق في مذكراته أن فوزي بدأ الاجتماع بعرض رأيه المعارض للاتفاقية -  في حين أن المتبع غالباً أن القائد العام لا يبدأ بعرض وجهة نظره حتى لا يُصادر على آراء الحضور أو يؤثر عليهم – وأنه حرص على حضور الجلسة كلها والتأكد من أن بقية الحضور يشاركونه الرأي، في حين يكتفي فوزي بالقول بأن الأمر عُرض على الحضور وأُخذت آراؤهم وأنه ترك صادق ليكمل الجلسة من بعده، وهذه من فوائد الإطلاع على نفس الحدث من روايات مختلفة، ومن خلال الصورة العامة وقراءة الشخصية ومواقفها، يمكن الترجيح بين هذه الروايات.

أما بخصوص موقف السادات من الحرب وسعيه للتسويات السلمية، فقراءتي الشخصية هي أن السادات كان يسير في المسارين، ولكنه كان يحاول الوصول لحل مبدئي بدون قتال، قد يكون هذا للحصول على بريق عالمي كونه أعاد قناة السويس للملاحة – حسب تفسير فوزي – أو قد يكون ذلك حتى يبدو للعالم أجمع أنه استنفد كل الوسائل السلمية، وأمام عناد إسرائيل لم يكن هناك مناصٌ من الحرب، لكن تطورات الأحداث بعد ذلك تؤكد أنه لم يكن بالطبع ضد خيار الحرب كمبدأ، ولكن كتوقيت وأسلوب، مع رفضنا التام لتصرفاته وقراراته خلال الحرب والتي قللت من مكاسب النصر بشكلٍ كبير، ومن الخلل أن يستمر فوزي حتى الثمانينيات في تفسير سياسة السادات بأنها رغبة في التنصل من المعركة وأن قدراته الشخصية أقل من أن يقود الدولة خلال الحرب، في حين أن الرجل بعدها بسنتين قد خاض الحرب فعلاً.

ذكر فوزي بعد ذلك أن السادات في 26 أبريل 1971 اجتمع به على انفراد وأعطاه التوجيه المبدئي لمعركة تحرير الأرض، وأن فوزي طلب من السادات تحديد موعد المعركة بالضبط ليحدد له السادات يوم 20 مايو، ويذكر فوزي أنه بدأ العمل لتحضير القوات المسلحة بناءً على هذا التوجيه، ثم يدعي أنه من مواقف مختلفة في الأيام الثالثة أدرك أن السادات يراوغ ولا نية له لدخول المعركة، فآثر تقديم الاستقالة. ونقل لنا كواليس تقديم الاستقالة بما يخالف تماماً رواية صادق للأحداث، ثم يتحدث عن تحديد إقامته ثم القبض عليه وتقديمه للمحاكمة، وانتقاده لما رآه انحياز من هيئة المحكمة والادعاء ضده، وشهادات شهود النفي والإثبات، وأورد شهادات لعدد من القادة في صفه، كما حاول تفنيد بعض ما ورد في التسجيلات بين بقية مجموعة مراكز القوى، وبالأخص جملة (فوزي حيكون جاهز)، ويريد منا أن نصدق أن المقصود هنا أن جاهز للمعركة!

ومع وجود بعض المنطق في أجزاء من دفاع فوزي عن نفسه، مثل تعليقه على الوثيقة التي أظهرها الفريق صادق بعد موت السادات وبها تكليفات بتحريك بعض الوحدات في المنطقة المركزية، وفسرها صادق بأنها ترتيبات لانقلاب عسكري، ويدافع فوزي عن نفسه قائلاً أن هذه التكليفات تتكرر منه كثيراً، وأنه لو كان في نيته ترتيب لانقلاب، فهل يُعقل أن يسجلها على نفسه في وثيقة مكتوبة، لكن ما نعرفه عن مجموعة مايو وتجسسهم على رئيس الجمهورية وكذلك لقاءات فوزي بهم وآخرها في مكتبه بعد أن كتب استقالته حسب ما كتب، يجعلنا ذلك لا نسلم ببراءة فوزي، أو تصديقه بأن سبب استقالته هو اختلافه مع السادات بخصوص الحرب.

لم يكمل فوزي مدة الحبس، حيث خرج بعفو من السادات في 1974، والتقى بالسادات مرتين بعدها، وفي المرة الأخيرة عام 1977 طلب منه السادات الجلوس مع لجنة برئاسة حسني مبارك لكتابة تاريخ ثورة يوليو ومنها أحداث هزيمة 67، ويذكر فوزي أنه سجل معهم شهادته، وفوجيء بها بعد ذلك تُنشر في شكل حلقات لمدة خمسة أيام بجريدة الأخبار، ومرةً أخرى نجد حديثاً عن هذه اللجنة التي لم نسمع عن أن نتائج أعمالها قد نُشرت أو أتيحت حتى للمؤرخين والباحثين، ولعلها في الأغلب محفوظة في أرشيف رئاسة الجمهورية.

ويُنهي فوزي كتابه بالتأكيد على ما بدأ به، مبرئاً نفسه من كل نقيصة، وناسباً للسادات كل قصور، ولا ننسى للرجل فضله ودوره في إعادة بناء القوات المسلحة بعد الحرب، لكن من مذكراته نفسها يمكننا قراءة شخصيته بما يجعلنا نثق أنها – أي المذكرات – لا تخلو من الغرض والمبالغات والتدليس، والله أعلم. 

الأحد، 15 يونيو 2025

سنوات في قلب الصراع : مذكرات الفريق أول محمد أحمد صادق


 

يعيب هذه المذكرات أنها في الأغلب حُررت من تجميع عدد من مسودات كتبت على فترات زمنية مختلفة، لذا فقد تتكرر بها بعض المعلومات، ولا تلتزم بالترتيب الزمني للأحداث، وفي أحيانٍ أخرى تجد نفس الحدث بتفاصيل مختلفة وبعضها متناقض، ومثال ذلك حادثة الزعفرانة التي رُويت قصتها 3 أو 4 مرات بتفاصيل مختلفة.

بدأ صادق مذكراته بالحديث عن التنظيمات السرية المتعددة داخل الجيش، والتي كان هدفها الأساسي العمل على رحيل الاحتلال الانجليزي، وأنه ظل على تواصل مع بعض هذه التنظيمات على الرغم من عمله ضابطاً بالحرس الملكي، ويذكر أن التنظيمات استقرت في النهاية تحت لواء تنظيم واحد هو الضباط الأحرار، وأن صادق كان على علاقة طيبة بعبد الناصر وعامر، وبعد نجاح انقلاب 1952، قدم نفسه لأعضاء مجلس قيادة الثورة بصفته ضابط بالحرس الملكي، فأحسنوا استقباله، وأعرب عن رغبته في أن يستمر في الحياة العسكرية، وذكر أنه كُلف بقيادة الحرس الجمهوري، ثم تولى أركان حرب القوات المسلحة في سيناء عام 1956، وأنه ابتعد عن الصراعات البينية بين رجال الثورة، وحافظ على علاقة الود بينه وبين عامر وناصر معاً، دون أن يكون محسوباً على أي منهما.

ذكر بعد ذلك أحد المحطات المهمة في سجل خدمته، وهو عمله كملحق عسكري بألمانيا الغربية في عام 1962، وأنه استفاد من موقعه هذا بشكلٍ كبير حيث اطلع على العقيدة العسكرية الغربية، كما كان بداية الاحتكاك بالعمل المخابراتي، حيث كُلف بالاشراف على عمل المخابرات العامة هناك، وخصوصاً بعد اكتشافه لصفقة الأسلحة الألمانية الإسرائيلية، والتي أُجهضت بعد احتجاج مصر رسمياً، كما نجح في تهريب ضابط نازي سابق مقابل تقديمه وثائق متعلقة باليهود والصهيونية.

في أواخر عام 1966 تولى إدارة المخابرات الحربية، ويذكر أنه سعى لتشكيل خلايا من أبناء سيناء للعمل داخل إسرائيل للحصول على معلومات، ثم يصل لمايو 1967 حين وصلت أنباء الحشود الإسرائيلية على حدود سوريا من خلال السوفييت، ويذكر أنه أمر عناصر مدربة ومختارة بالتوجه للحدود الاسرائيلية السورية من داخل إسرائيل للتأكد من صحة هذه المعلومات، ولما تبين عدم صحتها كتب بذلك تقريراً لكل من المشير عامر وشمس بدران، كما أطلع عبد الناصر على هذه المعلومات. ويذكر المعلومة المعروفة من أن الفريق محمد فوزي بعد أن سافر لسوريا واطلع على الحدود بنفسه عاد ليؤكد نفس المعلومة، إلا أن القيادة استمرت في تصعيد الموقف من خلال حشد القوات في سيناء، ويذكر صادق أنه كان على قناعة أن القوات المسلحة المشتتة بين اليمن وسيناء غير جاهزة  للحرب، ويذكر أنه سأل عبد الناصر عن سبب حشده للقوات في سيناء رغم اتفاق تقرير صادق وقوزي عن عدم وجود حشود للعدو على حدود سوريا، ليجيبه عبد الناصر: "هل أصدق معلوماتك يا محمد ولا أصدق معلومات المخابرات الروسية؟"!

ثم يتحدث عن الاجتماع الشهير يوم 2 يونيو، ويذكر أنه قدم تقريراً مصحوباً بخريطة تبين توزيع القوات الإسرائيلية، موضحاً أن العدو يمكنه الهجوم خلال ساعات في فجر 3 يونيو، أو بالأكثر فجر 4 يونيو، وأن عبد الناصر رجح أن الهجوم سيكون 5 يونيو، وأن على القوات الجوية انتظار الضربة الأولى. وأن صادق اقترح إخلاء مطارات سيناء ولكن قائد الطيران اعترض.

وهنا لابد أن نتوقف لنذكر أنه من المفهوم أن يسعى المرء لتبرئة نفسه وتحسين صورته أمام محكمة التاريخ، لكن ما يذكره صادق هنا يتناقض تماماً مع كل ما أجمعت عليه شهادات بقية القادة العسكريين، وعلى رأسهم شهادتي الفريق مرتجي والفريق فوزي، وفي مذكرات كل منهما وردت تقارير المخابرات الحربية بشكلٍ يومي، ويتضح منها أن المخابرات في البداية أيدت معلومات السوفييت بوجود حشود على حدود سوريا، ثم عادت لتطلب التريث، وبعد ذلك أخطأت في تحديد أماكن تركز حشود العدو أمام جبهة سيناء، فحددت أن تركزها في مواجهة المحور الجنوبي، وبالتالي تحركت أغلب القوات المصرية لتحتشد في هذا الاتجاه، ليتضح أن ذلك كان خداعاً من العدو الذي كان اقتحم بقوته الضاربة من المحور الشمالي، أضف إلى ذلك أن تقرير المخابرات الحربية يوم 2 يونيو المشار إليه ذكر بالنص طبقاً لشهادة الفريق فوزي: "إن إسرائيل لن تُقدم على عمل عسكري تعرضي، وإن الصلابة العربية الراهنة ستجبر العدو بلا شك على أن يُقدر العواقب المختلفة المترتبة على اندلاع شرارة الحرب في المنطقة"، وكما نرى، فإن هذا التقرير لا يعدو كونه كلاماً إنشائياً وخطابياً، بخلاف كونه عارياً عن الصحة،

ومع ذلك، يخصص صادق فصلاً كاملاً لمناقشة دور المخابرات الحربية في الحرب، ويكرر أن معلوماته كانت أقرب للدقة والصحة في حدود الإمكانات المتاحة، وأن أحداً لم يأخذ بتحذيراته، وتحدث عن لجنة سوفييتية بقيادة المارشال زاخاروف قدمت لمصر وأجرت تحقيقاً محايداً للوقوف على أسباب الهزيمة، وكانت المخابرات الحربية ضمن من خضعوا للاستجواب، وأن التقرير النهائي للجنة أشادت فيه بتقارير وخرائط المخابرات الحربية، وأنها لم تكن تختلف عما حدث من العدو بالفعل!، ويذكر صادق أن التقرير طبع من نسختين وُجهت إحداهما لوزارة الحربية والأخرى لرئاسة الجمهورية، وأنه عندما صار رئيساً للأركان ثم وزيراً للحربية وجد أن هذا التقرير اختفى، وأن آخر معلومة عنه أنه كان في مكتب الفريق فوزي، وكذلك لم يجد النسخة التي سُلمت لعبد الناصر، ويذكر صادق أن التقرير وضح وكشف المسئولين عن الهزيمة، وربما كان هذا سبب اختفاء التقرير، كما يذكر أنه في اجتماع مع عبد الناصر بعد عام من الهزيمة، تكرر الحديث في الاجتماع عن أن إخفاق المخابرات الحربية كان من أسباب الهزيمة، فطلب عبد الناصر خرائط المخابرات الحربية في الفترة السابقة للحرب وقارنها بمواقع العدو الفعلية ليجد أن نسبة التطابق في حدود 80%، ليقول لهم بعدها: عايزين إيه من المخابرات الحربية أكتر من كدة؟، ثم يحاول صادق تفنيد ما ورد في مذكرات الفريق فوزي من هجوم على المخابرات الحربية، وقد نتفق مع جزء من دفاعه، وهو أنه ليس ذنب المخابرات أن القيادة لم تتصرف وفق المعلومات التي أرسلها مكتب مخابرات العريش صباح 5 يونيو عن تحركات العدو واستعداده للهجوم، وقد نتفق أن تحريك القيادة للوحدات العسكرية في سيناء بما يخالف الخطة قاهر كان نابعاً من قناعات لديها أكثر مما هو متعلق بتفرير المخابرات الحربية رقم 13 الصادر يوم 26 مايو عن وجود حشود للعدو بالمحور الجنوبي، وخصوصاً أن هذه التحركات بدأت قبل صدور التقرير وبعد التوجيه السياسي بتأمين شرم الشيخ والدفاع عن رفح، والتفكير في عملية تعرضية في إيلات، ولكن صادق في الوقت ذاته لم ينف أن تقريره ذلك كان خاطئاً، كما تجاهل نص التقرير الخاص بيوم 2 يونيو الذي أورده فوزي في مذكراته والذي ينفي قدرة العدو على أي عمل تعرضي، وتجاهل كذلك الحديث عن خطأ تقدير مدى طائرات الميراج الإسرائيلية، وقنبلة الممرات، كما انتقى من شهادة اللواء الدغيدي ما يعضد موقفه، في حين أن اللواء الدغيدي اعتبر صادق أحد المسئولين الأساسيين عن الهزيمة، ولم يُعنى بتجميع تقارير المخابرات بشكل يومي وعرضها في شهادته هذه، وأعتقد أن ذلك بسبب أن بعضها سيدينه، وبذلك فإن الخلاصة أن صادق انتقى ما يمكن أن يجد به ثغرات يرد بها، كما حاول قلب الطاولة بانتقاد فوزي نفسه والإشارة لعدد من أخطائه وكونه المسئول العسكري الأساسي بحكم منصبه، وضرب مثلاً بأن فوزي رد على استفسار من قائد القوات الجوية بعد بداية الحشد، ويخبره فوزي بألا يشغل باله لأن الحشد ليس أكثر من مظاهرة! وفي كل الأحوال، فإنه ليس للباحث وسيلة يتأكد من خلالها من دقة هذه الشهادات المتضاربة، إلا بالرجوع للوثائق وأصول تقارير المخابرات خلال هذه الفترة، وهي بالطبع غير متاحة أمام الباحثين، لذا ستظل الحقيقة هنا غائبة، ولو أني أرجح أن الفريق صادق في هذه الجزئية لم يكن دقيقاً أو صادقاً، لأنه من الصعب أن تتواتر بقية شهادات القادة – الذين تباينت مواقعهم ومواقفهم - ويتواطأوا على الكذب في هذا الأمر، والله أعلم.

يتحدث صادق بعد ذلك عن بدء الحرب وتحطم السلاح الجوي وقرار الانسحاب، ويدعي اتصاله بالمشير عامر والحديث معه بشكل منفعل ومقارنته بين الانسحاب المنظم في 56 مقارنةً بالنسحاب العشوائي في 67، ودفعه لسرية بقيادة الشهيد إبراهيم الرفاعي لعرقلة قوات العدو لحين إتمام الانسحاب. وبعد وقف إطلاق النار، وجه ضباط المخابرات الحربية بالتعاون مع خلايا ابناء سيناء لتجميع الجنود الشاردين الذين لم يتمكنوا من الوصول للقناة، وكذلك لنسف مخازن الأسلحة حتى لا يستفيد منها العدو.

بعد ذلك انتقل إلى الحديث عن مرحلة الصراع على السلطة بين مراكز القوى والسادات، ومحاولة فوزي لاستمالته لجانبه، والتعليمات الكتابية التي حررها له في أبريل 71 والتي لا معنى لها سوى الترتيب لانقلاب، وقراره إخفاء هذه الورقة حتى لا تتسبب في إعدام المشاركين، وانحياز صادق للشرعية وتوليه وزارة الحربية.

في الفصلٍ التالي تحدث عن أحداث أيلول الأسود وتكليف عبد الناصر له بالسفر إلى عمان للتفاوض مع الملك حسين، وتهريب ياسر عرفات إلى مصر، وقد نجح في هذه المهمة، ثم في فصلٍ تالٍ يتحدث عن نجاحه في مهمة أخرى، وهي إحباط الانقلاب الشيوعي في السودان، بدون الحاجة لأي تدخل عسكري.

خصص بعد ذلك فصلاً للحديث عن أعمال الوحدة 39 قتال بقيادة الشهيد إبراهيم الرفاعي، والأعمال المختلفة التي قاموا بها للتسلل خلف خطوط العدو وأعمال الاستطلاع والنسف وزرع الألغام والاستيلاء على بعض المعدات وأسر الجنود، وبعض العمليات تمت داخل فلسطين المحتلة نفسها انطلاقاً من الأردن.

انتقل بعد ذلك للحديث عن سياسة السادات العسكرية، وبدأها بإشاراتٍ لمساعي السادات من قبل توليه السلطة التقرب من قادة القوات المسلحة ونسج العلاقات معهم، ثم أشار إلى أن السادات في أول اجتماع مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 19 أكتوبر 1970، أشار بشكلٍ مقتضب عن تصوره "لمعركة محدودة تقتحم فيها قواتنا القناة وتحرر بضعة سنتيمترات شرق القناة، بعدها تتدخل الدول لوقف النار، وتتجه للسلام مع إسرائيل"، ولم يعط أحدٌ من الحضور الاهتمام الكافي لهذا التصور وقتها، ولكن الشهادات المختلفة لمن تعاملوا مع السادات خلال مرحلة ما قبل الحرب يجد أن هذا التصور كان لديه منذ وقتٍ مبكر.

ذكر صادق أن السادات كان ينوي تعيين أحمد إسماعيل وزيراً للحربية خلفاً لفوزي، لكنه عدل عن قراره عندما وجد سيطرة صادق على القوات المسلحة وخشي من تحركٍ ضده، فأجل هذا القرار لمرحلةٍ أخرى وعين إسماعيل مديراً للمخابرات العامة، وأخذ رأي صادق وكذلك إسماعيل فيمن يتولى منصب رئيس الأركان، ورشح صادق 5 أسماء منهم الفريق عبد القادر حسن، وسعد الشاذلي، وفي موضعٍ من الكتاب ذكر أن تقرير إسماعيل عن عبد القادر حسن كان سلبياً، في حين أننا نعلم تاريخ العلاقة السيئة بين الشاذلي وإسماعيل، وفي موضعٍ آخر يذكر أن السادات هو من استبعد عبد القادر حسن لأنه اعتبره من رجال صادق، ولم يشأ أن يكون الوزير ورئيس الأركان يداً واحدة، المهم، تم اختيار الشاذلي، واستوقفني وصف صادق له بأنه  "كثير الضجيج والدعاية لنفسه، إلا أنه رشحه لكونه ضابط وطني وشجاع ومنفذ جيد للأوامر".

سنجد في الاجتماعات التي حضرها السادات مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة تأكيداً على فشل المسار السياسي وأنه لا بديل عن الحرب، وشكاوى قادة الأسلحة من عدم اكتمال استعداداتهم لتأخر وصول بعض المعدات من الاتحاد السوفييتي، وغياب قوة الردع الجوي لتخلف الطائرات السوفييتية عن نظيرتها الأمريكية، وقدرة العدو على الوصول لعمقنا بينما لا نتمكن من الوصول لعمقه، وتكرر تبني الشاذلي لفكرة الحرب المحدودة في ضوء ما لدينا من إمكانات، وخصوصاً أنه كلما مر الوقت، فإن الفجوة بين طيراننا وطيران العدو تتسع ولا تضيق. وكل هذا يؤكد أن ما أورده الفريق فوزي في شهادته عن جاهزية القوات المسلحة لتحرير كامل سيناء بنهاية عام 1970 لم يكن صحيحاً، وحتى كلامه المعسول عن التعاون السوفييتي وتسهيلاته في شروط الدفع، تتناقض مع ما ورد في شهادة صادق وغيرها من الشهادات، ويذكر صادق على سبيل المثال إن إحدى الصفقات أصر السوفييت على أن تُسدد قيمتها فوراً وبالعملة الصعبة، فتعذر تنفيذها. هذا بخلاف المماطلة في تسليم دفعات السلاح، وقطع الغيار، وتزويدنا بأسلحة دفاعية لا هجومية..إلخ.

ويؤكد صادق أنه حتى توليه منصب وزير الحربية لم تكن للقوات المسلحة خطة هجومية، كان موجوداً فقط هي خطة دفاعية بإسم (الخطة 200) – وهي ما أوحى لنا فوزي في مذكراته أنها خطة لتحرير سيناء - وتحدث عن المشروعات الاستراتيجية التي خاضتها القوات المسلحة بشكل تدريبي وذكر أنها كانت تتم بفرضية أن قواتنا تمتلك عناصر وقوة غير متاحة فعلياً وقت المشروع، لكنها يجب أن تتوافر مستقبلاً كتوازن للقوى، وعلى هذا يمكن أن نرجع للمشروع الاستراتيجي الذي تحدث عنه الفريق فوزي في شهادته والذي ذكر أنه تم في مارس 1971، وأكد قدرة قواتنا على تنفيذ ما أسماه الخطة جرانيت، وبتوضيح صادق يتبين لنا تدليس الفريق فوزي في هذه المسألة.

تحدث صادق بعدها عن بدء التوجه لرسم خطة الهجوم في ضوء الامكانات المتاحة وغياب الردع الجوي، وقدرة شبكة الدفاع الجوي من طراز سام 2 على الدفاع عن منطقة القناة، بينما نحتاج لصواريخ سام 6 لحماية القوات المتقدمة. وتحدث بعدها عن الخلاف بينه وبين الشاذلي، حيث رأى صادق أنه من اللازم أن تتقدم القوات إلى الممرات وتتحصن بها، بينما رأى الشاذلي أن الإمكانات المتاحة لا تسمح سوى بتكوين رؤوس كباري والاحتفاظ بمسافة 12 كم فقط شرق القناة، وأننا سننتظر سنوات قبل أن يكون لدينا الإمكانات للوصول للممرات، واستمر صادق على رأيه بأن الاكتفاء بتكوين رؤوس الكباري والتصور أنها ستكفي لصد الهجمات المضادة للعدو تصور ساذج، وأن العدو سيسعى لعمل ثغرة غالباً في منطقة الدفرسوار، أو التطويق من الأجناب المكشوفة، أما الوصول للمضايق فيضمن وجود حاجز دفاعي طبيعي، ويمكننا من نقل بطاريات الدفاع الجوي لحماية قواتنا هناك، وبناءً على هذا الخلاف اتفقا على عمل خطتين، الأولى اسمها (العملية 41) ثم أصبح اسمها (جرانيت 2) وهدفها الوصول للممرات، وأطلعوا عليها السوفييت بغية إشراكهم في الاحتياجات المطلوبة للقوات المسلحة، والخطة الثانية هي رؤية الشاذلي واسمها (المآذن العالية)، واقتصر العلم بها على كبار القادة المصريين. وفي مرحلة لاحقة لتضييق الفارق بين الخطتين، تم تقسيم الخطة جرانيت إلى مرحلتين، المرحلة الأولى مماثلة لخطة المآذن العالية، والثانية يُطور فيها الهجوم للمضايق طبقاً وما يستجد من إمكانيات. وقد غمز صادق الشاذلي وقرر أنه كان متجاوباً مع السادات في رؤيته للحرب المحدودة طمعاً في منصب وزير الحربية، لكن صادق مع ذلك أثنى عليه وعلى دوره في التخطيط للحرب وأنه بدون الشاذلي لم يكن ليتحقق الإنجاز في أكتوبر 73. وفي العموم، يذكر صادق أن الخطتين كانتا جاهزتين حتى موعد إقالته، وأن الوزير الذي خلفه –أحمد إسماعيل- عُرضت عليه الخطتان واختار خطة المآذن العالية التي صار اسمها (بدر) والتي كانت القناعة المشتركة للسادات والشاذلي، ولم يضف لها أحمد إسماعيل إلا لمسات بسيطة في ضوء ما استجد من إمكانات.

تحدث صادق بعد ذلك عن تجهيز مسرح المعركة، واستعدادات الأسلحة المختلفة، وكذلك تطوير العنصر البشري، ولفت نظري أن من ضمن الاستراتيجية الجديدة "نبذ خطة رفع الروح المعنوية التي كانت مطبقة حتى يونيو 67، والتي تستند إلى الفكر الاشتراكي والدفاع عن المكتسبات الاشتراكية، والبحث عن خطة جديدة تستمد عناصرها من الدين والوطن"، وخصص فصلاً للحديث عن الساتر الترابي وكيفية الحصول على الطلمبات اللازمة لعمل الثغرات به والسرية التي أُحيطت بهذا العمل، ثم تحدث عن مشروع عمليات لم تنفذ، عملية طارق بن زياد للسيطرة على شرم الشيخ والطور، وعملية هجوم على حيفا.

خصص صادق بعد ذلك عدداً من الفصول تكلم فيها عن العلاقة مع السوفييت والتواجد السوفييتي في مصر، ومن المعروف أن العلاقة بين السوفييت وصادق كانت شديدة التوتر وبعيدة عن الدبلوماسية، لدرجة أن المارشال جريتشكو وزير الدفاع السوفييتي قال للسادات في موسكو أنه سيسافر لمصر لتحطيم أسنان صادق، واكتفى السادات بالضحك، وتحدث صادق عن المحاولات المتكررة من السوفييت للحصول على قواعد لهم في مصر، وإغراء القيادة السياسية والعسكرية بامتيازات مقابلة منذ عهد عبد الناصر، بل وأنهم استغلوا ظرف الهزيمة وكرروا الطلب يوم 6 يونيو حينما طلب منهم عبد الحكيم عامر تعويضنا عما خسرنا من طائرات، ويكرر صادق ذكر المواقف السلبية لما اعتبره – وهو محقٌ في ذلك – احتلالاً سوفييتياً، ومنها تورط بعض المستشارين السوفييت في تهريب البضائع والذهب خارج مصر، ومنع دخول المصريين بعض القواعد المتاحة لهم، كما تحدث عن دور القيادة السوفييتية في إفساد العلاقة بينه وبين السادات، ومحاولة تحريض كل منهما على الآخر.  وفي جزء من هذه الفصول، أشار إلى شكوكه في وجود علاقة مريبة بين السوفييت وأحمد إسماعيل!

وفي الفصول الأخيرة، استغرقه الحديث عن المناورات السياسية الداخلية ومساعي السادات لإزاحته، وما رآه من مساعي كلٍ من أحمد إسماعيل والشاذلي للوثوب مكانه، وينتقل لكواليس الاجتماع الشهير للمجلس الأعلى للقوات المسلحة مع السادات في 24 أكتوبر 1972، واختلافه في الرأي هو وبعض القادة مع السادات، وحرصه على تسجيل محضر هذا الاجتماع وتوزيعه على مستويين أقل في القيادة، والغريب أنه لم يهتم بإدراج المحضر نفسه في الكتاب ليشاركنا تفاصيله، ولكنه ذكر أن الصحفيين المحسوبين على السادات بإيعازٍ من الأخير قد نشروا محضراً مزيفاً يبدو فيه تقاعسه وعدم رغبته في القتال، وذلك بغية تحطيمه معنوياً، ومن يقرأ كتاب البحث عن الذات للسادات أو يشاهد الفيلم المستوحى منه سيجد صورة شديدة الكاريكاتورية لا تُعقل ولا تليق بالرجل.

وبهدا تنتهي مذكرات رجلٍ تولى قيادة القوات المسلحة في مرحلة دقيقة من تاريخها، وقد وصلتنا شهادات من سبقوه ومن خلفوه، وكلها تحمل وجهات نظر مختلفة، بعضها قد صار الرواية الرسمية، لكن تبقى هذه الرواية المفقودة مهمة لإكمال الصورة، مع عدم تسليمنا بصواب كل ما فيها، بل إن بعضها من الواضح أنه محاولة لتبرئة النفس، وهذا مُتفهم بطبيعة الحال، لذا فإنه لا غنى للقاريء عن مقارنة هذه الشهادة بشهادات المعاصرين له، سواء المتفقين أو المخالفين، وبالأخص شهادات الشاذلي والجمسي ومحمد فوزي، وسيكون من المفيد أيضاً الاطلاع على كتابٍ آخر لمحرر هذه المذكرات (عبده مباشر) يحوي فيه تفاصيل أخرى عن الرجل لم تُذكر هنا، والكتاب بعنوان (أنا وعبد الناصر والسادات: سطور من السيرة الذاتية)، وقد سبق لي كتابة مراجعة مستقلة عنه هنا

أنا وعبد الناصر والسادات: سطور من السيرة الذاتية


 

طالعت هذا الكتاب رغم موقفي السلبي من كاتبه، لما أتذكره مما كنت أقرأه له في الأهرام منذ زمن، لكن هذا الكتاب في رأيي يستحق القراءة. فقد أتاحت ظروف عمل الكاتب كمحرر عسكري ومراسل حربي وكذلك كمستشار صحافي لوزير الحربية الاقتراب من عدد من قيادات القوات المسلحة، وصولاً إلى الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، وفصول هذا الكتاب تضم عدداً من المواقف التي جمعته بالرجلين، مع التمهيد التاريخي لسياق كل موقف.

كان اللقاء الأول مع عبد الناصر في عام 1965، على خلفية لقاء عبده مباشر بالملك فيصل، وقد سافر مباشر للسعودية عقب اتفاق جدة بين عبد الناصر وفيصل للاتفاق على إنهاء النزاع في اليمن.

التقى مباشر في بداية وصوله للسعودية بعدد من رجال الأعمال والأمراء السعوديين، وكانوا جميعاً يتكلمون معه بتحفظ بعيداً عن الخوض في السياسة، باستثناء الأمير الشاعر عبد الله بن فيصل، ومدير المخابرات السعودية كمال أدهم، حيث صارحه كلٌ منهما على حدة بأنه على استعداد لإنفاق كل ما يملك نظير أن يركع عبد الناصر، وكان رد مباشر عليهما أن ناصر لن يركع أبداً.

بعد ذلك التقى الملك فيصل بشكل يستحق أن يُذكر، فقد طلب من وزير الإعلام السعودي تحديد موعد لمقابلة الملك فيصل، وتصور أن الوزير سيتصل بالقصر طالباً تحديد موعد للمقابلة، لكنه فوجيء بالرجل يقول له بكل بساطة: اذهب وقابله، فذهب مباشر لبوابة القصر الملكي ودخل دون أن يستوقفه أحد، إلى أو وصل لمكتب الملك، وطلب من السكرتارية مقابلة الملك، وانتظر إلى أن سمح له بالدخول، وقابل الملك وأجرى معه حواره الصحفي.

يظهر جلياً من هذا الحوار قدر الزهد والبساطة في حياة فيصل، وكذلك كياسته ورزانته وقدراته السياسية العالية، فعندما حكى له مباشر ما جرى له مع كمال أدهم وعبد الله الفيصل، استنكر الملك كلامهما، وذكر عبد الناصر بالخير، وظل طوال الحوار على نفس الوتيرة من الهدوء والرزانة والوقار.

عاد مباشر لمصر والتقى مصطفى أمين وعرض عليه الحوار الصحفي، فأرسله مصطفى أمين لعبد الناصر لأخذ الإذن في نشره، وحينها طلب عبد الناصر مقابلة مباشر، وحين قابله طلب منه أن يقص عليه كل تفاصيل الزيارة وكل ما سمعه، وجعله يعيد عليه الحكي ثلاث مرات لكي يكتشف أي ثغرة في كلامه توحي بالكذب، ولما اطمأن له مدح مجهوده، لكنه أعلمه بأن الحوار لن يُمكن نشره، وكان السبب غير المعلن هو أن نشر هذا الحوار سيكون في صالح فيصل الذي سيظهر بمظهر العاقل المتسامح الذي يذكر ناصر بالخير رغم تطاول الأخير عليه لدرجة قوله في إحدى خطبه أن سينتف ذقنه.

في الفصل التالي تحدث عن المجموعة 39 قتال بقيادة إبراهيم الرفاعي رحمه الله، ذكر ببداية الفصل أن قرر السفر لألمانيا لاستكمال دراسة الصحافة، وحينما هُزمت مصر في يونيو 67، قاد حملة لجمع التبرعات من الطلبة والمقيمين المصريين والعرب هناك، وبقيمة التبرعات تم شراء كميات من الأدوية والاحتياجات وشحنها إلى مصر، وقطع دراسته وعاد لمصر لاستكمال عمله كمراسل حربي.

ذكر مباشر كواليس تعرفه على إبراهيم الرفاعي وقربه منه ومشاركته في طوابير السير مع قوات الصاعقة، ثم طلبه المشاركة بصفته المدنية في عمليات المجموعة 39 قتال، وموافقة الرفاعي ومدير المخابرات الحربية (اللواء محمد صادق) ورئيس الأركان (الفريق الشهيد عبد المنعم رياض) واعتراض الفريق محمد فوزي وزير الحربية رغم توقيع مباشر لإقرار بأنه مشارك على مسئوليته دون أي مسئولية على القوات المسلحة، ثم موافقة عبد الناصر على منحه هذا الاستثناء، وبدء مشاركته الفعلية مع المجموعة في العمليات خلف خطوط العدو في سيناء. وتعدد لقاءاته مع عبد الناصر إثر ذلك، حيث كان يتابع العمليات الفدائية، وينتظر بعد نهاية كل عملية مقابلة الرفاعي وبصحبته مباشر لكي يعرضا عليه تفاصيل العملية. ويذكر مباشر أنه مع ذلك اشترك في مظاهرات الطلبة عام 68 وعلم عبد الناصر بذلك ولكنه تصرف كرجل دولة ولم يعتقله، بل ذكر أن وجود مباشر بين صفوف الفدائيين أفيد للبلد من وجوده في المعتقل.

وهنا أستطرد قليلاً في الحديث عن الفريق صادق، فقد تعددت المواقف التي يًذكر فيها اللواء – ثم الفريق فيما بعد – محمد صادق، في هذه المذكرات، ما بين إدارة المخابرات الحربية، مروراً برئاسة الأركان، وانتهاءً بتوليه وزارة الحربية، إلى أن عزله السادات في أواخر 1972 وعين بدلاً منه المشير أحمد إسماعيل. والحقيقة أن شخصية الفريق صادق كما تظهر هنا تختلف بشكلٍ كبير عن الشخصية التي صورها لنا السادات في مذكراته، فصادق هنا هو مبدئياً صاحب اقتراح بدء حرب الاستنزاف واستطاع إقناع عبد الناصر بذلك، وأن بداية النضال ستكون تحت مظلة فدائيي منظمة سيناء العربية، وصادق هو الذي منع من موقعه كرئيس أركان حدوث إنقلاب عسكري فور وفاة عبد الناصر، وهو كذلك الذي رفض أن يخوض الجيش في الصراع الدائر بين السادات ومجموعة مراكز القوى ومن ضمنهم وزير الحربية الفريق فوزي، وأرسل مباشر إلى السادات برسالة طمأنة شدت من أزر السادات، وكذلك هو الذي لمح لقائد الحرس الجمهوري الليثي ناصف أنه لو فكر في الإنقلاب على الشرعية، فإن الجيش لن يمكنه من ذلك، وهو الذي أدار من موقعه كوزير حربية خطة القبض على قادة الإنقلاب على النميري في السودان، وهو الذي رفض بإباء إهانة القذافي حين أرسله السادات لليبيا لطلب دعم مالي لشراء الأسلحة بمبلغ سبق أن دفع القذافي مثله قبل أيام لشراء مواد غذائية تحتاجها مصر، ولم يكن السادات قد أعلم صادق بهذا، فقال القذافي منفعلاً: أنا لا أستطيع أن أطعم مصر وأسلحها في الوقت ذاته، فقام الفريق صادق على الفور منهياً المقابلة وأعلن أنه سيعود إلى مصر مما اضطر القذافي وأعوانه إلى استرضائه والاعتذار منه عما بدر منهم.

الخلاصة أن هذه الشخصية تختلف عن الشخصية التي نقلتها لنا الرواية الساداتية بشكل كاريكاتوري، والذي أميل إليه الآن أن استغناء السادات عن صادق ليس بمعزلٍ عن ما آلت إليه الأمور مع الليثي ناصف وهيكل وغيرهم، فمن منظور ميكيافيللي صرف، فإن الحاكم لا يحب بقاء الرجال الأقوياء الذين عاصروه في أقصى مراحل ضعفه، والذين كان لهم الفضل عليه، خشية أن يناطحوه يوماً ما!

تحدث الكاتب أيضاً عن القذافي، فعند وصول القذافي ورفاقه للسلطة عقب انقلابهم على الملك السنوسي عام 69، شعر عبد الناصر بتاريخه الانقلابي بالقلق وأراد سبر غور جاره الجديد والذي لم تكن صورته حتى معروفة، فأرسل إليه هيكل وبصحبته مصور صحفي ليلتقط للقذافي ورفاقه مئات الصور، وكان عبد الناصر يدرس الشخصيات من خلال تأمل صورها، وأكمل تصوره للشخصية من خلال تقرير هيكل عن المقابلة.

حينما قدم القذافي ورفاقه لمصر في أول زيارة لهم، وجههم عبد الناصر لزيارة الجبهة قبل لقائه، كي يلتقوا بالفريق صادق، بحيث ينقل صادق بدوره إنطباعه عنهم قبل أن يلتقيهم عبد الناصر. ومن لقاء صادق بهم تبدت طباع القذافي وعقليته ونزقه، فمع استفسار القذافي عن سير عمليات حرب الاستنزاف، اقترح بكل جدية نقل 3 فرق من المدرعات والمشاة الميكانيكية من الجبهة المصرية للجبهة السورية التي لا يوجد فيها مانع مائي كقناة السويس، وبالطبع لاقى اقتراحه استحسان الوفد الليبي، لكن الفريق صادق رد عليه بهدوء باستحالة هذا الحل عملياً وعدم توفر امكانياته، ومع ذلك أصر الليبيون على استحسان رأي القذافي واعتباره عبقرياً!

بعد لقاء عبد الناصر بالقذافي ورحيل الأخير، استمر عبد الناصر في استطلاع انطباعات المحيطين به عن القذافي، ويحكي عبده مباشر أن عبد الناصر حينما سأله عن رأيه في القذافي أجابه بأنه شاب أخرق وخطير، بسبب الموقف الذي ذكرناه آنفاً. والحقيقة أن عبد الناصر سرعان ما تأكد من ذلك من موقفٍ لاحق، فقد طلب القذافي من عبد الناصر تواجد قطع من القوات البحرية المصرية لحماية السواحل الليبية وعرض دفع مقابل ذلك، فرفض عبد الناصر مبدأ الدفع ورد بأن الجيش المصري ليس مرتزقاً وإنه سيوافق على طلب القذافي من منطلق عروبي وقومي، وطلب القذافي أن يتبع قائد القوة البحرية تعليماته مباشرةً، فهادنه عبد الناصر ولكنه طلب من قائد القوات ألا يقوم بأي تحرك قبل إعلامه، وحدث ما كان متوقعاً، فقد طلب القذافي تحرك غواصة مصرية لضرب سفينة سياحية أمريكية قرب السواحل الإسرائيلية، وعندها أصدر عبد الناصر تعليماته للقوة البحرية بالعودة بعد أن أيقن أن القذافي قد خدعه.

انتقل الكاتب بعد ذلك للحديث عن السادات، وجذور معرفته به، ومحطات مختلفة في حياة السادات مروراً بمرحلة توليه منصب النائب في أواخر عهد عبد الناصر، ثم كواليس الصراع على السلطة إلى أن حُسم الأمر لصالح السادات في مايو 1971، ودور عبده مباشر مع الفريق صادق في دعم الشرعية الممثلة في السادات، وكواليس التخلص من الخبراء السوفييت.

يحفل الكتاب المواقف التي تستدعي الوقوف عندها لما تحويه من مواقف مباشرة تكشف جوانب من شخصيتي عبد الناصر والسادات، ومن ضمن ما قرأت، اخترت الفقرتين التاليتين لأنقلهما كما هما:

الفقرة الأولى على لسان عبده مباشر أثناء حضوره مناورة للقوات المسلحة في مطلع الستينيات، فيقول:

"كنت مازلت فى أول الطريق، وأبذل ما أستطيع من الجهد، وقدرت وأنا أرى الرئيس عبد الناصر والمشير عامر يسيران في المقدمة وخلفهما الجميع، أننى لو اقتربت منهما، وسرت خلفهما، فربما سمعت خبراً أو تعليقاً مفيداً أستخدمه فيما سوف أكتبه عن هذه المناورة. فأحدهما رئيس الجمهورية القائد الأعلى، والثانى هو المشير المسئول مسئولية كاملة عن القوات المسلحة والنائب الأول لرئيس الجمهورية. وبعد لحظات رأيت زميلا لهما من مجلس القيادة يأتي من الخلف بخطوات سريعة محاولاً اللحاق بهما، ولاحظ ذلك المشير. فنظر إليه ساخراً وباسماً وسأله: ((أنت عايز تعمل راسك براسنا يا ابن الجارية؟!!)) وشاهدني الرجل وهو يقول ذلك ورأيت نظراته الغاضبة المتسائلة عما أتى بي إلى هذا المكان ؟!.. وكيف تركونى أسير من خلفهما وبكل هذا القرب؟!.. ولكنه ومن قلب الغضب والتساؤلات. كان متأكدا أننى سمعت سؤاله!!

وبخطوات متعثرة عدت إلى الخلف للابتعاد عن نظره تماما وعاصفة من القلق تعصف بي، وعشرات التساؤلات تطل من رأسي، ومخاوف بلا حصر مما يمكن أن يلحق بى.. وكان مفجعا ومدهشاً أن أرى هذه القيادة اليوليوية تتراجع إلى الخلف بخطوات أسرع منى، لتتوارى بعيدا عن نظرات عامر وسخريته اللاذعة المرة.

لقد كان التساؤل عنصريا جارحا، وبه من التطاول والازدراء الكثير حتى ولو كان الأمر مزاحا!!وأقول لنفسى: لو كان الأمر مزاحا ما تراجع الرجل بهذه الصورة.. لقد توقعت وأنا أسمع حديث المشير عامر، أن يطلق العضو اليوليوى النار عليه أو أن يحاول قتله ولو بأظافره، أو أن يقول له ((عيب))على الأقل، أو أن ينسحب غاضبا ويعود إلى القاهرة فوراً، ولكن أى من هذه الاختيارات لم يتحول إلى واقع، وانسحب الرجل وظل على علاقته بالرئيس ونائبه الأول".

وهذا الموقف يكشف جوانب من علاقات هذه المجموعة ببعضها، ونظرتهم للسادات، سواء عامر الذي أهانه مباشرةً، أو عبد الناصر الذي لم يعقب عما حدث أمامه، وكذلك السادات نفسه الذي صبر على هذا الذل حتى جلس مكانهما!

أما الفقرة التالية، فكان على هامش حواره مع جعفر النميري، عقب فشل الانقلاب الشيوعي في السودان:

"وكان الاستفسار التالى حول قبول المواطن السودانى السياسى بالفطرة، عاشق التعددية والتنوع السياسى، فقال: صدقت.. لقد تأكدنا أن التنظيم السياسى الواحد لا يجد القبول من المواطنين السودانيين.

وعدت لأسأله: ولماذا اقتدى بمصر فى هذا المجال؟! ولماذا لجأ للتأميم، والتحول إلى الاعتماد على القطاع العام فى دولة مازالت تحبو فى مجال الصناعة؟!.. فقال: إن الرئيس عبد الناصر وراء تبني الحزب الواحد الذى يضم كل القوى السياسية والتحول إلى طريق القطاع العام، ولم ينتظر الرجل السؤال .. وقال: لقد دار الحوار حول الحفاظ على النظام السياسي، ومخاطر الثورات المضادة.. وكان من أهم ما قاله: إن شعوبنا لا تثور إلا عندما تشبع، وضرب مثلا بثورة 1919 م، حيث تحرك الطلبة، ثم تحرك الفلاحون والمزارعون بعد أن باعوا إنتاجهم من القطن بأس عار قياسية نتيجة لظروف الحرب العالمية الأولى، أما الموظفون فلم ينضموا للثورة إلا بعد أن حصلوا على مرتباتهم، وكانت نصيحته أن يضع النظام دخول الناس تحت سيطرته، وأن يوفر لهم مطالبهم واحتياجاتهم إلى مستوى دون الشبع حتى لا يثوروا.

وقال: إن الذي قدم له هذه المذكرة، أو هذه الدراسة هو الدكتور إسماعيل صبري عبد الله، وقد اقتنع بها وعمل على أساسها."

وهنا لا نملك إلا أن نعلق على السنن السيئة التي استنها عبد الناصر، فباء بإثمها وإثم من عمل بها ممن اتبعه من الحكام العرب، كما لا يمكننا أن نغفل دور المثقفين المحيطين بالسلطة في التنظير للاستبداد، ودعمه بالأدوات والنظريات والأفكار التي تساعد على ترسيخه، ومنهم من فعل ذلك بحسن نية ثم ندم حين ذاق بنفسه سوط السلطة، كالسنهوري وسليمان حافظ - سامحهما الله - ومنهم من ظل حتى آخر عمره داعماً للأنظمة المستبدة، مثل هيكل.

وإلى هنا أختم هذه المراجعة للكتاب، والذي أنصح من يفكر في قراءته ألا يخلط بين الشهادة الحية للكاتب، وبين آرائه، فالشهادات الحية قابلة للتصديق في إطار مقارنتها بروايات الآخرين في نفس المرحلة، أما الآراء فهي قراءة شخصية للكاتب تحكمها خلفيته وأيدولوجيته التي تقبل الاتفاق أو الاختلاف معها.

الأربعاء، 11 يونيو 2025

ساعة عدل واحدة: الكتاب الأسود عن أحوال المستشفيات المصرية


سجل عددٌ من الأجانب مذكراتهم عن الفترات التي عاشوها في مصر، وعملوا بها، وكانت هذه المذكرات فرصة لتسجيل صورة مصر والمصريين في الحقبة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، وذلك بعيونٍ أجنبية عنا، تنظر لنا أحياناً بمنظورٍ منصف، وفي أحيانٍ أخرى بمنظورٍ استعماري.

ينضم هذا الكتاب إلى هذه القائمة من المذكرات، ويعرض تجربة كاتبه د. سيسيل ألبورت في التدريس بجامعة فؤاد الأول والعمل بالمستشفيات المصرية ما بين 1937 حتى 1943، وهو في هذا الكتاب يندد بشكل أساسي من الظلم والقهر والعبودية التي يعيش فيها ملايين الفلاحين المصريين، مقابل السيطرة الفاسدة لحكامهم من الباشوات، وعن الوضع الصحي المتردي في الريف والفقر المدقع ونقص التغذية الذي يودي بحياة الأطفال بمجرد فطامهم ولذا تمد بعض الفلاحات فترة رضاعة الطفل، ويذكر أن معدل وفيات الأطفال في مصر هو الثاني على مستوى العالم ويصل إلى 26.5% من إجمالي المواليد، وهو مع ذلك ينظر لمستبدٍ معروف كاللورد كرومر كإصلاحي كبير عمل لخدمة هذا البلد!، كما نجد بعض التعليقات العنصرية التي لا تتماشى مع هذه المشاعر الجياشة والمتعاطفة مع آلام الفلاحين المقهورين، فهو يقول مثلاً " يجب أن يطرد الشعب الإنجليزى من مخيلته كون المصريين من الشعوب السوداء الأفريقية، ولأنهم نتاج حضارة  متميزة، فإن قدراتهم العقلية تتساوى مع الأوروبى المتوسط فى عموميتها . بعد جيلين، فإن مستوى حضارتهم ستتساوى مع أحسن ما فى الجنس السكسونى الإنجليزي. أما الأفارقة فهم برابرة بلا تاريخ معروف ينتمون لحضارة بدائية، ويحتاجون إلى ثلاثة أو أربعة أجيال ليـتـحـضـروا ويبلغوا مستوى المصرى والأوروبي، إلا أن الإفريقى لا يتساوى مع المصرى إلا في افتقاره لدليل أخلاقي ثابت. الأفريقى لا يمتلك أبدا منهجا ثابتا للتصرفات ترضى عنه المدنية الحديثة، بعكس المصرى الذى يمتلك ميزة وراثته المعايير أخلاقية متميزة استقاها من أجداده الفراعين، وفى العهود الحديثة استقى ذلك من تعاليم نبي الإسلام."، وهو مع نظرته العنصرية يقر بتميز تعاليم الإسلام، وأن جزءاً كبيراً من مشاكل المصريين يرجع إلى عدم تطبيقهم لهذه التعاليم عملياً.


د. سيسيل ألبورت

يتكرر في الكتاب أيضاً الحديث عن الاستعمار الإنجليزي بصورة إيجابية وكأنه جاء فقط للتحديث والارتقاء بالمستوى التعليمي والصحي، وأن الباشوات هم المسؤولون عن معاناة الشعب، وكان من ضمن الفقرات التي أضحكتني قوله "لا ننسى أن فلسفة الحكم الإنجليزي تهتم بالنواحي الإنسانية وتحرم العبودية"، وفي رأيي أنه لا يكرر هذه القناعات من منطق استعماري صرف، فمحتوى الكتاب ينم عن شخصية نظيفة الروح مهما اختلفنا مع بعض أفكارها، لكنه يتكلم عن قناعة بأن الإنجليز كشعب (متمدن ومتحضر) طالما أنه احتل بلداً ما، فإن عليه مسؤولية تجاه شعبها، وأنه من المؤسف أن الإنجليز أنهوا احتلالهم وسلموا البلاد للباشوات الفاسدين، وأنهم يغضون النظرعن تردي الأوضاع مقابل الامتيازات السياسية وخصوصاً في زمن الحرب.


د. سيسيل ألبورت

تحدث عن الطالب المصري، وذكر أنه ذو ذاكرة ممتازة ربما ترجع إلى أن أجداده دأبوا على الحفظ، ويأسف قائلاً أنه فيما يبدو أن مركز الذاكرة في ذهن الطالب المصري قد نما على حساب قدرته على تحكيم المنطق، أي أن معضلة الحفظ والفهم التي عايشها أي منا في دراسته قد وجدها سيسل أمامه في الثلاثينيات، بل يقول إن الطلبة المصريين "يتوقعون دائماً أن يقوم الأستاذ باستخدام ملعقة يسقيهم بها العلم"، وهو يرى أن في طلبة الطب المصريين ضعفاً في الطب الإكلينيكي، كما تحدث عن الطالبات المصريات وأثنى على المستوى العلمي لبعضهن، وإن رأى أنهن كإناثٍ – والنساء في مصر بشكلٍ عام – يتعرضن للتمييز.

تحدث عن الأوبئة المتوطنة في مصر وعدد منها سبعاً من ضمنها البلهارسيا والانكلستوما والدوسنتاريا، وعن إهمال الحكومة في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة الملاريا، وتحدث عن الأوضاع الصحية المتردية لأغلبية الفلاحين المصريين، لدرجة ورود حالة عليه لمريض يعاني من الأمراض السبع سوياً! كما تحدث عن انتشار مرض باركنسون، وأن نتيجة تعرض مصر لكل هذه الأوبئة انخفاض متوسط العمر للطبقات الفقيرة إلى 31 عاماً!، والطبقات الأعلى متوسط عمرها ما بين ال50 وال60، وهي مع ذلك أقل ب15 عاماً من أقرانهم في إنجلترا، والأمر في جزء منه متعلق بنوعية وطبيعة الغذاء وعدم ممارسة الرياضة.

يكاد الجزء الأكبر المتكرر في نقد سيسيل ألبورت للأوضاع في مصر يتعلق بفساد الحياة الجامعية وكذلك فساد الإدارة الطبية للمستشفيات. وكثير من انتقاداته تنصب بالإسم على شخصية عُرفت بصقتها من أعلام ورواد الطب في مصر وهو علي باشا إبراهيم، فهو يظهر كعميد لكلية الطب ثم رئيس للجامعة بصورة المتعنت الرافض للتغيير أو تنفيذ أي اقتراحات أو تحسينات طالما لم تصدر من خلاله، وأثني ألبورت في الوقت ذاته على بعض من قابلهم من الأطباء والأساتذة والذين رأى أنهم حاولوا الإصلاح قدر استطاعتهم وعلى رأسهم عزمي باشا، وكان من أكثر ما انتقده هو انتشار المحسوبيات والواسطة سواء في العمل أو الامتحانات، ومن ضمن النماذج التي عرضها تعيين أحد الأطباء كمدرس بكلية الطب رغم عدم حصوله على درجة علمية لمجرد كونه الطبيب الخاص للنحاس باشا!، وانتقد ألبورت كذلك التمييز بين الطلبة على أساس طبقي وديني، وعدم انتظام حضور العديد من الأطباء الكبار بشكلٍ فيه إهمال للمرضى وتركهم إما تحت تصرف أطباء صغار قليلي الخبرة، أو تحت رحمة – أو بالأحرى عذاب – التمورجية، والذين خصص عنهم فصلاً كاملاً يتكلم عن سوء معاملتهم للمرضى والإتاوات التي يفرضونها عليهم، وكذلك سرقتهم للمستلزمات الطبية وبيعها في السوق السوداء. كما تحدث عن المحسوبيات في الحصول على الأمصال المهداة من بعض الحكومات الأجنبية، وتوزيعها على أفراد الطبقة العليا أو استخدامها في العيادات الخاصة بالأطباء، بدلاً من أن توزع على مستحقيها من عموم الشعب الكادح.

علي باشا إبراهيم

تحدث كذلك عن الأوضاع المزرية للمستشفيات من حيث قلة النظافة وانعدام بعض التجهيزات الأساسية، فمثلاً تحدث عن مستشفى فؤاد الأول التي تكلفت مليونين من الجنيهات وبُنيت على مساحة ضخمة، وكان من الممكن أن يُستخدم هذا المبلغ لبناء 3 أو 4 مستشفيات أصغر ولكن بتجهيزات لائقة، فالمستشفى مثلاً لم يكن به نظام للتدفئة، فكان المرضى يصابون داخله بالالتهاب الرئوي وبعضهم يموت!، وكذلك لم يكن به سلك يمنع الذباب، فبالتالي كانوا يصابون بأمراضٍ أخرى بجوار أمراضهم، وذكر في موضعٍ آخر أن الناس دأبوا على قول أن الداخل للقصر العيني مفقود والخارج منه مولود، بل ذكر موقفاً يستحق أن يُحكى، فقد تكلم عن مجموعة من الجنود الأفارقة المسلمين من كينيا كانوا يخدمون في قوات الحلفاء، وفرحوا عندما حضروا لمصر كبلد إسلامي، آملين أن يروا "كيف تدار بلد مطعمة بكل تلك المقاييس العظيمة، وعندما وصلوا إلى مصر وشاهدوا الحالة المحزنة التي يعيش في ظلها الفلاحون من فقر وتخلف وأجور هزيلة والقذارة والمرض، والطريقة التي يعامل بها حكام البلد مواطنيهم، أصيبوا جميعاً بخيبة أمل، وأداروا وجوههم خجلاً من زملائهم الوثنيين الذين عيروهم قائلين (أين ذلك البلد العظيم الذي طالما تفاخرتم به؟)".

مستشفى فؤاد الأول (المنيل الجامعي حالياً)

وفي بعض الفصول سرد بعض ملاحظاته عن المجتمع المصري بشكلٍ عام، وكان مما تحدث عنه أثرياء الحرب، وتركز الثروات في أيدي قلة من الباشوات، وعن المصير الذي قد يلاقيه ملاك الأراضي لو وُجدت جهة تنظم الفلاحين لينتفضوا ضد القهر والبؤس، ثم يذكر عبارة كأنه يتنبأ فيها بالثورة التي حدثت بعد أقل من 10 سنوات، حيث قال: "احتمال أن يتعرض كبار ملاك الأراضي لإعادة توزيع أراضيهم يوماً ما، يعززه حقيقة أن أبناء الفلاحين يحصلون الآن على مناصب في الجيش المصري، وسوف يكون من سوء الحظ العاثر أن تُستخدم القوات البريطانية ضد الفلاحين لمنعهم من تحطيم تلك الطبقة الأرستقراطية العفنة المتجبرة".

وبعد أن فاض به الكيل، قرر ألبورت أن يقدم استقالته من الجامعة، ولم تُقبل إلا بعد 6 شهور رفض فيها كل الإغراءات بالبقاء، وفي الوقت ذاته، وأسوةً بالكتاب الأسود لمكرم عبيد، كتب ألبورت نشرة سرد فيها كل ما شهده من سلبيات بالمستشفيات المصرية، ويذكر أن من ضمن ما تأثر به هو ما قرأه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه قال أن ساعة عدلٍ واحدة خيرٌ من عبادة سبعين عاماً.

نجح ألبورت في تجاوز الرقابة وتوزيع النشرة بشكلٍ أثار ضجة كبيرة في الحكومة والبرلمان، وكان من المثير للشجن إشارته لتخوف العديد من زملائه السابقين من إبداء الدعم له خوفاً من الرقيب ومن أي انتقامٍ من الحكومة، وذكر قصة سمعها عن ضابط اُعتقل لمجرد توزيعه صيغة القسم الذي تعهد فيه بخدمة وطنه ومليكه، وعقب ألبورت على ذلك بقوله: "إني أرتعش كلما فكرت فيما كان يحدث لي لو كنت مصرياً"، كما قال في موضعٍ آخر أيضاً أنه لا يلوم من لم يدعمه، "فست شهور في سجنٍ مصري تفوق في رزالتها نفس المدة التي تنقضي في معسكر اعتقال ألماني"!، وقد حاول مقابلة النحاس باشا والملك نفسه ولكن بلا جدوى، ورد عليه علي باشا إبراهيم رداً متهافتاً نزع إلى الشخصنة، وكذلك كان الاستجواب الذي دار في البرلمان، والذي انتهى رغم كل شيء بتجديد الثقة في الحكومة!

وإلى هنا ينتهي هذا العرض الموجز لكتابٍ أهدتني إياه زوجتي لأقرأه منذ 15 عاماً واستعاره مني حينها صديق، فتأخرت قراءتي إلى اليوم!، وقد لخصته لي حينها بأني ربما سأقول (ما أشبه الليلة بالبارحة)، وهو الخاطر الذي سيصاحب كل قاريء للكتاب وهو يقرأ عن عفن الماضي بينما أنفه قد أزكمتها نتانة الحاضر، وفي الوقت ذاته، فقراءة هذا الكتاب مفيدة لنسف الصورة الرومانسية الموجودة في مخيلة البعض للماضي، ولقاهرة الأربعينيات التي كانت الموضة تنزل فيها قبل باريس...إلخ، لأن هذه صورة انتقائية مختزلة لا تظهر فيها الغالبية العظمى من شعبنا المنكوب المكتوب عليه أن يعيش في الظلم، سواء تحت حكم الاحتلال الأجنبي، أو المحلي!

وأختم بفقرة قد لا يكون لها كبير علاقة بالموضوع، اقتبسها الكاتب من رواية مذكرات بيكويك لديكنز، وفيها يقول بيكويك لزميله "أحسن سياسة في أحوال المنازعات، هي أن تقف مع الغوغاء، فرد زميله: لكن ما العمل إذا كان هناك مجموعتان من الرعاع؟ فقال بكويك: إذن قف مع أعلاهما صوتاً".

الثلاثاء، 10 يونيو 2025

مذبحة الأبرياء في 5 يونيه


 كُتب هذا الكتاب عن الحرب بأسلوب صحافي، وما ورد به من معلومات عن الحرب نفسها لن يمثل جديداً للمطلع على الكتب الأخرى التي تناولت الحرب وفي مقدمتها مذكرات القادة العسكريين، لكن يأتي تفرد الكتاب فيما حواه من شهادات نقلها الكاتب بطريقته الصحفية من حواراته مع عدد من الجنود والضباط بل وكبار القادة، أنقل على سبيل المثال منها هذا الحوار المضحك المبكي مع أحد الجنود عقب الهزيمة، يقول وجيه ابو ذكري:

" سأروى هنا قصة طريفة مضحكة حتى البكاء، لقد التفيت بأحد الجنود الذين تمكنوا من عبور قناة السويس فور قرار الانسحاب ، وكان يرتدى الحذاء العسكرى، ثم البنطلون العسكرى، وفوق كل هذا جلباب، وعلى الجلباب الجاكت العسكرى، ولا يحمل معه سلاح ... وعندما شاهد دهشتی .. قال :

-          لقد جئت بالجلباب من باب الاحتياط، حتى اذا صدر قرار الانسحاب - كما حدث عام ١٩٥٦ - خلعت ملابسي العسكرية وارتديت ملابسي المدنية حتى يتركنى الاسرائيليون أرحل الى قريتي.

·         والسلاح، هل تركته ؟

-           لم أتسلم سلاحاً.

·          أين كنت ؟

-          - لا أدرى ..

·          ماذا كان يجب أن تفعل ؟

-          - لا أدرى ..

·         - وماهى التعليمات التي أصدرها لك قائدك ؟

-          لا شي.

·          ألم تطالبوا بالسلاح؟

-          القائد نفسه لم يكن معه سلاح .. القائد نفسه كان كل ما يشغله تدبير الغذاء لنا والماء لنا ، وكان يضحك معنا ، ويقول أنه لو دخل بنا معركة ضد أرانب الصحراء ، فسوف تنتصر علينا الأرانب"!

كما نقل أبو ذكري كشاهد عيان مأساة القوات المنسحبة عندما توجه للإسماعيلية، وكان شاهداً على تضافر الأهالي وتسابقهم للتبرع بالدم وتضميد الجراح، وحكى عن سماعهم لخطاب التنحي، وإتاحة الوزير المواصلات بالمجان لمن يريد الذهاب للقاهرة لإبداء الدعم لعبد الناصر، مع عدم السماح للعسكريين بالمغادرة. ونقل رسالة مؤثرة لجندي شارك في حرب اليمن، ثم كان ضمن من حُشدوا إلى سيناء، وعاش مأساة الانسحاب وقتل العدو قائده وزملائه أمامه، واستطاع الهرب وعبور القناة، ثم واصل الهرب إلى ليبيا لسماعه شائعة بأن المنسحبين سيحاكمون عسكرياً، ووجد ما لا يقل عن 100 جندي مثله، آواهم الملك السنوسي وأجارهم وأعطاهم هويات مؤقتة وسمح لهم بالعمل في ليبيا.

ومن ضمن فصول الكتاب فصل مخصص عن هيكل، وبغض النظر عن أنه يبدو فيه نوع من تصفية الحسابات، إلا أنه يوضح ليس فقط دور هيكل في تخدير الشعب المصري والشعوب العربية بتسويق الوهم الناصري قبل الحرب، بل إن مقالاته التي كان يقرأها الجنود والضباط على الجبهة كانت تؤكد أن مصر لن تبدأ بالقتال وبالتالي ظنوا أنه لن تقوم الحرب، وكان ذلك دافعاً لمزيدٍ من الاسترخاء، بل إن البعض توجهوا لمدينة غزة للشراء من السوق الحرة! وكلنا نعلم أن هيكل هو من نحت مصطلح (النكسة) ليكون أقل وطأة من (الهزيمة)، وهو غيره من أقطاب الحكم الناصري كانوا يقللون من فجاجة الهزيمة، وبحد وصف عبد المجيد شديد أحد الأقطاب الناصريين، أن العدو قد استولى فقط على تلالٍ من الرمال، وهو ما يدل ليس فقط على نظرة قاصرة لسيناء، بل وعلى أولوية التطبيل للحاكم والحرص على بقاء النظام على حساب الحفاظ على الأرض، وهو ما يذكرنا بتصريحات مشابهة في سوريا عقب الهزيمة.

قص الكاتب بعض البطولات الفردية التي حدثت خلال الهزيمة وبعدها بقليل، منها قصة بطل التبة في العريش، ومعركة الطيران فوق القناة وقصف الطيران المصري لقوات العدو في يوليو 67، ثم معركة رأس العش وإغراق المدمرة إيلات.

ومن القادة الذين حاورهم أبو ذكري الفريق الجمسي، والفريق أنور القاضي رئيس هيئة العمليات، وكان قد قابله قبل الهزيمة بسنوات أثناء حرب اليمن، وسأله عن السيناريو الذي يراه إن حصلت مواجهة من العدو أثنار تورط بقية الجيش في اليمن، فرد بأنها ستكون كارثة، والفريق كمال حسن علي الذي كان قائد لواء مدرع ضمن الفرقة الرابعة المدرعة وتحدث عن كواليس الانسحاب بالمعدات سليمة ثم العودة لسيناء مرة أخرى والتي دُمرت على إثرها مدرعات الفرقة، ويذكر على لسان كمال حسن علي قصة مفادها أنه عقب حرب 1956، توجه أحد أقطاب المعارضة الإسرائيلية باستجواب في الكنيست لموشي ديان، ومن ضمن أسئلته: متى يكتمل التفوق الجوي لإسرائيل بما يسمح لها ألا تعتمد على أحد ويكون لها ذراع طويلة، ورد ديان بأن الأمر يحتاج إلى عشر سنوات، وقد استغرق الأمر من العدو عشر سنوات بالفعل من التدريب والإعداد والتجهيز حتى وقعت الواقعة.

نقل كذلك شهادة للفريق مرتجي لا تزيد في إطارها العام عما أورده في كتابه، باستثناء بعض الأمور الشخصية في انتقاد عبد الناصر وعامر والفريق فوزي، ومع ذلك، فإن كل القادة السابقين لهم شهاداتهم المنشورة سواء في كتب أو مقالات، لكن ينفرد الكتاب بإيراد شهادة للواء صدقي الغول قائد الفرقة الرابعة المدرعة التي تعرضت للمذبحة الشهيرة حينما صدر لها قرار الانسحاب ثم العودة مرة أخرى في ظل السيادة الجوية للعدو، ويبدو من الشهادة مقدار الظلم والغبن الذي تعرض له هذا الرجل، كما يتضح أن أمر الانسحاب وصله من قائد الجيش الفريق صلاح محسن رأساً، وعند الوصول للإسماعيلية  وجد صلاح محسن الذي طلب منه العودة بالفرقة مرة أخرى، وتبدو من الحوارات بينهما أن هم صلاح محسن الأول هو تنفيذ الأوامر الصادرة له فقط مهما كانت غير عقلانية أو ستؤدي لتدمير القوات، وتنتهي الحرب ويُحاكم الغول ويشهد صلاح محسن ضده في المحكمة ويدعي خلاف الحقيقة أنه انسحب من تلقاء نفسه وأنه أصدر له أمراً بالبقاء في موقعه ولم ينفذه، ورغم أن الشهادات في المحكمة تضافرت لتأييد موقفه وتبرئته، إلا أن صدر ضده حكم بالمؤبد خفف بعد ذلك إلى 5 سنوات، ويشير الغول إلى تعمد فوزي التشهير به في الصحف حتى قبل صدور الحكم، وكذلك سوء معاملته في مستشفى السجن، وهي مواقف تلقي أضواء أخرى مكملة لشخصية فوزي الراغب في تثبيت مكانه في السلطة على أجساد من اعتبرهم موالين للمشير.وينقل أبو ذكري بعد ذلك شهادة اللواء عمر هزاع أحد ضباط الفرقة الرابعة المدرعة، وهي تذهب إلى نظرية المؤامرة المتكررة في عددٍ من شهادات الضباط، أن الغرض من الأمر بعودة الفرقة إلى سيناء هو تخوف عبد الناصر من أن تُستخدم الفرقة في الانقلاب عليه، وهو أمرٌ أراه شديد المبالغة.

ثم ينتقل إلى حوار مع اللواء طيار إسماعيل لبيب، وقد تناوله اللواء الدغيدي بالنقد في مذكراته واعتبره ممن ظلمه، وهنا يُظهره أبو ذكري في صورة المظلوم، وبغض النظر، فإنه يشير هنا لواقعة أشير إليها في بعض الكتب ولا نجد لها دليلاً، وهي أن عبد الناصر في اجتماعه مع الطيارين في أبو صوير أعلن أنه لن تحدث حرب، وأن ما يحدث هو مظاهرة عسكرية لا أكثر، وأن هذا الاجتماع كان مسجلاً وجمع سامي شرف بتعليمات من عبد الناصر نسخ التسجيلات خشية تسرب ما به للشارع المصري، وأن عبد الناصر قال لسامي شرف: لو الناس سمعته حيشنقونا في الشوارع، وأن مصدر المعلومة هو سامي شرف نفسه عندما قابله في السجن، وحسب ما أذكر أن سامي شرف نفى هذه المعلومة لاحقاً، لكنه ليس بالثقة الثبت حتى نصدقه على أية حال. وفي المقابل، حوكم لبيب بدعوى أنه لم يبلغ الوحدات بمعلومات الرئيس في 2 يونيو بالضربة الجوية الوشيكة للعدو، علماً بأنه لم تصدر تعليمات أصلاً لا من المشير ولا رئيس الأركان، ورئيس الأركان نفسه هو الذي أمر بتقييد الدفاع الجوي أثناء طيران المشير يوم 5 يونيو، كما أغلق قبل الحرب غرفة عمليات القوات الجوية على حد قول لبيب!

وكانت آخر شهادة عرضها هي شهادة اللواء أحمد حلمي من قوات الصاعقة عن دوره هو وجلال هريدي، وعن قرار إرسالهم إلى الجبهة الأردنية قبل الحرب بيومين للاستعداد لعمل غارات على قواعد ومطارات العدو انطلاقاً من الضفة الغربية، ويذكر أنه لو توفرت لديهم معلومات كافية عن الأماكن لاستطاعوا عمل خسائر مؤثرة في العدو داخل الأرض المحتلة، لكن صدرت لهم الأوامر كذلك بالرجوع إلى مصر، ثم قُبض عليهم بتهمة الولاء للمشير، ويثني أحمد حلمي كذلك على أداء الجيش الأردني وعلى قتاله في حدود إمكانياته، وعلى تنفيذه الانسحاب طبقاً للأصول العسكرية بدون فوضى، بخلاف ما حدث على الجبهة المصرية.

وإلى هنا ينتهي هذا الكتاب، وهو مكتوبٌ بمرارة من شخصٍ كان كأبناء جيله مؤمناً بالناصرية حتى أفاق من وهمها بصدمة الهزيمة، فانقلب ناقماً عليها، وبالرغم من حجم الكتاب الذي يزيد عن 500 صفحة، فهو في النهاية لا يصلح سوى كوجبة خفيفة لمن يريد الإطلاع على تفاصيل الهزيمة، ولا يغني عن الرجوع للشهادات والمراجع الأصلية، ومقارنة ما به من شهادات مع شهادات بقية القادة بعينٍ ناقدة.