الأحد، 29 يونيو 2025

المغالطات المنطقية: فصول في المنطق غير الصوري

 

هذا الكتاب هو الأشهر في الكتب المكتوبة بالعربية في موضوعه، ويعرض لنا هذا الكتاب – كما هو واضحٌ من عنوانه – مبحثاً من أهم المباحث الجدلية التي يحتاج الإنسان للتعرف عليها لتمييز نوعية الحجج التي يستخدمها الآخرون في النقاش، وفي ظل امتلاء وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بفيضٍ من الحجج الباطلة، يكون مثل هذا الكتاب مفيداً للتنبيه على جوانب البطلان، وبالتالي قلب الطاولة على المروجين لهذا الباطل.

يبدأ الكتاب بتعريف المنطق غير الصوري، وهو: استخدامُ المنطق في تَعرُّف الحجج، وتحليلها وتقييمها، كما تَرِد في سياقات الحديث العادي ومداولات الحياة اليومية: في المحادثات الشخصية، والإعلانات،والجدل السياسي والقضائي، وفي شتى ألوان التعليقات التي نصادفها في الصحف والإذاعة المرئية والمسموعة وشبكة الإنترنت وغير ذلك من وسائل الإعلام.

ومن البديهي أن النقيض لهذا المنطق هو المنطق الصوري، وهو ما سنرى أشكاله وصوره المختلفة في هذا الكتاب، وينقل لنا الكاتب قول شوبنهاور: (كم يكون رائعًا لو أمكننا أن نُقَيِّض لكلِّ خُدْعةٍ جدلية اسمًا مختصرًا وبَيِّنَ الملاءمة، بحيث يَتَسنَّى لنا كلَّما ارتَكَبَ أحدٌ هذه الخدعة المعينة أو تلك أن نُوبِّخَهُ عليها للتو واللحظة.)، كما يقول شوبنهاور أيضاً: (يتوجب على من يدخل في مناظرة أن يعرف ما هي حيل الخداع، ذلك أن من المحتم عليه أن يصادفها ويتعامل معها. عليك إذن أن تلم إلماما جيدًا بالمغالطات المنطقية حتى يتسنى لك أن تتجنب الطرق المسدودة أثناء الحوار وتتعرف على «النقلات الخاطئة في الجدل»، وأن تُظهر خصمك على الخطأ الاستدلالي الذي ارتكبه، بل أن تُقيِّض لهذا الخطأ اسمًا؛ لكي يعلم الخَصمُ أنك تجيد التفكير ، وتفهم حجته ربما أكثر منه، كما أن كشف المغالطة وتسميتها وتحليلها من شأنه أن يُقصِي الحجة الباطلة من ساحة الجدل إقصاءً نهائياً ولا يكتفي بإضعافها أو تحجيمها، ذلك أن الخصوم المتمرسين بالجدل والمراء لديهم من الخبرة والمهارة ما يُمكِّنهم من إنعاش حجتهم الجريحة وإعادة تجنيدها في حلبة الصراع).

وعن أهمية الإلمام بالمنطق غير الصوري، ينقل لنا قول أفلاطون في محاورة جورجياس: «في جدال حول الغذاء يدور أمام جمهور من الأطفال فإنَّ الحلواني كفيل بأن يهزم الطبيب، وفي جدال أمام جمهور من الكبار فإن سياسيًّا تَسَلَّح بالقدرة الخطابية وحِيَلِ الإقناع كفيل بأن يهزم أي مهندس أو عسكري، حتى لو كان موضوع الجدال هو من تخصص هذين الأخيرين، وليكن تشييد الحصون أو الثغور! إن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته لأشَدُّ إقناعًا من أي احتكام إلى العقل.» ثم يعقب الكاتب قائلاً: (حقا ... ليس بالحق وحدَه تَكسِبُ جدالًا أو تقهر خصمًا أو تُقنع الناس، من هنا يتبين لنا أهمية دراسة الحجة كما تَرِدُ في الحياة الحقيقية وتتجسد في اللغة العادية.

ذلك أن الحجة حين تَرِد في الواقع الحي لا تأتي مجردةً مُصَفَّاة، ولا تَكشفُ صيغتَها المنطقية للمتلقي بسهولةٍ وطواعية؛ إذن لَكان تمحيصُها أيسرَ عليه بما لا يُحد، إنما تأتي الحجة دائمًا ممتزجةً بلحم اللغة ودمها، متلفعةً بانفعالات الناس وأعرافِهم، مُؤَرَّبَةً بتضاريس الواقع، وبشئون الناس وشجونها.

وما تُشَكِّل الصيغةُ المجردةُ للحجة (المقدمات المؤدية إلى نتائج) إلا لُبٍّا ضئيلًا أو هيكلًا نحيلًا متواريًا وراء طبقةٍ كثيفةٍ من الاعتبارات الدلالية والتداولية للغة، ومن طبيعة الخصم وأيديولوجيته وسيكولوجيته، ومن مقام الحديث وسياق الجدل، ومن عواطف جمهور الحاضرين وانتماءاتهم وتحيزاتهم.

ونحن في مجال المنطق غير الصوري إنما يَنصَبُّ جهدُنا على هذه الطبقة الكثيفة التي تغلف اللب الصوري للحجة، نتلمَّسها ونتناولها بالتحليل والتفتيت، ونَنْفُذ منها إلى ذلك اللُّبِّ الصوري المفترض. في مجال المغالطات، على سبيل المثال، يكون عملُنا أشبهَ بأخذ صورة أشعة للحجة المطروحة، عسانا نَطَّلِع على هيكلها الصوري المطمور، ونُقَدِّرُ نصيبه من الصواب والخطأ، ويكون معيارُنا في ذلك هو المعيار المنطقي الصوري العتيد: صدق المقدمات وصواب الاستدلال، وكثيرًا ما تَجْبَهُنا صورة الأشعة بغياب أي لُبٍّ صوري وانعدام أي هيكلٍ منطقي في الحجة!).

وينتقل الكاتب بعد ذلك إلى عرض صور المغالطات المنطقية صورة صورة، مع شرحها وضرب الأمثلة عليها، ومع ما في هذه الأمثلة من تقريبٍ للصورة للوصول لفهمٍ أدق، فإنه قد جانبه التوفيق في عددٍ منها، لأنه من الواضح – ومن المنطقي – أنه جمع مادة كتابه من عدد من المراجع الأجنبية، فكانت بعض الأمثلة المستخدمة لا تتلاءم مع ثقافتنا، ومن الواضح أيضاً أنه التزم التفسير العقلي والمادي كتفسير وحيد لكل الظواهر، في حين أن العقل لا يكفي لتفسير كل ما يحدث لنا أو من حولنا، فقد تستنكر قول قائل بأن الكارثة الطبيعية الفلانية قد حلت بهؤلاء نتيجة خطاياهم، وتقول أن هذه الكارثة قد نتجت عن زلزال حرك طبقات الأرض فدمر ما فوقها، وتتناسى أن هذا الزلزال له مُسبب هو الله، نعم نحن نختلف مع من يتألى على الله ويحكم بكل ثقة بدون علم، لكننا لا ننكر الغيبيات وخصوصاً إذا ما اقترنت بشواهد لها أمثلة سابقة، ويكون محل النزاع هو في صحة الاسقاط والاستشهاد وعلاقة السابق باللاحق من عدمه، والله أعلم.

ونعرض هنا  صور المغالطات المنطقية مع شرحٍ مختصرٍ لها، أغلبه من كلام الكاتب نفسه، وهي كالتالي:

المصادرة على المطلوب: هي حجة دائرية يفترض فيها المحاور النتيجة التي يريد الوصول إليها كمقدمة ودليل يبني عليه حجته، وبالتالي فإنها ليست أكثر من تكرار المقدمة بصيغة أخرى، وتضع أمام محاورك ما يُفترض أن تُثبته أصلاً وكأنه أمرٌ مسلم به.

 مغالطة المنشأ: فصواب الفكرة لا يحدده مَصْدَرُها الذي منه أَتَت بل الدليلُ الذي إليه تستند، بغض النظر عن مشاعرنا – سلباً أو إيجاباً - تجاه هذا المصدر.

التعميم المتسرع: وغالباً ما يحدث بالاستقراء الخاطيء الناتج من الاستناد لعينة من كتلة غير متجانسة،  فتكون النتيجة غير ممثلة للحقيقة الكلية لهذه الكتلة.

تجاهل المطلوب (الحَيْد عن المسألة) : في هذه المغالطة يتجاهل المرءُ الشيءَ الذي يتوجب أن يُبرهن عليه، ويبرهن على شيء آخر، وتتمتع هذه الحجة المغالِطة بجاذبية خفية، وتكمن قوتها في أن هناك نتيجة تم إثباتها على نحوٍ صائب، وهذا الصواب هو الذي يَصرف انتباه المستمعين بعيدًا عن المغالَطة.

الرنجة الحمراء: هي حيلةٌ كان يستخدمها المجرمون الفارون لتضليل كلاب الحراسة التي تتعقبهم، وذلك بسحب سمكة رنجة حمراء عبر مسار المطاردة، فتجتذب الكلابَ رائحتُها الشديدة عن رائحة الطريدة الأصلية، وقد استعيرت للتعبير عن كل محاولة لتحويل الانتباه عن المسألة الرئيسية في الجدل، وذلك بإدخال تفصيلات غير هامة، أو بإلقاء موضوع لافت أو مثير للانفعالات وإن يكن غيرَ ذي صلة بالموضوع المعْنِي ولا يشبهه إلا شبهًا سطحيٍّا، فيقذف بالخصم خارج مضمار الحديث.

والفرق بين مغالطة الرنجة الحمراء ومغالطة تجاهل المطلوب هو أنه في مغالطة (تجاهل المطلوب) ثمة صيدٌ تم الظفر به ولكنه غير المطلوب، وثمة نتيجة محددة تصل إليها الحجة ولكنها غير النتيجة المطلوبة، إنه خطأ في الاستدلال، أما في مغالطة (الرنجة الحمراء) فإن الحجة تنحرف في اتجاهٍ  مختلف ولا تصل إلى شيء: فهي إما حيودٌ خارج الموضوع لا إلى موضوع آخر مثير انفعاليٍّا فحسب، وإما تمويهٌ وسحابة تَعْمِية لا تفضي إلى شيء ذي بال، ليس هنا استدلال أخطأَ هدفَه، بل خداع للمستمع واستهلاك له وانحراف عن الموضوع برمته إلى مسألة أخرى.

الحُجَّة الشخصية (الشخصَنة) : هي أن تحاول تسفيه حجةٍ ما بالقَدح في الشخص الذي يعبر عنها فيبدو كأن العكس قد ثبت، ولها 4 أنواع: القَدح الشخصي(السب) - التعريض ب الظروف الشخصية -  مغالطة « أنت أيضًا » ( تفعل هذا ) -  تسميم البئر، وأنْ تُسمم بئرًا هو أن تبادِرَ بضربةٍ وقائية ضد خصمك، وتَصِمه بأن لا يُولي الحقيقة أي اعتبار فيتضمن ذلك أنه مهما يقل فيما بعد فلن يثقَ به أحد.

الاحتكام إلى سُلطة: يقع المرء في هذه المغالطة عندما يعتقد بصدق قضية أو فكرة لا سند لها إلا سلطة قائلها، قد تكون الفكرة صائبة بطبيعة الحال، وإنما تكمن المغالطةُ في اعتبارِ السلطة بديلًا عن البيِّنة، أو اتخاذها بينةً من دون البينة!، ومبدأ الاحتكام إلى سلطة ليس معيباً إذا كان الغرض منه التماس الخبرة أو العلم من مظانها، ولكنه يصير معيباً في الحالات التالية: (إذا كان الاحتكام إلى السلطة غيرضروري - إذا كانت الدعوى غير داخلة في مجال خبرة الشخص الذي يُحتكَم إليه كسلطة - إذا كان هناك خلاف بين الخبراء في المسألة المعْنِيَّة - إذا كان الخبير متحيزًا أو تكتنفه شبهة التحيز - إذا كان مجال خبرة ذلك الخبير هو علم زائف أو مبحث معرفي غير مشروع - إذا كانت الخبرة، أو الفتوى، غير معاصرة - إذا كان الخبير المزعوم مجهولًا أو غير محدد).

مناشدة الشفقة (استدرار العطف) : لا بأس قَطُّ باستدرار العطف والشفقة إذا استدعى السياق وخلصَت النية، إنما يكمن الخطأ في أن تسنِد إلى العطف وظيفةَ البَيِّنة، وأن تأخذ الشفقة مأخذ الحُجة.

الاحتكام إلى عامة الناس: وهي تتضمن الاحتكام إلى رأي عامة الناس أو الأغلبية على حساب العقل، وافتراض صواب هذا الرأي، وومحاولة انتزاع التصديق على فكرة معينة بإثارة مشاعر الحشود وعواطفهم بدلاً من تقديم حجة منطقية، ولها 3 أشكال أساسية:

1-      عربة الفرقة الموسيقية: وتتمثل في ميلنا الغريزي للانضواء مع الحشد.

2-      التأسي بالنخبة: تتمثل في الاقتداء بالصفوة المختارة بدلاً من عامة الناس.

3-      التلويح بالعَلَم أو التذرع بالوطنية: وتتضمن اللعب على مشاعر الوطنية لدى الناس، وأفضل مقولة معبرة عنها هي مقولة صموئيل جونسون "الوطنية هي آخر ملاجئ الأوغاد".

وإن كان بالتاريخ أمثلة كثيرة بها فساد رأي الأغلبية، فإن ذلك لا يعني الاستهانة برأي الأغلبية بشكلٍ مطلق، والعبرة بالدليل العقلي والمنطقي الذي يستند إليه الرأي.

الاحتكام إلى القوة (منطق العصا، اللجوء إلى التهديد) : تعني هذه المغالطة اللجوء إلى التهديد والوعيد من أجل إثبات دعوى لا تتصل منطقيًّا بانفعال الخشية والرعب الذي تهيب به، تقبع في صميم هذه المغالطة فكرة القوة تصنع الحق might makes right وهي مغالطة لأن التهديد يعمل على مستوى دافعي مغاير لمستوى القناعة الفكرية، بوسعك أن تفرض السلوك القويم بالقوة، ولكن ليس بوسع أحد قط أن يفرض الرأي العقلي بالقوة، وإن ألف سيف مُصْلَتٍ على رقبتك لن تنهض لك دليلا على أن اثنين واثنين تساوي خمسة مثلاً. قد تشتري رقبتك بالطبع وتُسَلِّم للمأفونين بأنها لكذلك، ولكن الانصياع لا يعني الاقتناع.

الاحتكام إلى النتائج: ويتضمين تصديق أو تكذيب الخبر بناءً على حبنا أو كرهنا للنتائج المترتبة على صحته، ولا يوصف هذا إلا أنه هروبٌ من الواقع.

الألفاظ الملقمة: الألفاظ المشحونة (المفَخَّخَة) : حين تكون اللفظة محملة بمتضمنات انفعالية وتقويمية زائدة، بالإضافة إلى معناها المباشر، يقال لها لفظة مُلقَمة loaded word أو مشحونة، فالكلمة الملقمة مثل البندقية الملقمة بالذخيرة، والمعنى الانفعالي أو التقويمي هو الرصاصة، حين أستعمل لفظة « بهيمة» بدلًا من «حيوان»، ولفظة «رشوة» بدلاً من «حافز» ... إلخ، فأنا عندئذ أستخدم ألفاظا ملقمة تفعل فعلا آخر غير مجرد رصد الحالة الموضوعية: إنها تحكم وتقوم وتحرّض وتُوعز، واستخدام النعوت بهذه الطريقة يُصادر على المطلوب لأنه يوجه المستمع نفسياً وعقلياً لمراد المتكلم.

المنحدر الزلِق (أنف الجَمَل) : تعني مغالطة المنحدر الزلق أن فعلًا ما، ضئيلًا أو تافهًا بحد ذاته، سوف يجر وراءه سلسلةً محتومة من العواقب تُؤدي في نهاية المطاف إلى نتيجة كارثية، كل حدث في هذه السلسلة هو نتيجة ضرورية لما قبله وسبب للحدث الذي يليه، وهذه المغالطة غالباً ما تفترض نتيجة نهائية افتراضية مضخمة جداً كذريعة لعدم السماح بالفعل الأول من الأساس.

الإحراج الزائف (القسمة الثنائية الزائفة) : يقعُ المرء في هذه المغالطة عندما يبني حجتَه على افتراضِ أن هناك خيارين فقط أو نتيجتين ممكنتين لا أكثر، بينما هناك خيارات أو نتائج أخرى، إنه يغلق عالَمَ البدائل الممكنة أو الاحتمالات الخاصة بموقفٍ ما، مبقيًا على خيارين اثنين لا ثالث لهما، أحدُهما واضحُ البطلان والثاني هو رأيُه دامَ فضلُه. مثل: إما أن تكون معنا أو ضدنا.

السبب الزائف (أخْذُ ما ليس بعلةٍ عِلةً) : وتتضمن الربط الوهمي بين أمرين قد لا يكون أحدهما مرتبطاً بالآخر من الأساس، فقد تكون العلاقة علاقة (معية) مردها الصدفة البحتة، أو الارتباط بمسبب ثالث يؤثر على الحدثين، ومن الفوائد اللطيفة في هذا الفصل ما دونه الكاتب في الهامش من أن جرى الاتفاق على أن تُترجم كلمة Cause إلى (علة) بمعنى سبب طبيعي، وتُترجم كلمة reason إلى (سبب) بمعنى سبب عقلي.

السؤال المشحون (المركَّب) : هو تكنيك يعمد إلى دس (فروض مسبقة) غير مبرَّرة وغير داخلة في التزامات الخصم، داخل سؤال واحد، بحيث إنَّ أي جواب مباشر يعطيه المجِيب يوقعه في الاعتراف بهذه الفروض، والمثال التقليدي على المغالطة (هل توقَّفت عن ضرب زوجتك؟)  فأيٍّا ما كان الجواب، نعم أو لا، فإن المجيب يعترف بالفرض المسبق وهو أنه كان في وقتٍ ما يضرب زوجته.

التفكيرالتشبيهي (الأنالوجي الزائف) : يقع المرء في هذه المغالطة عندما يعقد مقارنةً بين أمرين ليس بينهما وجهٌ للمقارنة، أو أمرين بينهما مجرد تشابه سطحي وليس بينهما وجه شبه يتصل بالشأن المعْنِيِّ الذي تريد الحجة أن تُثبتَه.

ومن النقاط المهمة المرتبطة بهذه المغالطة، هو استخدام التشبيهات والاستعارات البلاغية غير ذات الصلة لإقناع الناس، مثل أن تقول: النظام الجمهوري هو نظام زائف ومدمر لأ الملك هو رأس الدولة، ولو فصلت الرأس عن الجسد، سيموت الجسد كله.

مهاجمة رجلٍ من القش: هي تلك المغالطة العتيدة التي يعمد فيها المرء إلى مهاجمة نظرية أخرى غير حصينة بدلا من نظرية الخصم الحقيقية، وذلك تحت تعمية من تشابه الأسماء أو عن طريق إفقار دم النظرية الأصلية وتغيير خصائصها ببترها عن سياقها الحقيقي أو بإزاحتها إلى ركن قصي متطرف، ويشبه هذا الجهد العقلي العقيم، سواء حسنت النية أو ساءت، أن يكون رميًا لخصم من القش بدلًا من الخصم الحقيقي، أو قصفًا لكتيبة هيكلية بدلا من قصف الكتيبة الحقيقية، إنه لأيسر كثيرًا أن تنازل رجلًا «دمية» من أن تُنازل رجلاً حقيقياً.

تتم مغالطة رجل القش بأن يَجْبُل المحاورة حجةً هشةً سهلة المنال غير حجة الخصم الحقيقية وينسبها إلى الخصم، ثم يُعمِل فيها مَعاوِل الهدم والتقويض، فيضفي انطباعًا زائفًا بأنه نجح في التفنيد، ويعلن انتصاره على خصمه، قد يتم ذلك عن عمدٍ فيكون حيلةً قذرةً وينم على الخبث وسوء النية والافتقار إلى الأمانة في الجدل، وقد يتم عن غير عمد فينم على الغفلة أو الجهل ويكون، في كل الأحوال، مضيعةً للوقت وإهدارًا للجهد في معركة وهمية غير ذات صلة وتُرَّهةٍ خارجة عن الموضوع!

وربما كانت المغالطات السابقة هي أشهر المغالطات وأكثرها استخداماً في الحجاج والمناظرات، ولكن نجد مغالطات أخرى ذكرها الكاتب، وننقل أهمها هنا باختصار:

مغالطة التَّشييء: هي أن تنسب وجوداً حقيقيٍّا للتصورات العقلية أو البناءات الذهنية، وكأنها تجسيدٌ لأمورٍ معنوية اعتبارية لا يمكن تجسيدها.

انحياز التأييد (التأييد دون التفنيد) : هو الانحياز المعرفي تجاه تأييد الفرضية محل الدراسة بدلاً من تفنيدها، و يُعرَّف انحياز التأييد أيضاً بأنه ظاهرة تتميز بميل صانعي القرار إلى ملاحظة الأدلة المؤيدة لدعاواهم والاحتفاء بها والتماسها بهمةٍ، بينما يميلون إلى تجاهل الأدلة التي قد تنال من الدعاوى، وإلى التقاعس عن طلبها والبحث عنها، وهو بهذا انحياز انتقائي.

إغفال المقَيِّدات : وتتضمن إغفال المقيدات أو المحدِّدات أو الشروط التي ينطوي عليها التعميم، واستخدام القاعدة ذات الاستثناءات المقبولة على أنها قانون مطلق، مثل أن تقول: (سيارة الإسعاف التي عبرت الآن تستحق مخالفة لأنها كسرت الإشارة الحمراء).

مغالطات الالتباس : وتتضمن استخدام العبارات أو المفردات المشتركة وتفسيرها بشكلٍ خطأ دون الرجوع للسياق، أو اللعب بالألفاظ بشكل مخادع (كما يفعل العرافون).

مغالطة التركيب والتقسيم : هي مغالطة إضفاء صفات الجزء على الكل أو العكس.

إثبات التالي : تُرتكَب هذه الأغلوطة في كلِّ حالة نعتقد فيها أن نظرية ما صحيحة لأن نتائجها التي لا بُدَّ أن توجد إذا كانت صحيحة هي نتائج موجودة، فنظن أن تحققها في أرض الواقع هو برهان لصحة النظرية، كأن تقول مثلاً: إذا كان النظام الجمهوري صالحاً لمصر لبقي فيها مدة طويلة، وطالما أنه بقي في مصر لمدة طويلة، إذاً فهو صالح لمصر.

ذَنْبٌ بالتداعي : يقع المرء في هذه المغالطة حين يذهب إلى أن رأيًا ما هو باطلٌ بالضرورة بالنظر إلى معتنقيه، أو أن دعوى معينة هي كاذبةٌ لا لشيءٍ إلا لأن أناسًا يبغَضُهم يقبلونها ويأخذون بها، فيعمد إلى رفض الدعوى؛ لأنها مرتبطة في ذهنه بما لا يحب.

الاحتكام إلى الجهل : تتضمن أن شيئًا ما هو حق بالضرورة ما دام أحدٌ لم يبرهن على أنه باطل، والعكس، مثل قصة جحا ومن سأله عن عدد شعر رأسه.

مغالطة سرير بروكرست : وهي تتضمن أية نزعة إلى فرض القوالب على الأشياء أو ليِّ الحقائق وتشويه المعطيات وتلفيق البيانات لكي تنسجم قسرًا مع مخططٍ ذهني مسبق.

مغالطة المقامر : وهي تتضمن التوقع الخاطيء للشخص لنتيجة ما بدعوى أن نفس الحدث تكرر بنفس الصورة عدة مرات من قبل، في حين أن الحدث له عدة احتمالات، لا يلزم بالضرورة أن تتكرر كل مرة.

المظهر فوق الجوهر : يقع المرء في هذه المغالطة عندما يولي أهمية زائدة للأسلوب الذي تم به عرضُ حُجةٍ ما، بينما يهمِّش، أو يتغافل، مضمونَ الحجة ومحتواها.

الاحتكام إلى القديم (الاحتكام إلى التقاليد) : وهذه المغالطة تجعل من عُمر الفكرة معيارًا لصوابها، ومن مجرد قِدَمها دليلًا على صحتها، وأصدق مثال له ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أمُّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾.

النبوءة المحقِّقة لذاتها : وتعني افتراض فرضية معينة على شكل معلومة أو نبوءة، فتتحقق بسبب تأثر السامعين لها.

الخطأ المقولي (خلط المقولات،خلط الأوراق) : ويتضمن أن تقرن أشياء من تصنيفات مختلفة لا يجوز عقلًا أن تجتمع.

وبهذا ينتهي هذا الملخص لأهم أفكار الكتاب، ويبقى أن نذكر أنه من المفيد أن يكتمل منظور القاريء بالقراءة في نفس الموضوع ولكن من منظور أقرب لتراثنا، ومن الكتب المفيدة في ذلك كتاب (الحجاج والمغالطة) لرشيد الراضي، وكذلك كتاب (أصول الخطأ في الشبهات المثارة ضد الإسلام وثوابته) لأحمد بن يوسف السيد، والكتاب الأخير كتاب صغير الحجم مفيد في موضوعه، ويجمع بين تسليط الضوء على مفاهيم المغالطات المنطقية، وربطها بالحوار مع مثيري الشبهات ضد الإسلام.

وفي النهاية أحب أن أضيف أن القراءة في هذا المبحث، وإن كانت هامة لكي ينتبه المرء للخدع التي يلجأ إليها المغالطون في عرض القضايا ومناقشتها، فإن البعض – من جهة أخرى – قد يتخذونه ككتيب للإرشادات، أو دستوراً للعمل!

الأربعاء، 25 يونيو 2025

ضباط يونيو يتكلمون: كيف شاهد جنود مصر هزيمة 67؟


 

يعرض هذا الكتاب شهادات مجموعة من الضباط الذين شهدوا حرب 67، ومثل هذا الكتاب من الأهمية بمكان، لأن أغلب ما لدينا من شهادات هي شهادات القادة، سواء كانوا من كبار القادة، كشهادة مرتجي وفوزي وصادق، أو من كانوا برتبة قائد لواء في وقت الحرب، كالشاذلي وعبد المنعم خليل وكمال حسن علي، وكل هذه الشهادات تعرض الرؤية من القمة، لكن هذا الكتاب الذي يعرض شهادات الضباط ينقلنا إلى القاعدة، ليكمل لنا جزءاً من الصورة.

بدأ الكتاب بشهادة العميد طيار تحسين زكي قائد لواء السوخوي، وكان موقعه في مطار فايد، وتحدث عن ضرب العدو للمطار وأثر قنبلة الممرات به وتدمير طائرة حسين الشافعي بعد هبوطها، ومحاولاته هو وزملائه لإبعاد الطائرات السوخوي التي نجت من التدمير وتحريكها لإمكانية الانطلاق بها. ثم تحدث عن مكالمة المشير له لتنفيذ الخطة الهجومية لمطارات العدو، وخروج طائرتين في اليوم التالي للهجوم على المطار المذكور، ولم يجدوا المطار أصلاً بما يعني أن معلومات المخابرات كانت خطأ، وبحثهم عن أي هدف حتى وجدوا مطار آخر به عدد من طائرات الهليوكوبتر فضربوها. وتحدث كذلك عن طلعات أخرى لقصف قوات العدو المتقدمة، ومشاهدته لقواتنا المنسحبة، ولقوات الفرقة الرابعة وهي تتقدم مرة أخرى، ثم مشاهدته لها بعد أن دُمرت.

بعد ذلك نقرأ شهادة الطيار هشام مصطفى حسين، ويحكي عن استدعائه لقاعدة العريش الجوية مساء يوم 14 مايو 67، والخرائط والصور القديمة التي وضعوها أمامهم لأهداف من المفترض أن يهاجموها، وعند السؤال عن تاريخ التقاط الصور كانت الإجابة عام 1948!

وتحدث عن انتظارهم 5 ساعات داخل الطائرات، ثم إلغاء المهمة، وتكرار الإلغاء في الأيام التالية.

ثم يحكي عن انتقاله لمطار بير تمادة، وترك الطائرات مكشوفة تلمع في العراء، وعن الأوامر التي صدرت لهم قبل الحرب ب3 أيام بوقف الطلعات التدريبية والمظلات الجوية حتى لا تُستهلك الطائرات قبل المعركة، ثم يحكي لنا عن الهجوم في 5 يونيو، وتدمير ممر المطار بكل ما به من طائرات، قبل أن يتمكن أي طيار من الوصول لطائرته.

ثم ننتقل لشهادة ضابط الصاعقة علي عبد المنعم مرسي عن دوريات الصاعقة التي اشترك بها وانطلقت من الأردن لداخل الأرض المحتلة بهدف تدمير بعض المطارات، ولكن فشلت المهمة، مع تمكنهم من الاشتباك مع العدو وإحداث خسائر به، ثم اضطرارهم للانسحاب للأردن.

ثم شهادة ضابط الاستطلاع يحيى سعد باشا، الذي تمركزت وحدته في نخل، وحكى عن بعض الصعوبات التي واجهتهم في المعدات والأسلحة، وبالأخص ال آر بي جي، حيث جمعوا منهم ما كان معهم (طراز 2) ووزعوا عليهم طراز أحدث (طراز 7)، وحينما سألوا عن الذخيرة، قيل لهم أن نفس الذخيرة القديمة تعمل مع السلاح الجديد، وعندما اجتاحت قوات العدو مواقعنا وبدأ جنودنا يحاولون اصطياد الدبابات بال آر بي جي، لم تنطلق الذخيرة، فتعرض جنودنا لمذبحة، وماتوا بنيران الدبابات أو تحت جنازيرها!

ثم ينقل لنا شهادة الفريق عبد المنعم واصل، وكان وقتها برتية عميد وقائد اللواء 14 مدرع، وكانت قواته قد أُنهكت قبل القتال بعد أن تحركت 910 كم على الجنزير من القناة إلى جبل لبني ثم إلى الشيخ زويد ثم العودة إلى الحسنة ثم جبل لبنى، وفي كل منطقة يحتاج لتجهيز مخابيء الدبابات والحفر لها، والتحركات كلها بسبب الأوامر المتضاربة من القيادة ومنها أوامر بالهجوم ثم الإفغاء والتحرك لمنطقة أخرى للدفاع، وفي إحدى المرات كلفوه بالتمركز في منطقة ولما استطلعها وجد أنها حقل ألغام!

يحكي عن الهجوم يوم 5 يونيو حيث كان مع القادة في مطار بير تمادة في انتظار طائرة المشير، وبعد بدء هجوم العدو أسرع بالعودة إلى قواته ونظمها، واستطاع ببعض المناورات تفادي القوات الإسرائيلية، ثم اشتبك معها مساء يوم 6 يونيو في معركة دبابات، وكانت خسائر العدو 39 دبابة سنتوريان + 4 دبابة باتون + 27 عربة نصف جنزير، في مقابل 8 دبابات مصرية، وعشرين شهيداً، وللأسف حين صدر قرار الانسحاب، هاجمت طائرات العدو قواته المنسحبة، فخسر 32 دبابة، بالإضافة للعديد من المعدات والمركبات، وهذا يُثبت أن ثباتنا في مواقعنا ومواجهة العدو كان سيحدث بهم خسائر فادحة، وأن خسائرنا في القتال لا تُقارن بأي حال من الأحوال بما خسرناه في الانسحاب العشوائي.

ثم يعرض الكاتب شهادة ضابط الإشارة محمد أحمد خميس، وبدأ كلامه عن بعض ما شهده في اليمن، ثم انتقل للحشد العشوائي للقوات في سيناء، والحالة السيئة للقوات وقلة التجهيزات، وصدور الأمر لهم بالانسحاب إلى القناة، والصدمة المروعة التي تعرض لها الضباط وعدم تمكنهم من إبلاغ جنودهم بعد أن كانوا شحنوهم معنوياً وكانوا يظنون أنهم في طريقهم للهجوم على العدو، وبعد أن طلع النهار شاهد الجنود القناة أمامهم فعلموا أنهم انسحبوا فأخذوا يبكون!

ثم ينتقل الكاتب لشهادة ضابط الاستطلاع حسن بهجت، الذي يبدأ شهادته بانتقاد ما حدث في حرب اليمن، ويعتبر أن العديد ممن شاركوا فيها كان همهم الأساسي الامتيازات المادية والعودة بالبضائع غير المتوفرة في مصر الاشتراكية، ومنها (الكمبوت)!، وتحدث عن غسيل المخ الذي كانوا معرضين له، واستبعاد التدين، وشحنهم بأنهم يقاتلون في سبيل الاشتراكية!، ثم تحدث عن جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات المصرية في اليمن، وعن مجموعات العمليات الانتقامية ومنها مجموعة (عادل سوكة) ومجموعة (الشاذلي)، وهي معلومة محزنة جداً، حيث يذكر أن هذه المجموعات كانت تدخل إلى القرى اليمنية وتُبيد كل ما هو حي على وجه الأرض من بشر عزل وحتى الحيوانات، ثم نسف البيوت، واعتبر أن هزيمة 67 هي انتقام إلهي.

ويحكي عن حضوره اجتماع في سيناء حضره المشير عامر، وأن أحد الضباط سأله عن الأسطول الأمريكي السادس، ليجيب المشير بأن الأسطول السادس أمره سهل وسيتم القضاء عليه، وقال ساخراً: إحنا مش بتوع كلام، ولا نريد أن نفصح عن كل شيء!

وعندما بدأت الحرب، كانت وحدته مرتكزة بخط الدفاع الثاني، ويوم 6 يونيو رصدت مجموعات الاستطلاع قوات العدو قد نزلت من عرباتها وتتقدم على الأقدام، وكان هذا مثار استغرابه لأن العدو لا يُهاجم إلا من مدرعاته، وعندما أخبر القيادة أصدرت الأمر بالضرب بالمدفعية، وبعد ساعة وصل أحد أفراد هذه القوة ليكتشفوا أن ما قصفوه كانت قوات مصرية منسحبة من خط الدفاع الأول الذي سقط، فانهارت معنويات الجميع، ثم انسحبت القوات تبعاً لقرار الانسحاب الشهير.

ثم نقرأ شهادة عاصم شراكي ضابط أمن قاعدة المليز الجوية، وهو أول مطار متقدم في سيناء، ويحكي لنا تفاصيل الهجوم، ومحاولة طياري الحالة الأولى (الطيار في حالة الاستعداد داخل الطائرة) والحالة الثانية (الطيار في حالة الاستعداد بالقرب من الطائرة) الاقلاع بطائراتهم، ونجاح العدو في تدمير هذه الطائرات وبقية الطائرات والذخائر على الأرض، حاول الرجال القتال بأي شيء لكن فقدوا كل شيء، وحتى مواسير مدافع الدفاع الجوي انصهرت من كثر ما أطلقت من نيران، ثم صدر أمر الانسحاب فنسف الضابط المطار وانطلق غرباً.

ثم نقرأ شهادة ضابط الاستطلاع عادل محجوب، الذي قاد فصيلة استطلاع تمركزت بالقرب من العريش وفي مواجهة مستعمرة جيفات راحيل الإسرائيلية، وأعد دورية استطلاع وغبر بجنوده الحدود دون أي أوامر لاستطلاع منطق العدو، ونقل الفارق بين استعدادات العدو تجهيزاته، وبين الوضع المزري في الجانب المصري، وبعد يومين من عودته فوجيء باستدعائه للقيادة وتوبيخه للقيام بدورية الاستطلاع  - رغم أن هذا دوره وواجبه – وعوقب بالنقل. ثم يحكي عن انضمامه للمجموعة الخفيفة رقم (1) المعروفة بمجموعة الشاذلي، ويتكلم عن محاولة الشاذلي حل المشاكل الإدارية ومشاكل المعدات، ويصف الشاذلي بأنه نشط وغزير المعلومات العسكرية، ولكن يؤخذ عليه ثقته الزائدة عن الحد بنفسه. ثم يحكي عن الأوامر المختلفة بتحرك القوات في امثر من موقع، حتى وصلت لأقصى حالات الإنهاك يوم هجوم العدو، ويقول أن الشاذلي ركب سيارته وذهب للقيادة للحصول على الأوامر، وأنهم لم يشاهدوه بعد ذلك في سيناء، وأن قواتهم تعرضت للقصف العنيف في معركة غير متكافئة مع العدو إلى أن اضطروا للانسحاب، وهذه الرواية تخالف ما رواه الشاذلي عن نفسه من أنه قاد قواته داخل أراضي العدو، ثم استطاع الانسحاب بهم بعد ذلك بشكل منظم بأدنى حد من الخسائر، إلا لو كان الضابط عادل محجوب يتحدث عما حدث لفصيلته هو فقط.

ثم نقرأ شهادة الدكتور عبد الفتاح تركي، وكان ضابط احتياط عمل كضابط استطلاع في اللواء الثاني المدرع بقيادة العميد كمال حسن علي، والتابع للفرقة الرابعة المدرعة، وحكى عن حماسهم وهم متجهين لسيناء، وعن ضعف التدريب في السنة السابقة للحرب، وأنهم تدربوا على ال أر بي جي لأول مرة في سيناء، ثم محاولاتهم الاشتباك مع طيران العدو من مدافع مدرعاتهم والمدفعية المضادة للطيران، وعن الأوامر بتحركات اللواء وهو مكشوف بدون غطاء جوي وما سببه ذلك من خسائر، والانسحاب إلى القناة، ثم الأوامر بالعودة مرة أخرى واحتلال المضايق، ووصوله للمضايق ورؤيته لقوات العدو وهي تتقدم، ثم إصابته بنيران صديقة قد على إثرها بصره، بينما تولى طيران العدو تدمير بقية اللواء وهو يحاول مقاتلة قوات العدو المتقدمة على الأرض.

ثم نأتي لشهادة المهندس محمد فؤاد غانم وهو ضابط مهندس إنشاءات بالقوات الجوية، ويحدثنا أولاً عن صواريخ الظافر والقاهر، وأن ما ما شاهده الناس في الاستعراض العسكري كان مجرد هيكل من الصاج والخشب، وأن تجارب الصواريخ الفعلية لم تكن ناجحة وكان الصاروخ يسقط على مسافة قريبة.

ثم ينتقل للحديث عن ضعف الاعتمادات المالية المخصصة للانشاءات اللازمة للمطارات – ومن أهمها الدشم -  طوال السنوات السابقة للحرب، ويتحدث بمرارة عن جهله وهو ضابط بأن إسرائيل كانت تمر من خليج العقبة طوال الفترة من بعد حرب 56، ثم يتحدث عن الأوامر التي صدرت له قبل الحرب بالمرور على مطارات سيناء للبدء في عمل التجهيزات الهندسية (بعد إيه!)، وما شاهده في مطار العريش يوم 5 يونيو من ضرب المطار، وتفاجئه بوصول دبابات العدو غرب مدينة العريش في نفس اليوم، ونجاته من العدو بأعجوبة.

ثم يُختم الكتاب بشهادة محمد عبد الحفيظ من قوات المظلات، وكان من ضمن القوات المكلفة بتأمين شرم الشيخ مع اللواء عبد المنعم خليل، ويخبرنا أنهم حتى يوم 6 يونيو لم يكونوا يعرفون عن تطورات الأحداث أكثر مما يسمعونه في إذاعة صوت العرب من أن قواتنا على مشار تل أبيب، وفي مساء 6 يونيو استدعاهم القائد ليخبرهم بصدور أمر الانسحاب، فعلاهم الوجوم، واقترح البعض أن يتقدموا للهجوم على ميناء إيلات ومن بعدها جنوب النقب ويثيروا المتاعب للعدو داخل الأرض المحتلة ليخفوا الضغط عن قواتنا ببقية سيناء، لكن أوامر القيادة كانت صريحة بالانسحاب، وفي هذا الانسحاب اضطروا للتخلي عن الكثير من الأسلحة والمعدات التي إما دمرت أو تُركت لقمة سائغة للعدو، ثم يتحدث عن الأوامر الصادرة بالتحرك للإسماعيلية يوم 8 يونيو لمشاركة الفرقة الرابعة المدرعة في الهجوم المضاد، وعن انقلاب بعض السيارات بالجنود لأن سائقيها لم يناموا من 48 ساعة، وعند وصولهم للإسماعيلية عرفوا أن الفرقة الرابعة المدرعة قد دُمرت!

وإلى هنا ينتهي هذا الكتاب المؤلم بكل ما فيه من شهادات مؤلمة، عن هزيمةٍ يُمكن أن نجد عنها مائة ألف حكاية بعدد من شهدوا أهوالها، وعلى اختلاف مواقع أصحابها، ستجمع هذه الحكايا على أنهم إما لم يجدوا الفرصة للقتال، أو أنهم عندما قاتلوا قاتلوا بشجاعة وأثخنوا في العدو، ولكن عشوائية أوامر التحركات قبل الحرب أنهكتهم، ثم أتت عشوائية أوامر الانسحاب لتُجهز عليهم!

السبت، 21 يونيو 2025

من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن - الجزء الأول

 


هذا الكتاب نسيج وحده، حظى بإعجاب كل من قرأه، وأثنى عليه العلامة الطناحي في مقالاته، وكانت مقدمة هذا الكتاب مقال الطناحي عنه، وقال فيها:

(ومع غزارة هذه المعارف التي يقدمها لنا الكاتب، ونفاستها، فهو لا يُدل بها على قارئه، ولا يسوقها في موكب تتقدمه الخيالة، ويحف به راكبو الدراجات، وتكتنفه دقات الطبول، كما يفعل كثير من الكتاب الآن، وإنما يأتيك كلامه سهلا رهوا، يتهادى في إهاب الكرامة والتواضع والإسماح، وعليه من العلم بهاؤه، ومن الجد أماراته بأسلوب عذب ،مصفى، أسلوب كاتب يحترم عقل قارئه، ويريد إمتاعه لا التعالى عليه. يقول في الفصل الثانى الأعجمى المعنوى والأعجمي العلم - فى مناقشة المفسرين الذين اعتمدوا في تفسير أسماء أنبياء بني إسرائيل على المعجم العربي وحده، يقول: «وأنا أيها القارىء العزيز - إن كنت لا تعرف عبرية التوراة أويونانية الأناجيل، بما في هذه وتلك من أعلام آرامية بل ومصرية - أحيانا- لا أريد لك أن يفوتك شيء من حلاوة بحث أريد أن أحبره لك تحبيراً : أريد منك أن تشترط على توثيق ما أحدثك به، فلا أكيل لك القول جزافاً آمنا ألا تكشف زيفى، لأنك لا تعلم شيئاً من أمر تلك اللغات التي ذكرت لك. ليس هذا من العلم في شيء، وإنما هو من التدليس»).

والغرض الأساسي من الكتاب، هو عرض ما وصل إليه المؤلف باجتهاده الذي لم يسبقه إليه أحد فيما نعرف، وهو أن الاسم العَلَم الأعجمي حينما يُذكر في أي موضعٍ في القرآن، فإنما يُترجَم معناه في سياق الآيات، وانتبه لهذا الأمر أولاً حينما عرف أن معنى زكريا هو (ذاكر الله)، ولاحظ موقعها من الآيات في مطلع سورة مريم "ذكر رحمة ربك عبده زكريا"، ثم بالبحث رأى أن هذا الأمر مضطرد في كتاب الله، وأنه ( لا يكاد يخلو علم أعجمي في القرآن من النص على ترجمة معناه في سياق الآية ترجمة دقيقة مطابقة)، وفي ذلك يقول في موضعٍ آخر (ولكن هذا الذى لا تلتفت إليه يتواتر في كل علم أعجمي مذكور باسمه أو بكنيته في القرآن فتتساءل أمقصود هو أم غَيْرُ مقصود ؟ أم أنه الإعجاز البياتي الألفاظ والصور على هذا النسق المتناغم المتجانس لا يُراد منه إلا الذي يؤلف بين هذا ؟ وأنا لا أقول لك إن المقصود هو هذا أو ذاك، فلا يملك مخلوق تقييد مقاصد الخالق عز وجل ، وإنما الذى أقوله لك هو أن لإعجاز القرآن وجوها هذا أحدها : إنه دليل العلم، ودليل القدرة.)، بالإضافة إلى ذلك، يرى الكاتب أن بعض الأسماء لها ترجمات وتفسيرات رأى أن أهل لغاتها جانبوا الصواب فيها، فيخطيء أصحاب اللغة ويصيب القرآن.

والكتاب من جزئين، يبدأ الكاتب الجزء الأول الذي يستغرق نصف هذا الجزء بثلاثة فصول بديعة  في تاريخ وفقه اللغة تعتبر بمثابة الأصول والتمهيد للتطبيق الذي يستغرق بقية الكتاب، وفي التطبيق يعرض الأعلام الأعجمية المذكورة في القرآن اسماً اسماً، ويحلل معناه في لغته الأصلية، ويعرض ما يقرره من أن القرآن يفسر في ثنايا الآيات المعنى الدقيق لكل اسم أعجمي علم ورد في القرآن، أياً كانت اللغة المشتق منها هذا الاسم، ولو كانت لغة منقرضة.

والحقيقة أن المقدمة والتمهيد بهذا الكتاب بها من اللطائف والأفكار النفيسة ما يحار المرء أيها ينقل وأيها يقتبس، وأحسب أن الله قد فتح على كاتبه ويسر له سبيل عرض فكرته، والتي تحتاج أن تُقرأ بهدوءٍ وروية حتى تُهضم، فإذا ما استوعبها قارئها فرح بها، لما فتحت له من أبوابٍ جديدة في النظر لإعجاز كتاب الله تعالى، وشرف اللغة التي اصطفاها الله لتكون وعاءً لكتابه.

سأنقل هنا بعض أهم ما صادفني وأعجبني في هذا الكتاب الجميل:

(وليس القرآن عربيا فحسب ، وإنما هو عربي مبين . تجد النص على هذا في قوله عز وجل : "وإنه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرین. بلسان عربی مبين".

ولفظ " المبين " حيثما ورد في كل القران ـ وقد ورد لفظه نعتا للمعرفة والنكرة ١١٩ مرة- لا يعنى الإفصاح والإبانة ، وإنما يعنى حيث ورد ، تأكيد اكتمال تحقق الصفة فى الموصوف . إليك بعض الأمثلة ، وعليك بالباقي في مواضعه من المصحف:

"فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين" ، أي ثعبان حق، لا شك في ثعبانيته.

"إن الشيطان للإنسان عدو مبين" ، أي هو العدو يقيناً ، لا خفاء لعداوته.

"إنا فتحنا لك فتحا مبينا" ، أى أن صلح الحديبية وإن تجهمه أول الأمر بعض أجلاء الصحابة ، ليس فتحا فحسب ، وإنما هو فتح حق ، ليس له إلا هذا الاسم.

"هو الحق المبين"، يصف نفسه تبارکت أسماؤه ، أي هو عين الحق جل جلاله ، لا يمارى فيه أحد.

من هنا تدرك أن وصف لغة القرآن بأنها لسان عربی مبين ، يعني أنه بلسان عربي بين العربية ، أو هو حق العربية ، لا يماري في عربيته إلا جاهل بالعربية نفسها.)

وفي موضعٍ آخر يقول:

(ولقد امتن الله على العرب بالقرآن، وأكرم بها منة أن يكون لسان القرآن لسانهم.

نعم، شرُفت العربية بالقرآن، وشرُفَ أهلها.

وقد تتساءل : كيف استحقت العربية هذا الشرف؟

لا يكفي أن تقول نزل القرآن عربیا لمجرد أن المنزل عليه القرآن عربی والمنزل إليهم القرآن عرب .

بل هو تقدير العليم الخبير ، الذي لا يمضي أمرا إلا أحكمه.

إنه عز وجل يصطفی لرسالته الرسول، ويصطفي لرسوله الجيل الذي يحمل الرسالة ، ويصطفي لخاتم رسله البقعة التي تنطلق منها الرسالة إلى أقاصى الأرض.

وهو أيضاً جل شأنه يصطفی لرسالته الأداة ، وأداة الإسلام هي هذا القرآن الناطق بالعربية .

کيف وسعت العربية هذا القرآن ؟ کیف حملت وقره ؟ ما تلك الحضارة التي أنضجت تلك اللغة ، واللغة كما تعلم هي نِضاج الحضارة ؟ وهل كانت للعرب قبل القرآن حضارة ؟ فمتى اكتمل لها نحوها وصرفها وإعرابها ؟ متى تهيأ لها شعراؤها وخطباؤها وفصحاؤها ؟ بل كيف فهم العرب عنه ؟ كيف تذوقوا حلاوته ؟ كيف سلموا بإعجازه ؟

الحق أن العربية هُيئت تهيئةً لتلقي هذا القرآن ، وژیئت تزیینا لتليق به ، وأُنضجت إنضاجا لتكون وعاءه ، وأُحكمت إحكاماً لتعبر عنه ، فما نزل القرآن إلا وقد تهيأ لها هذا كله ضد منطق التاريخ ومنطق الحضارة .

وتلك وحدها معجزة ، وليس شيء على الله بعزيز .

لم تكن العربية وقت نزول القرآن ، بمستواها هذا الفني المحكم ، لغة كتابة ، فقد أريد للقرآن أن يكون " قرآنا ".

كانت العربية وقت نزول القرآن ، بمستواها هذا الفني المحكم ، لغة الخطاب اليومي ، لا لغة يصطنعها فحسب أهل الفكر والفن والأدب ، ولم تكن بمستواها هذا الفني المحكم لغة الخطاب لدى الصفوة من سادة قريش فحسب ، بل كانت هي لغة الخاصة والعامة .

وهذا هو أصلا معنى اللغة : لا تلتمس في المدونات وبطون الكتب، ولا تهمهم بها الأقلام وتحبر الصحف ، وإنما اللغة هي التي ينطلق بها اللسان سجيةً ، فتبصر بها العين ، وتسمع الأذن .

وكان هذا ضرورياً لرسالة تخاطب الكافة، لا تعويل فيها على متحنثٍ أو متكهن.)

وأعقب على ذلك بأن قوله (يصطفي لرسالته الرسول) يتماشى مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ اصطفى مِن ولدِ إبراهيمَ ، إسماعيلَ ، واصطَفى من ولدِ إسماعيلَ بَني كنانةَ ، واصطَفى من بَني كنانةَ قُرَيْشًا ، واصطفى من قُرَيْشٍ بَني هاشمٍ ، واصطَفاني من بَني هاشمٍ" فهو خيارٌ من خيارٍ من خيار. وقد أنشأه الله في منازل أبلغ العرب وأوسطهم وأفصحهم لساناً.

وقوله (يصطفي لرسوله الجيل الذي يحمل الرسالة) يذكرني بقول سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ). وقول سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم، والله رب الكعبة).

ثم ننتقل لهذه الفائدة لغوية من الكتاب، حيث يقول الكاتب:

(من اللغات صرفي وغروی ، فأما اللغات الغروية ، ومنها أسرة اللغات الهندية - الأوروبية ، كالسنسكريتية والفارسية ، وكاليونانية واللاتينية وبناتها الأوروبيات، فهي اللغات التي تستعين في اشتقاق المعنى الموسع من المعني البسيط بإضافة اللواصق من خلف ومن قدام ، فيبدو لك اللفظ منحوتاً من كلمة واحدة نطقاً وكتابة وهي من بضعة أجزاء موصولة ، وكأنها شد بعضها إلى بعض بغراء . من ذلك في اللاتينية مثلا كلمة emancipio بمختلف صورها في اللغات الأوروبية الحديثة . ومعناها العتق والانعتاق : تظنها من كلمة واحدة ، وهي من ثلاثة أجزاء شدت إلى بعض

(e)+(man)+(cipio)

الجزء الأول (e) بمعنى "خارجاً"

والثاني (man) بمعنى "اليد"

والثالث (cipio) بمعنى "الأخذ"

فهي إذن ليست كلمة وإنما هي جملة أو شبه جملة ، معناها الحرفي " الإخراج من أخذ اليد "، أو " الإخراج من ملك اليمين "

وأما اللغات الصرفية ومنها على سبيل المثال العربية والآرامية والعبرية، في الفصيلة السامية المنتمية إلى أسرة اللغات الأفريقية - الآسيوية ، فهي لا تستعين في اشتقاق المعنى الموسع من المعني البسيط بإضافة اللواصق أو بتجميع أجزاء الكلام . وإنما هي تنحت جذور الألفاظ لجذور المعاني ، ثم تشتق الموسع من البسيط "بالتصرف" في بنية الجذر الأصلي وفق أوزان ثابتة لكل منها معناها التوسعي المحدد ، بغض النظر عن جذر اللفظ الأصلي ، من ذلك في العربية "فَعَلَ، وفَعًل، وتَفَعًل، وانفعل، واستفعل،وفاعَلَ، وتفاعل...الخ" .

وليست أحرف الزيادة التي تلحظها وسط الجذر کتضعیف العين في "فَعًل" ، والمد بالألف في فاعَلَ ، أو المضافة في أول الجذر مثل الهمزة والنون في انفعل، والهمزة والسين والتاء في استفعل، كاللواصق في اللغات الهندية-الأوروبية، لأن أحرف الزيادة هذه ليست في ذاتها معنى كما هو الحال في لواصق اللغات الهندية-الأوروبية، وإنما لها وظيفة صرفية، تصرف جذر اللفظ عن معناه البسيط إلى معناه الموسع.

وأياً كانت ميزة الصرفي على الغَرَوي، مما لا نتصدى له الآن، فهي عند اللغويين سمة فارقة حاسمة بين المجموعات اللغوية).

ويقول في موضعٍ آخر، وهو بمثابة النتيجة للتمهيد السابق:

(أما اللغة التي تستعير من غيرها معاني الأفعال وأسماء الأفعال، فهي لغة قد عقم تفكير أهلها وضحل، ينتظرون من غيرهم أن يفكر لهم، ثم يأخذوا عنه أخذ الببغاء والقردة، فيزدادوا تبعية. فلعة أهل الحضارة الغالبة هي المثل على تطور اللغة بتطور الحضارة الذاتية لأبناء اللغة ، ولغة الحضارة التابعة في المثل على تحور اللغة بتأثير الغزو اللغوي - الحضاري .

ولأن الألفاظ هي أوعية المعانی ، تماماً كما أن الجسد وعاء الروح ، تستطيع أن تقول إن المعانی پتوالد بعضها من بعض بقدر ما تتوالد الألفاظ بعضها من بعض، أي بقدر ما تكون اللغة قادرة على نحت الألفاظ واشتقاق اللفظ من اللفظ .

وتستطيع أن ترتب على هذا . مصيباً غير مخطيء - أن اللغة الأغزر ألفاظا أو الأقدر على نحت جذور الألفاظ ، هي اللغة الأقدر على توليد المعانی ،وأنها اللغة الأدق عبارة، الأوضح فكرة ، الأطوع لتشقيق المعانی ، الأقوى على التخيل والإبداع، الأملك لعنان الفكر ، الأثبت في وجه الغزو اللغوي - الحضاري .

ولأن الحروف - أي الأصوات . هي لبنات الألفاظ ، تستطيع أن نقول إن اللغة الأقدر على نحت جذور الألفاظ ، هي اللغة الأكثر احتواء لكافة الأصوات المفردة الممكنة ، أي الأوفر أصواتًا وحروف نطق .

وتستطيع أن تضيف إلى هذا أن اللغات الصرفية ذوات الأوزان ، كما هو الحال في اللغات السامية ، وأمها العربية ، هي وحدها - دون اللغات الغروية - الأقدر على تمثيل الألفاظ الأعجمية وهضمها ، لأنها - وبالذات اللغة العربية - لا تقبل اللفظ الأعجمي على صورته في لغته ، وإنما تعربه فتجانس بين حروفه على مقتضی مخارج أصواتها ، ثم تقولبه في قوالبها وتصبه في أوزانها، ثم تشتق منه ، وتتصرف فيه حتى يبدو اللفظ الأعجمی لغير المتخصص وكأنما ولد عربياً لأبٍ عربی .

واللغة العربية في هذا كله - دون سائر اللغات . فرس لا يُداني ، لأنها الأكثر حروفاً ، الأغزر جذوراً ، الأوفر أوزاناً ، الأضبط نحواً و موازین صرف. ولكنها أيضاً - ولنفس الأسباب - اللغة الأقمن باشتباه الأعجمي فيها بالعربي ، لأن اللفظ المنقول إليها ذابت عجمة معناه في عروية صورته بعد تعريبه).

واقرأوا معي وصفه هذا للقصص القرآني:

(هذا الجو العام ، الذي توحيه الآيات ، سمة يتفرد بها القصص القرآنی من دون كل قصص.

الحدث المروي في القرآن لا يسرد عليك كما يسرد الخبر ولكنه - على خلاف ما تجد في التوراة والإنجيل - يبعث لك من غياهب التاريخ حيا نابضا مشخصا، وإذا أنت في قلب الحدث ، تسمع وترى ، وقد طويت المسافات واستدار الزمن .

تجد قريبا من هذا في قصة نوح مع قومه (الآيات ٢٥ - ٤٨ من سورة هود) حين يبلغ الحدث ذروته ، فتحسب أنك من ركاب السفينة مع نوح وهي تجرى بك في موج كالجبال ، وربما اشتد بك " الحضور " فهممت بأن تمد يدك إلى قمة جبل حاذاها الماء ، تريد أن تلتقط الابن العاق وهو يغرق ، ولكن موجة عاتية تحول دونك ، فتسترجع ويسترجع نوح ، فقد نهى عن ذلك من قبلك ، ولا يفرخ روعك إلا بانتهاء المشهد وقیله عز وجل : ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك }، فتثوب إليك نفسك).

واقرأوا معي كذلك هذه الفائدة في تفسيره لمفهوم الفتنة:

(والذى يجب التنبيه إليه أن الفتنة من الله عز وجل هى على اصل معناها في اللغة : تمحيص واختبار . ليست هى الغوايةً والإضلال ، بل هذان هما عاقبة الفتنة حين يسوء المآل . إنها امتحانُ فُرضَ عليك ، وموقف زج بك فيه : تخرج منه إما إلى الهدى وإما إلى الضلال . وطوق النجاة ذكر الله عز وجل . إن ذكرته ذكرك فنجاك، وإن عميت فقد اخترت لنفسك.

وليست الفتنة بالملائكة كغواية إبليس . فتنة الملائكة تمكين وتعليم . ثم تنبيه وتحذير ، كما تجد فى قوله عز وجل على لسان هاروت وماروت : {وما يُعَلِّمَانِ من حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تَكْفُر{ (البقرة) (۱۰۲) . أما غواية إبليس فإملاء واستدراج إلى الزّيغ والضلال . إنه يُعَمِّي عليك أمره . لا يقول لك أنا ابليس جنتُ أضلك وأغويك ! ولكنه يأتيك فى ثوب الوسواس الخناس ، يُخامر عقلك ويُحدثك بلسانك ، فَتَظُنُّه حديث النفس . وربما ضَبَطَتَهُ وهو يُفسد قراءتك ويقطع عليك صلاتك . وهو حين يُحَدِّثُكَ يُجَمّل لك السيئة ويُحَسَنُ القبيح ، وربما أطراك فأرداك . وهو يقعد بك عن النهوض فى طاعات الله عز وجل ، ويَهِيجُكَ إلى الفحشاء والمنكر والبغى . وهو لا يكتفى منك بمعصية الله خالقك ، وإنما لا يزال بك حتى يُوئَسَك من رحمته ، فَتُمعن ولا تبالى ، وتُصرّ على ما أنت فيه ، قد أخذتك العزة بالإثم فيعمى البصر والبصيرة ، ولا يُفْلِتُكَ حتى تنطق بكلمة الكفر ، فَيَهْوى بك معه في قاع جهنم ، وكأن الله لم يُحذركَ ويُنذرك).

وفي جزئية التطبيق قد نتفق مع بعض الأجزاء، ونختلف مع أخرى بأن نجد فيها بعض المبالغة، بل وبعض التكلف لإثبات أن النظرية مضطردة مع كل الأعلام، لكن في كل الأحوال، فإن الفكرة الأساسية هي اجتهادٌ مبذولٌ به جهدٌ معتبر، وانظرمعي للمثل الذي ضربه في المقدمة لتفسيره لاسم (يوسف)، والمنهج المفترض اتباعه عند السعي لتفسير معنى الاسم الأعجمي، فيقول: (الصحيح أن تُؤصل أولا معنى العلم الأعجمي في لغته ، ثم تتلمس هذا المعنى نفسه في الآيات من القرآن التي تتحدث عن هذا الإسم ، مُصَرِّحا به ، أو مُكَنِّى عنه ، أو محذوفا لدلالة السياق عليه، وأنا زعيم لك بأنك ستجد هذا المعنى في كل عَلَم ، مرة واحدة على الأقل، وهذا كاف . وحبذا لو تواتر هذا الترادف في أكثر من موضع، إذن لاستبان لك أن هذا الترادف لم يأت عرَضا . وحبذا أيضا لو أتيح لك ترجمة تلك الآية من القرآن إلى لغة ذلك الاسم العلم ، كى يتجلى لك كالشمس سطوعا تطابق اللفظين في تلك اللغة : الاسم العلم ومعناه . من ذلك قوله عز وجل : { ولما دخلوا على يُوسُفَ آوى إليه أخاه } (يوسف : ٦٩) ، وترجمتها الحرفية بالعبرية هى : " ويُبوو إل يوسف ويُوسف إلا و أحيو " ، ومرة أخرى في قوله عز وجل : }فلما دخلوا على يُوسُفَ آوى إليه أبويه{ )يوسف : ٩٩) وترجمتها العبرية هى : " ويُبؤُو إلى يوسف ويُوسف إلا و أبوتاو " . في الترجمة العبرية (والترجمة من عندى فلا ذكر لهذا فى التوراة العبرانية(، تجد لفظة " يُوسف " مكرراً على التلاصق - يُوسف ويُوسف - الأولى هى الاسم العَلَم يُوسُفُ عليه السلام ، أما يُوسف الثانية فهى فعله (ترجمة) " آوى " : (فلما دخلوا على يُوسُفَ آوى إليه) فتستخلص أن القرآن يَدُلُّكَ على معنى اسم " يوسف " عليه السلام بفعل صَدَرَ منه - الإيواء والاستضافة - كان بحق محور دوره عليه السلام في تاريخ بني إسرائيل وكأن الاسم يُلخّصُ لك هذا الدور أصدق تلخيص : كان يوسف لبنى اسرائيل في مصر نِعمَ " الآوى – المضيف).

مر الكاتب بالأعلام الأعجمية علماً علماً بالترتيب التاريخي، وبدأ باسم جبريل الذي يمكن أن يُترجم بأنه "جبار الله"، وهو ما يستقيم بالتفسير بالترادف بقول الله تعالى "ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين"، وقوله تعالى "علمه شديد القوى. ذو مرةٍ – أي قوةٍ – فاستوى". أما ميكائيل، فقد رجح الاسم القرآني (ميكال) على معنى الاسم العبراني، وأن الاسم القرآني يأتي كأنه صيغة مبالغة من الوكيل، ورأى أنه من إعجاز القرآن أنه يصحح لأهل العبرية نطق ميكائيل.

أما مذهبه فيما لم يرد من أعلامٍ في الكتب السابقة – كمالك خازن النار – فهو أن مثل هذا العَلَم يجيء في القرآن على أصله عربياً، بخلاف الأعلام الأخرى، يعربها القرآن حسب ما يتوافق مع قواعد العربية وصرفها. وأضاف فائدة لطيفة أخرى، وهي أن ثبوت العَلَمية على اسم (مالك) باسم عربي – رغم أن أهل النار من أمم شتى – يعني أن لسان الخلق سيرتد في الآخرة عربياً. وقد ذهب في تفسير أسماء هاروت وماروت نفس هذا المذهب، وأن أصلها على زِنة المبالغة من الهراء والمرية. أما (ابراهيم) فقد انتهى إلى أن معانه (إمام الناس) وربطه بقول الله (إني جاعلك للناس إماما)، أما (إسماعيل) فهو (سَمِعَ الله)، وإما (إسرائيل) فانتهي إلى أنه (عهد الله أو إصر الله)، وريطه بقول الله (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة).

وفي الفصل الذي حلل فيه اسم ابليس، أعجبتني هذه الفقرة: (وقد ثبتت العلمية لإبليس بهذا الاسم في الملأ الأعلى على النداء من الله عز وجل : { قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين{  ( الحجر ۳۲) ، وهذا قاطع في أن إبليس سُمّى بهذا الاسم قبل إهباط آدم من الجنة ، أي على اللفظ العربي قبل أن تتفرق ألسنة البشر لهجات فَلْغَات ، شأنه شأن آدم ، خلافا لجبريل وميكال اللذين لم يخاطبا في القرآن على النداء من الله عز وجل لسبق ثبوت العلمية لهما على اللفظ الآرامي - العبرى فى التوراة والإنجيل . أما إبليس وآدم فقد خوطبا على النداء من الله عز وجل باسميهما هذين فَهُمَا كما قال سبحانه، لا يُبدل القولُ لديه.)، وإن كنت لم أقتنع بما ذهب له من أن اسم (ابليس) جاء من جمع (أب+ليس) وربط ذلك بكونه أول من أبى، ولكن كما قلنا، هي اجتهاداتٌ لا أكثر، وله بإذن الله أجر المجتهد، وهو كثيراً ما ينهي اجتهاداته بقوله (والله تعالى بغيبه أعلم).

وإلى هنا ننهي هذا العرض للجزء الأول من هذا الكتاب الجميل الفريد، جزى الله كاتبه خيرا وأجزل له المثوبة، ونكمل رحلتنا الممتعة مع الجزء الثاني بإذن الله.