الأربعاء، 6 أكتوبر 2010

الرباط




هذا المقال ليس عن مدينة الرباط المغربية بالطبع, و لكنه عن مفهوم الرباط نفسه, هذا المعنى الذى سميت لأجله هذه المدينة بهذا الإسم (رباط الفتح), حيث كانت تجهز فيها الجيوش المتجهة من المغرب لنجدة أهل الأندلس.

و فى لسان العرب :الرِّباطُ والمُرابَطةُ: مُلازمةُ ثَغْرِ العَدُوِّ، وأَصله أَن يَرْبِطَ كلُّ واحد من الفَريقين خيلَه، ثم صار لزومُ الثَّغْرِ رِباطاً، وربما سميت الخيلُ أَنفُسها رِباطاً.
والرِّباطُ: المُواظَبةُ على الأَمر. وقوله عزَّ وجلَّ: وصابِرُوا ورابِطُوا؛ قيل: معناه حافِظُوا، وقيل: واظِبُوا على مَواقِيت الصلاة.

و هناك حديث مشهور منسوب لرسول الله صلى الله عليه و سلم:إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيراً، فذلك الجند خير أجناد الأرض، فقال له أبو بكر: ولم يارسول الله؟ قال: لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة.

و حتى لو كان هذا الحديث ضعيفاً تبعاً لمعايير رواية الأحاديث, فالتاريخ يشهد بقوته, و ليس القارىء بحاجة لأن أذكره بالأمجاد العسكرية المصرية قبل الإسلام, ثم دور مصر فى الدفاع عن الإسلام و كونها الدرع الذى تكسرت عليه سيوف الصليبيين و التتار.

لكننا و نحن نعرض مثل هذا الحديث, نقع فى خطأ جسيم إذا ذكرناه فى معرض التفاخر, و الصواب أن نفهمه و أن نتذكره من جهة الشعور بالمسئولية.

نعم, المسئولية يا سادة, إذا كنا نؤمن أننا خير أجناد الأرض, و أن مصر كنانة الله فى أرضه-أى أننا السهام-فعلينا أن نؤمن كذلك أن قدرنا أن نكون فى رباط إلى يوم القيامة, و قد ذكرنا معنى الرباط آنفاً.

و إذا كنا نعيش اليوم فى ذكرى آخر أيام العزة و الكرامة لمصر, ذكرى نصر أكتوبر, فآن لنا أن نتذكر أننا كنا حتى سبعة و ثلاثين عاماً مضت مجاهدين, مرابطين مثل هؤلاء الذين يسعون لتحرير أراضيهم فى العراق و أفغانستان و الشيشان.

كان منا مقاومون و فدائيون يكبدون العدو الخسائر و يلقون فى قلبه الرعب, مثلما يفعل مقاومو حماس و حزب الله.

كان من بيننا من عاش تحت الإحتلال(أهل سيناء).

و من عاش تحت القصف الجوى و المدفعى, و أضطر لأن يهجر بلدته و يصبح فى عداد اللاجئين (أهل مدن القناة).

كان منا من يقاتل العدو من بيت لبيت, و يحاربه حرب الشوارع(المقاومة الشعبية بالسويس).

و كان منا من يعيش بين ظهرانى العدو ليجمع لنا أخبارهم, مخاطراً بروحه.

كان منا الشريد, و الجريح, و المعوق و صاحب العاهة.

كان منا الفدائى, المقاوم, المرابط, المجاهد.

و كان منا الشهيد.


نفس العدو الذى يفعل بأخوتنا الأفاعيل فى فلسطين و العراق و أفغانستان و غيرها, كان يفعل بنا نفس الأفاعيل .هو العدو الذى كنا نحاربه, و توقفنا عن ذلك منذ سبعة و ثلاثين عاماً.

ليس منا من لا يحب السلام, لكننا فى الدنيا فلا شىء كامل, لا سلام أبدى طالما أن هناك نور و ظلام, و حق و باطل و بينهما صراع.و أزعم أن الأرض كى تظل خصبة و طيبة, و كى تصبح قادرة على أن تنبت رجالاً, فإنها لابد أن ترتوى بدماء أبنائها من الشهداء, و دماء خصومها من الأعداء على السواء.

و لكى يكون الجيش جيشاً بحق, لابد أن يكون فى رباط دائم. لابد أن يكون فى تمام الجاهزية و الإستعداد طالما أن العدو واقف على بابى لم يرحل.


و ليست الجاهزية و الإستعداد هى وجود المعدات العسكرية و الأسلحة و توفر الذخيرة فقط, إننا يجب أن نفهم جيداً قول الله تعالى ((و أعدوا لهم ما إستطعتم من قوة و من رباط الخيل)), و رباط الخيل هو العدة و العتاد العسكرى, أما القوة كما أفهمها, فهى قوة القلب, قوة الإيمان, روح الرباط.

أن تكون جندياً تخدم فى الجيش فهذا شىء, و أن تكون مجاهداً مرابطاً فهذا شىء آخر مختلف تماماً.

أن تخدم فى الجيش كأنك موظف فهذا شىء, و أن تكون نيتك هى الجهاد فى سبيل الله, فهذا شىء آخر.

أن تقاتل فى سبيل الوطن فقط فهذا شىء, لكن أن تقاتل فى سبيل الأرض و العرض, و فى سبيل الله, و لكى تكون كلمة الله هى العليا و كلمة الذين كفروا السفلى, فشتان ما بين النيتين.

من القصور أن ننظر لحربنا مع إسرائيل فى عام 73 بأنها حرب لتحرير سيناء فقط, فتحرير الأرض هدف جزئى, و إنما نقاتل من أجل رفع كلمة الله, و هذا يتضمن ضمن ما يتضمن :الحق, و العدل, و الحرية, و السلام.

لا أظن أن الله نصرنا إلا لأننا أخذنا بالأسباب و إستعنا به, و كانت نيتنا رفع كلمته فنطقت ألسنتنا بفحوى قلوبنا بصرخة:الله أكبر.

و لا أظن أننا سنشم ريح النصر مرة أخرى إلا عندما نتذكر هذه المعانى.

عندما نتذكر معنى الشهادة, و يصبح الموت فى سبيل الله أسمى أمانينا.

عندما تحدثنا أنفسنا بالغزو, لتحرير البلاد و العباد.

عندما نسعى لكى تكون كلمة الله هى العليا فى كل المجالات.

عندما نفهم معنى(لا إله إلا الله) و (إن الحكم إلا الله), فما كان لإله أن يُعبد على هذه الأرض إلا هو, و ما كان لشرع أن يسود فى الأرض إلا شرعه.

عندما نزيح عن أعيننا الغمامة, و نتذكر من الأخ و الصديق.

و من العدو الحقيقى.

عندما نتذكر مسئوليتنا و دورنا فى هذه الأرض, و من أجل هذا الدين.

عندما نعود للرباط.

عندما نعود للجهاد.

و غنى عن الذكر أن كل هذه المعانى لا تتحقق بعنتريات فارغة, و لا طنطنة كاذبة. إنها إن تحولت إلى شعارات جوفاء فقدت قيمتها رغم نفاستها, و لكن كل معنى من هذه المعانى هو روح تحتاج إلى إعادة إحيائها فى النفوس بعد كل هذه السنوات من التخريب و قتل الروح الوطنية و روح الإيمان, و و الله لو عاد هذا الإيمان لترون من أهل هذا الدين ما تقر به الأعين و تهدأ به الأنفس و يشف صدور قوم مؤمنين.

إنها مسألة إصلاح للنفس, و رغبة فى التغيير, و عمل و تضحية من أجل الإصلاح و التغيير المنشود.

إنها مسألة وقت, مع الكثير من العمل, و الأمل, و الإيمان.


((يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم))

((و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين))

((ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم))

((يا أيها الذين آمنوا إصبروا و صابروا و رابطوا و إتقوا الله لعلكم تفلحون))

و كل عام و أنتم بخير, و مصر بخير, و أسأل الله ألا تمر علينا ذكرى النصر فى العام القادم إلا و قد عادت لنا روح الرباط, و إلا و قد إسترددنا حريتنا و عزتنا و كرامتنا, و إيماننا.اللهم آمين.




السبت، 2 أكتوبر 2010

عاشوا فى خيالى-5-سيد قطب:عندما تستشهد فى سبيل الكلمة


((من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر ، وما بدلوا تبديلا))

تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية أمام الصحابة الكرام ، ثم أشار الى طلحة قائلا :( من سره أن ينظر الى رجل يمشي على الأرض ، وقد قضى نحبه ، فلينظر الى طلحة بن عبيد الله).

لعلى لا أكون مبالغاً إذ ا قلت أن الشهيد سيد قطب كان ممن قضى نحبه و هو حى يمشى على الأرض, ثم لا أكون مبالغاً أيضاً عندما أقول إنه لم يمت, فقد وهب روحه لقاء أفكاره و مبادئه و عقيدته, فكان جزاء لها الخلود.

ربما يكون سيد قطب أحد أكثر الشخصيات التى أثارت الجدل حولها حياً و ميتاً, فمن محبيه و مريديه من يتكلم عنه كأنه قديس, و من مبغضيه و مخالفيه من يصوره لك كأنه ظلامى متعصب ضيق الأفق, و أنه رائد فقه التكفير و الأب الروحى لجماعات العنف المسلحة!!

و الحق أنه ليس بهذا و لا بذاك, إنه بشر, إنسان, رجلٌ آمن بفكرة, لكنه عاش من أجل هذه الفكرة, و مات فى سبيلها.و رجل كهذا يستحق إحترام أعدائه قبل أصدقائه.

و هذا الإيمان هو مربط الفرس, فالإيمان ليس كلمة((قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لما يدخل الإيمان فى قلوبكم)).

إن الإيمان روح كاملة تسرى فى نفس المؤمن, و عندما يتعلق المؤمن الحق بالفكرة فإنها تملأ قلبه و كل روحه و مشاعره حتى تكاد تخرج من أنامله, فينقلها للناس بمجرد أن يصافحهم, لأنها صارت ديدنه و طريقة حياته و أسلوب تفكيره.

إن الإيمان الحق ليس مجرد كلمة, و مقياسه هو أن تسأل نفسك: إلى أى مدى أنت مستعد للذهاب دفاعاً عن فكرتك, و مبدأك, و إيمانك؟

أزعم أن قطب قد أجاب عن هذا السؤال بدمه و روحه, فنجح فيه بإمتياز, فماذا لدى المرء يفعله بعد أن يجود بنفسه؟!

و الرجل مع هذا قد ظُلِم من أصدقائه قبل أعدائه, و لا أجد سبباً يدعو من ينتمى للمعسكر الإسلامى فى أن يشارك فى وسم الرجل بتهمة التكفير و أنه فتح الطريق للغلو, و لو كان لأحد ممن نهج نهج التكفير أن يدعى أنه قد سار فى هذا الطريق تأثراً بأفكار قطب, فإنه يكون قد ظلم الرجل مرتين, مرة لأنه لم يفهم كلامه, و مرة لأنه ألصق بالرجل تهمة هو برىء منها.و فى الأسطر القادمة سأعرض بإيجاز شديد أهم أفكار الرجل التى عرضها فى مزيج ليس له نظير من العمق و السلاسة فى أحد أهم كتبه:معالم فى الطريق.

الجاهلية
لقد إستفاض قطب فى الحديث عن الجاهلية.و الجاهلية التى يتكلم عنها بكل بساطة هى الإنحراف عن الحق, وليس معنى وصف أى مجتمع بأنه جاهلى أن يكون أعضاء هذا المجتمع مثل كفار قريش مثلاً! و يبدو أن ذنب الرجل الوحيد أنه لم يكن متميعاً, و أنه كان يسمى الأمور بمسمياتها و لا يقبل الحلول الوسط, و كل ما قرأته للرجل من أفكار يتماشى مع وجهة نظرى و قناعاتى الشخصية فى أمور عدة, إنه وجه صريح و شجاع للفكر الإسلامى و الحركة الإسلامية, و يكفيه فخراً و شرفاً أنه قد مات تطبيقاً لكلامه و أفكاره و لم يكن منظراً جالساً فى برج عاجى متعالياً على غيره, و شتان بين التعالى و الإستعلاء.

الإستعلاء

و الإستعلاء يمثل أحد الأفكار الهامة التى نظر لها قطب, إنه إستعلاء الإيمان, قال تعالى ((و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)).

المؤمن هو الأعلى بإيمانه, هو الأعلى بعقيدته, هو الأعلى بعلمه, هو الأعلى بثباته على الحق إزاء أنواء الفتن, هو الأعلى بمعيته مع الله نعم المولى و نعم النصير.

إن الإستعلاء كما يقول قطب (يمثل الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن وتصوره وتقديره للأشياء والأحداث والقيم والأشخاص سواء) .

الحاكمية

و يذكرنا قطب بالمعنى الحقيقى لكلمة(لا إله إلا الله). إن ترديدها ليس من قبيل الذكر فقط, إن الإيمان ب(لا إله إلا الله) يعنى أن تؤمن أن الأمر كله, و الحكم كله لله ((إن الحكم إلا لله)).

إن (لا إله إلا الله)منهج حياة كامل, و على قدر إمتثال المؤمن لأمر الله, و حكم الله, يكون تحقيقه لهذه الكلمة العظيمة, و كم من كلمات نرددها بألسنتنا و لما تؤمن بها قلوبنا.

تفرد الحضارة الإسلامية

و قد آمن قطب بتفرد الحضارة الإسلامية, و آمن بتفوقها على من سواها, فحضارة الإسلام مشدودة للسماء بألف سبب, و ليست كالحضارات التى قامت على أفكار وضعية زائلة, تشد الإنسان للأرض, و تزيده حيوانية فوق حيوانية, و جاهلية بعد جاهلية.

إن للمسلم أن يقبل من حضارات الغرب و الشرق ما يشاء من علوم الدنيا, لكن ليس له أن يقبل منهم تفسيرات لعقيدته, أو توضيحات لشريعته, فهذا هو التخريب بعينه, و الصراع بين الحضارات إنما هو صراع حول العقيدة, حول ما يؤمن به كل جانب, و لما كان هناك جانب مشدود إلى السماء و جانب مشدود إلى الأرض, فكان لابد لهذا الصراع أن يوجد.

منهج الحل الإسلامى

و لما كان المؤمن محكماً لله فى كل شأنه, و مستعلياً عن الجاهلية و أدرانها, و مؤمناً بتفرد حضارته الإسلامية و تفوقها, وجب عليه أن ينتهج الحل الإسلامى فى حل مشاكله, و الرد على خصومه.

إن أعداءنا يريدون أن يملوا علينا شروطهم, و أن نلعب اللعبة حسب قواعدهم هم, و لكن المؤمن ليس تبعاً لأحد, إنه تبعٌ لله وحده.

و ليست وظيفة الإسلام و المسلمين أن يتعايشوا تبعاً لمصطلحات و مفردات غيرهم, و لا أن يلزموا دائماً جانب الدفاع للرد على مخالفيهم و نفى إتهاماتهم.

و أسوأ ما يمكن أن يفعله المسلم هو أن يكون متميعاً يقبل بأنصاف الحلول, و لو إدعى أن هذا من قبيل التدرج فقد أساء فهم التدرج, و ليس هذا هو منهج الحل الإسلامى, فالإسلام يسمى الأمور بمسمياتها:هذا جد و هذا هزل, هذا صواب و هذا خطأ, و هذا إيمان و هذا كفر.و فى النهاية ((فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر)) ((و لكم دينكم و لى دين)).

الطريق

إن الطريق الذى عرضه الرجل ليس بالسهل, إنه طريق أصحاب الأخدود, هؤلاء الذين ثبتوا على دينهم فعذبوا و ماتوا, صحيح أنهم قد ماتت أجسادهم لكن الفكرة ظلت حية.

إنه الطريق الذى سار فيه كل مصلح و مؤمن, كل من ثبت على الحق و صبر على الأذى, طريق آل ياسر, طريق بلال و خباب, طريق أبو حنيفة و مالك و إبن حنبل, و طريق سيد قطب نفسه.

لقد سطر الرجل أفكاره و مبادئه, و كان صادقاً مع نفسه و مع الله, فكان كما كتب, و إن الأجساد تموت و لا تموت الأفكار, فإلى أى مدى نحن مستعدون للمضى فى سبيل أفكارنا و مبادئنا إن عددنا أنفسنا من أصحاب الأفكار و المبادىء؟ أم أنها مجرد سجعات لفظية, و طنطنة كلامية, و سفسطة و تنظير ليس له نظير؟

نتكلم عن إنقاذ الوطن, و تحرير فلسطين, و دعم المسلمين المستضعفين, فهل نحن على إستعداد لتحمل مضايقات الأمن, و المشاركة فى المظاهرات و الإعتصامات, و التعرض لخطر الإعتقال؟

هل نحن على إستعداد لتحمل الترويع, و التجويع, و السجن, و التشريد؟

هل نحن على إستعداد لبذل الروح و الدم؟

هل نحن بإختصار على إستعداد: للجهاد, و الإستشهاد؟

هذه أسئلة أسألها لنفسى قبل أن أسألها لكم, و على كل منا أن يراجع نفسه بصدق, أما الرجل فقد أجاب و أزعم أنه قد أحسن الإجابة, فليجزه الله خيراً عما بذله, و عن كل ما كتبه.

اللهم إستخدمنا و لا تستبدلنا, و إجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهك الكريم, و إجعلنا صادقين مع أنفسنا, و معك قبل كل شىء يا الله.