الثلاثاء، 7 ديسمبر 2010

مع سيد قطب مرة أخرى



ربما يُعد سيد قطب-رحمه الله-واحداً من أكثر من أثاروا الجدل حولهم بعد موتهم, فنجد من يرفعه لمرتبة القداسة, و من يتهمه بالظلامية و أن كتاباته نظرت للتطرف و الإرهاب.و بين هؤلاء و هؤلاء, ظُلم الرَجل.

و لقد كتبنا سابقاً عن الرجل محاولين أن نعرض بإيجاز شديد أهم أفكاره التى دعا لها فى أهم كتبه:معالم فى الطريق, و كيف أن هذا الرجل قد أستشهد فى سبيل فكرته و إيمانه, و ما أكثر ما كُتب عن قطب و أفكاره سواء هجوماً أو دفاعاً, و لقد كان من ضمن المنتقدين لبعض أفكاره-أو على أخف وصف(المتحفظين عليها) بعض كبار أساتذتنا الذين نحبهم و نجلهم و نقدرهم, و منهم شيخنا الدكتور سويف القرضاوى, و أستاذنا المستشار طارق البشرى.

هذا بجانب ما لقيه الرجل من إنتقادات من داخل جماعته جماعة الإخوان المسلمين نفسها.إنتقادات حدت ببعض من خالفوه إلى التبرؤ منه و من أفكاره.و البعض منهم شط فوصف أفكاره بنفس الأوصاف التى إستخدمها النظام و كتبته و مخالفى الإسلاميين عموماً.

و من الجلى أن أهم ما أثار الجدل من أفكار الرجل هى فكرتى الجاهلية و الإستعلاء, فملخص فهم منتقدى و مخالفى قطب لهاتين النقطتين أنهما دعوة للإنفصال و الإنعزال عن المجتمع, الذى هو كافر بالأساس!!

و نعرض هنا على سبيل المثال لا الحصر بعض الكتابات التى عبرت عن هذا الفهم (بإعتدال):

يقول د.طارق البشرى فى كتابه(شخصيات و قضايا معاصرة):

"تبعاً لما روى فى الستينيات, أن الرئيس عبد الناصر لما قرأ كتاب المعالم, أدرك أن ثمة تنظيماً سرياً معادياً له نشأ-أو على سبيل النشوء-بموجب هذا الكتاب.

و عندما عثرت على نسخة من الكتاب قرأته و فى ذهنى السؤال عما إذا كان من الممكن إستخلاص وجود حركة سياسية تنظيمية من كتاب ثقافى يتحدث عن قضايا مجردة و لا يشير إلى النظام السياسى القائم.و حتى إن كان كاتبه ذا فكر و ماض سياسى, فإن الطابع الغالب على فكره و حركته هو أنه أديب و مفكر و ليس حركياً و لا منظماً.

تراءت لى الإجابة عن سؤالى وقتها لا فى المعانى المباشرة لعبارات الكتاب, و لكن فى التشكيل الذهنى و الوجدانى الذى يخرج به قارىء الكتاب من قراءته كله.الكتاب لا يقول لقارئه أرفض هذا النظام و خاصم هذا الحاكم و هاجم هذه الأوضاع, و لكنه ينتهى بالقارىء إلى أن هذه الجماعة ليست جماعتك, و هذه الأمة ليست أمتك.و يقول له:إنك الصواب و الكل خطأ, و أنت الثابت و الكل نابت و طارىء.و كما لو كان يقول له:إنفصل يا أخى,إبتعد, إياك أن تندمج, بل إياك حتى أن تتصل"منقول بتصرف.

و فى كتاب آخر(الحركة الإسلامية ، رؤية مستقبلية) عبر المستشار البشرى عن نفس الفكرة بقوله:

"إن سيد قطب صاحب فكر يختلف كثيرا عن فكر حسن البنا رحمهما الله … فكر حسن البنا فكر انتشار وذيوع وارتباط بالناس بعامة ، وهو فكر تجميع وتوثيق للعرى . وفكر سيد قطب فكر مجانبة ومفاصلة ، وفكر امتناع عن الآخرين . فكر البنا يزرع أرضا ، وينثر حبا ، ويسقي شجرا ، وينتشر مع الشمس والهواء . وفكر سيد قطب يحفر خندقا ، ويبني قلاعا ممتنعة عالية الأسوار".

و الحق أنى أرى بدورى أن أغلب من أساء فهم الرجل-عن حسن نية-إنما فعل هذا لأنه حكم على أفكاره بما جرى من أحداث بعد وفاته, و بما تسرب إلى أفكاره من سموم بثها النظام الحاكم.

فقد إستغل النظام موجة التطرف الدينى و العمليات الإرهابية التى بلغت أوجها بإغتيال الرئيس السابق السادات, ثم إنحسرت لتعود مرة أخرى بقوة فى أوائل التسعينات, لكى يسم الإسلاميين عموماً-و جماعة الإخوان خصوصاً-بنفس التهمة:الإرهاب, و كانت أفكار سيد قطب فى نظرهم هى مفرخة التطرف, كما أن فكرة الجهاد الإسلامى فى نظر الغرب هى الإرهاب بعينه, فالمنطق مشترك فى الحالتين.

و الحكم السليم على أى حدث تاريخى يقتضى قراءته من خلال السياق لا إنتزاعه منه, قراءته مع قراءة ماضى الحدث و خلفياته, و حاضر الحدث و المحيط به, و حين يتحول هذا الحدث لماض سيكون له دور فى تشكيل ما بعده, و سيكون هذا (البعد) بدوره ضمن السياق, طالما أن المستقبل مترتب عليه, و مرتبط به.

و الحدث الذى نعرضه فى مقالنا هو أفكار كتاب المعالم, و ماضى الحدث و خلفيته السابقة هى فهم قطب للإسلام و العقيدة, و كذلك إنخراطه فى جماعة الإخوان التى وجدها تتلاقى مع إتجاهه الإسلامى الأساسى, ثم دخوله المعتقل و التنكيل به و بإخوانه من النظام.

أما حاضر الحدث, فهو إستمرار للماضى, فهو ما زال فى السجن يتعرض هو و إخوانه لنفس الإضطهاد و التنكيل, و قد ربط أفكاره بالواقع المحيط, فخلص إلى النتائج التى سطرها, عرض المشاكل كلها, ثم رسم الحلول التى يراها, و إنتهى إلى ما سماه:الطريق.

و من الظلم بنظرى أن يحملنا الظن أن كتاب المعالم كان من نبه ناصر لفكرة وجود تنظيم, و الكتب التى تروى تاريخ تلك المرحلة و تاريخ التعذيب فى سجون ناصر توضح بجلاء كيفية إكتشاف التنظيم و نشأته و طبيعته من الأساس.

و من الظلم أن نحمل قطب ذنوب أناس لم يفهموا كلامه أو لم يقرأوه من الأساس, و إعتزلوا العالم كله و فجروا و قتلوا و إستباحوا الدماء, و لم يقل فرد منهم أنه يتبع فكر الرجل أصلاً.و نحن نعلم أن التعذيب الفاجر الذى كان يُمارس فى السجون فى تلك المرحلة هو من أفرخ التطرف, لا أفكار الرجل.

و قد يظن ظان أن السجن قد أثر على أفكاره بالسلب فزادها إنعزالية و رفضاً للمجتمع, فى حين أن الرجل لم يكن و لن يكون آخر من يدخل السجن, فقد سبقه إبن حنبل و إبن تيمية و إبن القيم و غيرهم كثير, و كتب العديد منهم كثير من إنتاجهم الفكرى بالسجن, و لم يتهمهم أحد بهذه التهمة.

إن الجاهلية التى وصفها هى الإنحراف عن الحق, و هو الواقع الذى نعيشه بكل بساطة, أما الإستعلاء فهو إستعلاء المؤمن بإيمانه عن كل ما حوله.إنه الإستعلاء الذى ورد فى قوله تعالى ))و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين((.و لو قرأت كلام الرجل ما وجدت فيه وصفاً لأفراد المجتمع بالكفر البواح, و لا دعوةً للقارىء بأن يعتزل المجتمع و ينفصل عنه.

إن منهج الرجل لم يتعد عرض المرض و تشخيصه, و تحديد سبل علاجه, و أبرز هذه الأمراض هى الجاهلية التى يعيش فيها المجتمع, و ليس معنى الجاهلية أننا نعيش بين أبى جهل و أبى لهب, و إنما نعيش بين حسن و محمود و لكنهم فى غفلة و على قلوبهم ران.

و كما قلنا سابقاً, يبدو أن عيبه هو أنه كان يسمى الأمور بمسمياتها, فكانت الحقائق التى رآها و عرضها ثقيلة على الأسماع, صادمة للكثير, رغم أن منهج الرجل لم يتعد أن يميز بين الأبيض و الأسود.

إلى هنا إنتهى الرجل و لا نزيد عن هذا,و لقد قرأت مقالاً جيد العرض للأخ إبراهيم الهضيبى عنوانه:الفرق بين البنا و قطب كالفرق بين السلم و الحرب, و أختلف مع هذا المقال, أتعلم لماذا يا أخى؟

لأن الفرق بينهما-بخلاف الأسلوب-لم يكن أكثر من أن البنا كان حركياً أكثر منه منظراً, و كانت ظروف عصره تسمح له بهذا, و إستطاع أن يجمع بين الإثنين بقوة و سلاسة, و مات و قد دخلت دعوته كل قرية بمصر.

أما قطب فقد كان منظراً بالأساس, و لم تكن ظروف عصره تسمح له بأكثر من هذا, و لم تكن قدراته تسمح له بأكثر من هذا أيضاً, لم يكن له كاريزما البنا و لا قيادته, لكن كان لديه عقله و إيمانه, و أفكاره التى أراد أن ينير بها أبصار إخوانه.

كان البنا إستكمالاً لمدرسة الأفغانى و محمد عبده و رشيد رضا, لكنه كان التلميذ النجيب لكل هؤلاء و تفوق عليهم بالكيان الذى أسسه, و كان التلميذ النجيب له-و ياللمفارقة-الخمينى قائد الثورة الإيرانية.

أما قطب, فلم يشذ عن هذه المدرسة من حيث الروح, و إنما تميز عليهم فى طريقة العرض و نحت المصطلحات, و لكنه لم يكن له تلامذة نجباء, أو أن أصحابه لم يقوموا به كالليث.

ثم نجد مصطلحاً و لقباً جديداً و هو لقب:القطبيين.أطلقه مخالفو قطب على مؤيدى فكره كما أُطلق لقب(وهابى)على أتباع الإمام محمد بن عبد الوهاب, و الرجلان كلاهما لم يأتيا ببدعٍ من الدين, أو يؤسسا لفرق جديدة خارجة عن صحيح الإسلام حتى يتم تمييزهم و تمييز أتباعهم و مؤيديهم بسمة محددة.

إن إحترامى لفكر الرجل و إشادتى به لا يستدعى أن يصفنى أحد بأنى (قطبى), فأنا لست إلا رجلاً مسلماً, و كذلك كان قطب, و لم يفعل الرجل إلا أن عرض رؤية-أزعم أنها ليست خاطئة-للإسلام و للمجتمع و لما ينبغى و ما لا ينبغى أن يكون.

إن الجدل حول شخص الرجل لن ينتهى, فالمعلومات التى يعرضها مناصروه و مخالفوه قد تتقاطع أحياناً و تتناقض أحايين أخرى, فالأخ الهضيبى يعرض عدة أمثلة لرفض قطاعات من الجماعة و قياداتها وصولاً إلى المرشد حسن الهضيبى –رحمه الله-لأفكار قطب, فى حين نجد الأستاذ أحمد عبد المجيد فى كتابه(الإخوان و عبد الناصر:القصة الكاملة لتنظيم 1965)يذكر لنا أن الهضيبى وصف الكتاب بأنه:كتاب عظيم, و أوصى الإخوان بقراءته.و فى موضع آخر يقول:ما قاله صاحب الظلال هو الحق الذى لا شك فيه!!.و فى نفس الصفحة(ص87) يذكر آراء الحاجة زينب الغزالى و الشيخ عمر التلمسانى بنفس الروح الإيجابية.

و لهذا فإنى لا أهدف من هذا المقال إلى مزيد من الجدل حول شخص الرجل الذى أفضى إلى ربه, و إنما نناقش الفكرة المجردة, و أيضاً لأنه يعز علينا أن يظلم الرجل و فكرته بعد أن آمن بها حتى أستشهد فى سبيلها.و يعز علينا أن تكون الآراء السلبية التى كتبت عنه دافعاً للشباب المسلم على العزوف عن قراءة آرائه.

أدعوكم لقراءة كتاب المعالم بدون التأثر بأى أفكار سابقة, و لعل هذه القراءة تصحح المفاهيم المبتسرة الخاطئة حول الكاتب و كتابه, و من المثير أن نعرض فى الختام هذه الفقرة من كتاب الحركة السياسية في مصر 1945:1953 للمستشار طارق البشرى:

" لقد قيل ان سيد قطب في " معالم في الطريق" بلغ قمة الرجعية لأنه حكم على مجتمعنا كله بالجاهلية. ولكن فهم " معالم في الطريق" في إطار منطق الدعوة الإسلامية، يكشف أن سيد قطب لم يغل في الرجعية، بل غلا في المقاومة، لأنه بذل مجهوده في إيضاح كيفية اعداد كتيبة الصدام للعودة الى للإسلام. وأبان في "لا اله الا الله" معنى الإنخلاع عن المجتمع الحاضر بكل رموزه وقيمه ومؤسساته. واذا كانت "الجاهلية" هي نظام ما قبل الإسلام ، فإن سيد قطب عندما وصم المجتمع الحاضر بالجاهلية، يكون في تصوره قد نقل الدعوة ونظام الإسلام المدعو له من الوراء الى الأمام، من الماضي الى المستقبل، أي جعل الإسلام مستقبليًا دعوة ونظامًا. "

الجمعة، 19 نوفمبر 2010

د.يوسف زيدان و التاريخ الإسلامى



ليس كل ما يعرف يقال, و ليس كل ما يقال حضر وقته, و ليس كل ما حضر وقته حضر أهله.

خاطبوا الناس على قدر عقولهم.

إنك إن حدثت قوماً بحديث لم تبلغه عقولهم صار لبعضهم فتنة.

أرى أن هذه الأقوال الشريفة يجب أن يضعها كل من يتصدى للكتابة فى التاريخ نصب عينيه.

و الذى دعانى لأن أكتب هذا المقال و أستهله بهذه الإستهلال هو ما قرأت للدكتور يوسف زيدان مؤخراً من مقالات ينشرها فى جريدة المصرى اليوم تتناول بعض الأشخاص و الأحداث المرتبطة بتاريخنا الإسلامى, و الحقيقة أنى رغم إعجابى بالدكتور زيدان و أسلوبه الروائى المتميز الذى ظهر جلياً فى رواية(عزازيل), و كذلك صموده إزاء الهجوم الذى تعرض له إثر نشر هذه الرواية و ما تبعها من مقالات, إلا أن لى تحفظات عديدة على نهجه فى الكتابة عن التاريخ الإسلامى, و أخص بالذكر المقالين الذين قرأتهما: (الناصر أحمد مظهر) , و (رسالة النبى إلى المقوقس).

فالمقال الأول ينتقد سيناريو الفيلم المعروف لمخالفته لعديد من الوقائع التاريخية-و هو ما نوافق عليه الدكتور-و كذلك لإظهاره للناصر صلاح الدين فى صورة ملائكية-و هو ما نوافق عليه أيضاً لأننا نرفض مبدأ التقديس المبالغ فيه للأشخاص-و كذلك لأن الفيلم و كأنه موجه بالأساس للإشادة بالرئيس جمال عبد الناصر(و ليس هنا محل مناقشة هذا).

لكن الدكتور وقع فى نفس المنزلق الذى إنتقده, لكنه بدلاً من التقديس إنتقل إلى الضد, بل ربما ما هو أكثر من الضد. فليس الأمر أننا ننظر إلى نصف الكوب الملىء بينما ينظر الدكتور إلى نصفه الفارغ, و لا أن نظرتنا إلأى الأمور ملائكية رومانسية حالمة بينما نظرته سوداوية مظلمة. لكن النظرة و للأسف:ظالمة.

و قبل أن نتكلم عن صلاح الدين, فإننا نكرر أننا نتفق مع الدكتور فى رفضه للصورة التى ظهر عليها صلاح الدين فى الفيلم, و من يستقى معلوماته التاريخية من الدراما السينمائية و التليفزيونية مثله كمن يستقى آراؤه الفكرية و معلوماته السياسية من الصحف القومية.إن سيناريو فيلم وا إسلاماه مثلاً يختلف عن الرواية التى تحمل نفس الإسم, بله عن التاريخ الذى يعرضه الفيلم من الأساس.

لكن الحكم هنا هو التاريخ المذكور فى كتب المؤرخين المعتبرين, و كان ديدن أغلب المؤرخين القدامى هو عرض الأحداث و الوقائع لكل عام هجرى, و بالرجوع إلى ما كتبه إبن كثير و إبن الأثير و غيرهم فى تواريخهم المعروفة, قام المؤرخون الجدد بكتابة تصانيفهم عن شخصيات بعينها-مصحوبة بوجهة نظرهم و رؤاهم الشخصية - فى صورة كتب أو مقالات, و من هؤلاء:صلاح الدين.

و فى حين كان منهج البعض هو إظهار الشخصية التاريخية فى صورة ملائكية, فهو بطل الأبطال المدافع الأول عن الإسلام, الفارس المجاهد المؤمن التقى النقى العادل.....إلخ.

كان منهج نفر آخر هو نزع القدسية عن الشخصية التاريخية بقسوة. و بدلاً من عرض الأمور بصورة متوازنة تُظهر الشخصية التاريخية بصورتها الحقيقية, فإن هؤلاء النفر لا يعرضون إلا أمر من إثنين:إما النقائص و الأخطاء التى لا تخلو منها صحيفة أى شخص مهما سما, و إما مواقف يُساء عرضها و تفسيرها, فتظهر الحدث التاريخى و الموقف بصورة خلاف الحقيقة, و هذا هو الظلم بعينه.

و لا أقول إن كل من يفعل هذا يقوم به بنية سيئة, فبخلاف المتجنين من المستشرقين و من نهج نهجهم ممن هم من جلدتنا و يتكلمون بألسنتنا, فهناك من ينزلق إلى هذا المنزلق بغير نية الدس و التشهير, و أحسب أن د.زيدان من الصنف الأخير.

إن ما نطالب به هو أن يكون العرض متوازناً, و ليس التوازن هو أن نعرض شيئاً وسطاً يرضى جميع الأطراف, و إنما التوازن هو عرض الحقيقة و الصورة بشكل كامل.

إن صلاح الدين شأنه شأن أى شخصية تاريخية, له حسناته و عيوبه, لأنه بكل بساطة:بشر, لم يكن قديساً و لا نبياً.

و العرض التاريخى العادل لأى شخصية تاريخية أو حدث تاريخى من وجهة نظرى يعتمد على المنهج الذى نتبعه, و المناهج من وجهة نظرى تنقسم إلى:منهج تبريرى, و تفسيرى, و متجنى.

المنهج التبريرى هو منهج متحيز يعرض الوقائع التاريخية بهدف وحيد هو إظهار الشخصية بصورة لا تقبل النقد, و عند عرض أى موقف حتى لو كان مثيراً للجدل و التساؤل, فإن هناك تبريرٌ جاهزٌ لنوايا هذه الشخصية, و هذا التبرير ينطلق من الصورة الأولى المتحيزة التى تأخذ جانب الشخصية المعروضة فى 99%من أعمالها.

و هكذا فإن السلطان سليم الأول قد فتح مصر لا لتوسيع ملكه, و لكن لينقذها من البرتغاليين و الصفويين, كما أن يزيد بن معاوية قد قتل الحسين رضى الله عنه بحكم الشرع لأنه قد خرج على الدولة!!!

و الأمثلة كثيرة, و كم من أشخاص قد سيقت لهم مبررات و كتب عنهم بشكل متحيز غير موضوعى, من يزيد و إبن مروان و حتى عبد الناصر و السادات!!

أما المنهج المتجنى, فهو منهج متحيز أيضاً, لكنه لا يبرز إلا العوار فى الشخصية, و حتى المواقف العادية يعرضها بتشكيك فى النية و الدوافع حتى يفسدها.

و هكذا فإن الإخوان المسلمون بنظامهم السرى هم أصل الإرهاب, و لا هم لهم إلا الوصول للحكم, و لا ننسى أنهم عملاء, و كذلك كان عبد الناصر الذى عذبهم و رماهم فى المعتقلات كان عميلاً أيضاً بحكم صلته بالأمريكان, و هكذا يصبح الجميع خونة و عملاء.

و المنهج الذى ندعو إليه هو المنهج التفسيرى, حيث نقرأ الحدث التاريخى و الشخصية التاريخية فى إطارها و محيطها الزمنى الكامل, نقرأها منذ بدأت و حتى إنتهت و لا ننتزعها من السياق, نحاول قراءتها بشكل موضوعى غير متحيز و مجرد من الهوى مهما كان إنطباعنا الأول عنها.

المنج التفسيرى يمكننا من تفسير نوايا الشخصية بشكل أقرب للحقيقة حسب المعلومات التى توافرت لدينا, و ربما لا تظهر حقيقة الشخصية فى المقدمات, لكنها ستظهر بوضوح أكثر خلال رحلة حياة الشخصية, و تتجلى فى النهايات.

و لكى يستقيم الحال لابد أن نوضح بمثال, و ليكن مثالنا صلاح الدين من خلال الرد على ما قاله د.زيدان بحقه.

يقول الدكتور عن صلاح الدين(و نرجو الرجوع لأصل المقال): أولاً: لم يكن «صلاح الدين» هو ذلك «البطل» الذى تم الترويج له فى زمن حكم العسكر، لأنه كان مثلهم عسكرياً.. فالتاريخ يخبرنا بحقائق مغايرة لما عرفناه من فيلم «الناصر» منها أن صلاح الدين الأيوبى، كان قائداً خائناً للسلطان نور الدين الذى أرسله على رأس الجيش من دمشق إلى مصر، لتأمين حدودها ضد هجمات الصليبيين، فترك الأمر ومهَّد لنفسه السلطة، ولأقاربه، وترك المهمة التى جاء من أجلها، حتى إن السلطان نور الدين جهَّز جيشاً لمحاربة صلاح الدين (المنشق) ولكنه مات ليلة خروج هذا الجيش، فسنحت الفرصة لصلاح الدين واستطاع استمالة بعض القوَّاد، وحارب البعض الآخر، حتى استقام له السلطان.. والعجيب، الدال على شخصية صلاح الدين، أنه كان فى الوقت ذاته قائداً من قوَّاد السلطان نور الدين (السُّنىِّ) ووزيراً للحاكم الفاطمى لمصر (الشيعى) مع أن الدولتين كانت بينهما خلافات لا تقلُّ عمقاً عما كان بين المسلمين أصحاب الأرض (أصحاب البلد) والمسيحيين الغزاة الذين اشتهروا باسم الصليبيين.

ثانياً: بعد مناورات كثيرة، ومداورات، اضطر صلاح الدين الأيوبى إلى اقتحام القدس. ولم يفلح فى انتزاعها من قبضة الصليبيين إلا صُلحاً.. ثم أعادها الأيوبيون ثانيةً إلى الصليبيين، كهدية، سنة 628 هجرية!

و نكتفى بهذا القدر لأن بقية المقال ينتقد نقاط أخرى فى الفيلم, فى حين يعنينا شخص صلاح الدين ذاته.

فصلاح الدين الذى يعرضه الدكتور ليس بطلاً, و لكنه رجل(إنتهازى)يبغى السلطة, و ساعدته الظروف بوفاة نور الدين لكى يستولى على بقية ملكه بالحرب تارة و بالصلح تارة, ثم-و ياللعجب-(إضطرته)الظروف لإقتحام القدس.

و هنا نتساءل:لم هذه الصورة المختزلة المسيئة المنافية للحقيقة؟

صلاح الدين كان أحد قواد جيش السلطان الشهيد نور الدين محمود, ذهب فى جيش السلطان بصحبة عمه القائد أسد الدين شيركوه تلبية لإستغاثة الوزير شاور, فى حين إستعان الوزير ضرغام بالصليبيين.

نجح المسلمون فى هزيمة الصليبيين و الإطاحة بضرغام, و من بعده شاور حينما بدأ فى التآمر.

بعد وفاة شيركوه إستوزر الخليفة الفاطمى العاضد صلاح الدين, و الذى كان ما زال على ولائه لأستاذه نور الدين.

توفى العاضد فأعلن صلاح الدين نهاية الحكم الفاطمى و دعا للخليفة العباسى و عادت مصر لمذهب أهل السنة .و ظل يحكم مصر بإسم نور الدين حتى وفاة الأخير الذى أحس أن صلاح الدين قد صار أقوى و خشى أن يستقل بالحكم فجهز الجيش الذى ذكره د.زيدان.

سعى صلاح الدين إلى توسيع ملكه, فضم ما بقى من مملكة نور الدين و تزوج أرملته, و دخل فى مناوشات و معارك مع بعض الأمراء الذين رفضوا الإنضواء تحت لوائه حتى وحد مصر و الشام تحت حكمه.

أرسل صلاح الدين أسطوله إلى المدينة المنورة حينما بلغه أن الإفرنج يسعون لنبش قبر الرسول صلى الله عليه و سلم, و حمى الأماكن المقدسة.

روى أن الرجل كان مهموماً بأمر القدس و المسجد الأقصى حتى أنه كان فى مجلس يتذاكر أهله حديث رسول الله, و روى حديث مسلسلٌ بالتبسم فلم يبتسم, و حين سئل فى هذا قال:كيف إبتسم و بيت المقدس فى أيدى المشركين؟

سعى الباطنيون-ربما بإيعاز من الصليبيين-إلى إغتيال صلاح الدين, لكنهم فشلوا فى ذلك و الحمد لله.

أخذ صلاح الدين فى مناوشة الصليبيين و محاولة إستعادة مدن الساحل منهم, و كان إعتداء(أرناط)صاحب الكرك على قافلة الحجيج هو القشة التى قصمت ظهر البعير, و إحتشد المسلمون بقيادة صلاح الدين و هزموا الصليبيين فى موقعة حطين.

حاصر صلاح الدين بيت المقدس و إستمات الصليبيون فى الدفاع عنها حتى سلموها لصلاح الدين بعد أن أعياهم الحصار و بعد أن أعطاهم الرجل الأمان.

كان تسامح صلاح الدين و وفائه بالعهد مضرب الأمثال, و هو ما أثار إعجاب أعدائه من الصليبيين, و رغم أن الرجل عدوهم و إنتزع منهم بيت المقدس, إلا أنه كسب إحترامهم بشمائله و أعماله.

إنطلقت الحملة الصليبية الثالثة و كان من قوادها ريتشارد قلب الأسد, نجحت الحملة فى إستعادة بعض مدن الساحل لكن صلاح الدين قاوم بقوة و حافظ على بيت المقدس, و إنتهى الأمر بعقد الهدنة بينه و بين ريتشارد الذى عاد ليتفرغ للفتن الداخلية ببلاده.

تفرغ صلاح الدين بقية حكمه للإصلاحات الداخلية و بناء القلاع و تقوية الجيش, و كان عادلاً ديناً محمود السيرة, و ظل محافظاً على بيت المقدس حتى توفاه الله تعالى.

و الآن نتساءل, هل هذا الرجل لم يكن بطلاً بحق؟

و هل ننسف تاريخه بسبب المعارك التى دخلها مع أمراء الشام ليوحد الشام تحت حكمه مع مصر؟

هل الرجل الذى شهد أعداؤنا بتسامحه و عدله, و شهد معاصروه من العلماء بدينه و تقواه, هل يصح أن نقول أنه خائن؟

إن المنهج التفسيرى يحيلنا إلى سمو نفس هذا الرجل, و أنه لم يكن يبغى بتوسيع ملكه الدنيا فقط, و إلا ما سعى لتحرير القدس.

و ما كان لطلاب الدنيا أن يتسموا بالعدل و الرحمة و التسامح, و الدين.

ما الفائدة التى إستفدتها يا دكتور؟ليتك عرضت لنا بعض ما خفى علينا من سيرة الرجل كى يعلم الناس أنه بشر كانت له أخطاء كما كان له حسنات, لكنك تجنيت على الرجل و أسأت إلى سيرته و سريرته.

ما الفائدة من تشويه الرموز بهذه الصورة؟

إن الأبطال فى أى حضارة, و الإنتصارات التى تحققها الأمة, هى مصدر العزة و الفخر و الأمل لنفوس أبناء هذه الأمة.

و حتى فى أحلك اللحظات, فإن تنسم عبير هذه اللحظات, و تذكر سير الأبطال و الإنتصارات, هو مما يبعث الهمة لإقتفاء آثارهم, و إستعادة المجد الضائع.

لكن عندما نقتل هؤلاء الأبطال فى قبورهم, و نردم على آثارهم, فماذا يبقى لنا؟

لعلنا نطلب المثل العليا فى ريتشارد و وليم و لويس و واشنطن إذاً؟

يا دكتور, حتى لو إفترضنا أن فى تاريخ أى بطل ما يعيب, فذكر الناس فقط أنه بشر و ليس قديساً, لكن لا تأتِ على صفحات الجرائد لكى تسفهه و تتجنى عليه بهذا الشكل.

و هو ما يقودنا لما قلته فى المقال الأخير, عن رسالة النبى صلى الله عليه و سلم إلى المقوقس.

إن خلاصة المقال هو أن الرسالة(مفبركة), و ذلك حسب القواعد التى إستدللت عليها فى البحث التاريخى و أنت أستاذ فى علم المخطوطات و لا يستطيع أى قارىء غير متخصص مثلى أن يناقشك فيما ذهبت إليه من الناحية العلمية.

لكن من جهة أخرى, أسأل:ما الفائدة من عرض هذا الكلام على صفحات الجرائد للعوام من أمثالنا؟

نحن نعلم جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد بعث برسائل إلى الحكام يدعوهم إلى دين الله, و منهم المقوقس حاكم مصر, و قد رد الرجل بإرسال أمنا مارية القبطية التى تزوج منها رسول الله صلى الله عليه و سلم.

إذاً فنحن نتفق أن هناك رسالة ما, لكن بحثك يوصلنا إلى أن نص الرسالة التى نعلمها مفبرك.

و لقد تكلمت فى مقالك عن سند الرواية التاريخية, و قارنته بسند رواية الحديث الشريف, و عرضت رأى أن ما سبق يدعو لأن المرويات-حتى لو من الحديث الشريف-هى من باب غالب الظن لا اليقين المطلق.

و أن من علماء التاريخ المحدثين-د.بشار عواد-من كان يؤمن أن رواية التاريخ يجب أن تنطبق عليها قواعد رواية الحديث النبوى من جهة السند و العنعنة(و هو ما أتفق شخصياً معه), لكنه عاد عن هذا الرأى بعد هذا!!.

و لست بمتخصص فى علم الحديث كى أرد على هذه النقطة, لكن قراءة ما بين السطور تستوقفنى: أليس عرض هذا الرأى مثيراً لبلبلة البعض بشأن حجية الحديث الشريف؟ و هادماً لجهود كل علماء الجرح و التعديل؟

كما أن المنهج الحديث فى تنقية الروايات التاريخية يعتمد على النظر فى سند الرواية لإستبعاد روايات من إشتهروا بالكذب, و خصوصاً فى فترة الفتنة الكبرى, و سنندهش لكم الروايات المكذوبة التى دست على تلك الفترة و شكلت وعى الكثير من المسلمين حول تلك القضية, و بالتالى شكلت مواقفهم تجاه أطراف القضية!!

و لعل من أخطر أجزاء المقال قولك: بدأت كتابة «تاريخ الإسلام» فى القرن الثالث الهجرى، بعدما استقرت الأمور بأيدى الخلفاء العباسيين، وبالتالى فتاريخ الإسلام كتبه المنتصرون، المستقرون.. ومن عادة المنتصرين، المستقرين، إقرار البدايات التى انطلقوا منها، وتهميش ما قبلها!

و هو ما يعيدنا لأقوال مثل:التاريخ يكتبه المنتصرون.

و قول نابليون:ما التاريخ إلا كذبة كبيرة إتفقنا عليها.

و هكذا نشكك فى مصداقية التاريخ ككل بالتشكيك فى نوايا المؤرخين, و إذا كان الشك فى التاريخ ككل هو الأساس, أو إفتراض الكذب و الدس هو الأساس, فإلى ماذا نحتكم إذاً؟

و من جهة أخرى, ماذا كسب القارىء العادى غير بلبلة أفكاره و زعزعة ثوابته؟

ليست صفحات الجرائد هى المكان المناسب لهذا يا دكتور, و إنا لنربأ بك أن تنزلق إلى هذا المنزلق.

و أرجو ممن يطالع هذا المقال أن يثنى بقراءة هذا المقال للدكتور أحمد خالد توفيق:تاريخ للكبار فقط.

و الله من وراء القصد.

الأربعاء، 6 أكتوبر 2010

الرباط




هذا المقال ليس عن مدينة الرباط المغربية بالطبع, و لكنه عن مفهوم الرباط نفسه, هذا المعنى الذى سميت لأجله هذه المدينة بهذا الإسم (رباط الفتح), حيث كانت تجهز فيها الجيوش المتجهة من المغرب لنجدة أهل الأندلس.

و فى لسان العرب :الرِّباطُ والمُرابَطةُ: مُلازمةُ ثَغْرِ العَدُوِّ، وأَصله أَن يَرْبِطَ كلُّ واحد من الفَريقين خيلَه، ثم صار لزومُ الثَّغْرِ رِباطاً، وربما سميت الخيلُ أَنفُسها رِباطاً.
والرِّباطُ: المُواظَبةُ على الأَمر. وقوله عزَّ وجلَّ: وصابِرُوا ورابِطُوا؛ قيل: معناه حافِظُوا، وقيل: واظِبُوا على مَواقِيت الصلاة.

و هناك حديث مشهور منسوب لرسول الله صلى الله عليه و سلم:إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيراً، فذلك الجند خير أجناد الأرض، فقال له أبو بكر: ولم يارسول الله؟ قال: لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة.

و حتى لو كان هذا الحديث ضعيفاً تبعاً لمعايير رواية الأحاديث, فالتاريخ يشهد بقوته, و ليس القارىء بحاجة لأن أذكره بالأمجاد العسكرية المصرية قبل الإسلام, ثم دور مصر فى الدفاع عن الإسلام و كونها الدرع الذى تكسرت عليه سيوف الصليبيين و التتار.

لكننا و نحن نعرض مثل هذا الحديث, نقع فى خطأ جسيم إذا ذكرناه فى معرض التفاخر, و الصواب أن نفهمه و أن نتذكره من جهة الشعور بالمسئولية.

نعم, المسئولية يا سادة, إذا كنا نؤمن أننا خير أجناد الأرض, و أن مصر كنانة الله فى أرضه-أى أننا السهام-فعلينا أن نؤمن كذلك أن قدرنا أن نكون فى رباط إلى يوم القيامة, و قد ذكرنا معنى الرباط آنفاً.

و إذا كنا نعيش اليوم فى ذكرى آخر أيام العزة و الكرامة لمصر, ذكرى نصر أكتوبر, فآن لنا أن نتذكر أننا كنا حتى سبعة و ثلاثين عاماً مضت مجاهدين, مرابطين مثل هؤلاء الذين يسعون لتحرير أراضيهم فى العراق و أفغانستان و الشيشان.

كان منا مقاومون و فدائيون يكبدون العدو الخسائر و يلقون فى قلبه الرعب, مثلما يفعل مقاومو حماس و حزب الله.

كان من بيننا من عاش تحت الإحتلال(أهل سيناء).

و من عاش تحت القصف الجوى و المدفعى, و أضطر لأن يهجر بلدته و يصبح فى عداد اللاجئين (أهل مدن القناة).

كان منا من يقاتل العدو من بيت لبيت, و يحاربه حرب الشوارع(المقاومة الشعبية بالسويس).

و كان منا من يعيش بين ظهرانى العدو ليجمع لنا أخبارهم, مخاطراً بروحه.

كان منا الشريد, و الجريح, و المعوق و صاحب العاهة.

كان منا الفدائى, المقاوم, المرابط, المجاهد.

و كان منا الشهيد.


نفس العدو الذى يفعل بأخوتنا الأفاعيل فى فلسطين و العراق و أفغانستان و غيرها, كان يفعل بنا نفس الأفاعيل .هو العدو الذى كنا نحاربه, و توقفنا عن ذلك منذ سبعة و ثلاثين عاماً.

ليس منا من لا يحب السلام, لكننا فى الدنيا فلا شىء كامل, لا سلام أبدى طالما أن هناك نور و ظلام, و حق و باطل و بينهما صراع.و أزعم أن الأرض كى تظل خصبة و طيبة, و كى تصبح قادرة على أن تنبت رجالاً, فإنها لابد أن ترتوى بدماء أبنائها من الشهداء, و دماء خصومها من الأعداء على السواء.

و لكى يكون الجيش جيشاً بحق, لابد أن يكون فى رباط دائم. لابد أن يكون فى تمام الجاهزية و الإستعداد طالما أن العدو واقف على بابى لم يرحل.


و ليست الجاهزية و الإستعداد هى وجود المعدات العسكرية و الأسلحة و توفر الذخيرة فقط, إننا يجب أن نفهم جيداً قول الله تعالى ((و أعدوا لهم ما إستطعتم من قوة و من رباط الخيل)), و رباط الخيل هو العدة و العتاد العسكرى, أما القوة كما أفهمها, فهى قوة القلب, قوة الإيمان, روح الرباط.

أن تكون جندياً تخدم فى الجيش فهذا شىء, و أن تكون مجاهداً مرابطاً فهذا شىء آخر مختلف تماماً.

أن تخدم فى الجيش كأنك موظف فهذا شىء, و أن تكون نيتك هى الجهاد فى سبيل الله, فهذا شىء آخر.

أن تقاتل فى سبيل الوطن فقط فهذا شىء, لكن أن تقاتل فى سبيل الأرض و العرض, و فى سبيل الله, و لكى تكون كلمة الله هى العليا و كلمة الذين كفروا السفلى, فشتان ما بين النيتين.

من القصور أن ننظر لحربنا مع إسرائيل فى عام 73 بأنها حرب لتحرير سيناء فقط, فتحرير الأرض هدف جزئى, و إنما نقاتل من أجل رفع كلمة الله, و هذا يتضمن ضمن ما يتضمن :الحق, و العدل, و الحرية, و السلام.

لا أظن أن الله نصرنا إلا لأننا أخذنا بالأسباب و إستعنا به, و كانت نيتنا رفع كلمته فنطقت ألسنتنا بفحوى قلوبنا بصرخة:الله أكبر.

و لا أظن أننا سنشم ريح النصر مرة أخرى إلا عندما نتذكر هذه المعانى.

عندما نتذكر معنى الشهادة, و يصبح الموت فى سبيل الله أسمى أمانينا.

عندما تحدثنا أنفسنا بالغزو, لتحرير البلاد و العباد.

عندما نسعى لكى تكون كلمة الله هى العليا فى كل المجالات.

عندما نفهم معنى(لا إله إلا الله) و (إن الحكم إلا الله), فما كان لإله أن يُعبد على هذه الأرض إلا هو, و ما كان لشرع أن يسود فى الأرض إلا شرعه.

عندما نزيح عن أعيننا الغمامة, و نتذكر من الأخ و الصديق.

و من العدو الحقيقى.

عندما نتذكر مسئوليتنا و دورنا فى هذه الأرض, و من أجل هذا الدين.

عندما نعود للرباط.

عندما نعود للجهاد.

و غنى عن الذكر أن كل هذه المعانى لا تتحقق بعنتريات فارغة, و لا طنطنة كاذبة. إنها إن تحولت إلى شعارات جوفاء فقدت قيمتها رغم نفاستها, و لكن كل معنى من هذه المعانى هو روح تحتاج إلى إعادة إحيائها فى النفوس بعد كل هذه السنوات من التخريب و قتل الروح الوطنية و روح الإيمان, و و الله لو عاد هذا الإيمان لترون من أهل هذا الدين ما تقر به الأعين و تهدأ به الأنفس و يشف صدور قوم مؤمنين.

إنها مسألة إصلاح للنفس, و رغبة فى التغيير, و عمل و تضحية من أجل الإصلاح و التغيير المنشود.

إنها مسألة وقت, مع الكثير من العمل, و الأمل, و الإيمان.


((يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم))

((و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين))

((ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم))

((يا أيها الذين آمنوا إصبروا و صابروا و رابطوا و إتقوا الله لعلكم تفلحون))

و كل عام و أنتم بخير, و مصر بخير, و أسأل الله ألا تمر علينا ذكرى النصر فى العام القادم إلا و قد عادت لنا روح الرباط, و إلا و قد إسترددنا حريتنا و عزتنا و كرامتنا, و إيماننا.اللهم آمين.