لعل من أمتع المحاضرات التى حضرتها فى الكلية, كانت محاضرة فى مادة (إدارة المشاريع الهندسية) أخذناها فى السنة النهائية. و بعيداً عن الأرقام و المنحنيات و المعادلات, فإن هذه المحاضرة كانت تناقش مبدأ الإدارة من الناحية النظرية, و بدأ الدكتور محاضرته بسؤال:ما الفرق بين الحضارة Civilization,و الثقافة Culture؟
أختصر ما قاله الدكتور:(الحضارة هى مجموع إنجازات الشعوب, و التى نرى أثرها فى مجالات عدة :العلوم, القوانين و التشريعات, المعمار...الخ, فهى شىء باق حتى لو مر الشعب بفترة توقف فيها عن المساهمة فى الحضارة الانسانية.
أما الثقافة, فهى مجموع القيم السائدة فى المجتمع, و هى شىء قابل للتغيير, لكن فقط يحتاج للصبر و بعض الوقت.
مثلاً: اذا شاهدتم أحد الأفلام القديمة, ربما وجدتم فيه لقطة يلتف الناس فيها حول الراديو, و يسمعون الأخبار بإنصات و إهتمام, لكن الصورة الآن تغيرت كثيراً, عندما يعود أى شاب منكم الى بيته, و يمسك الريموت, ما أول محطة يسعى لمشاهدتها؟
أجاب معظم الشباب فى نفس واحد:ميلودى(للأسف)
قال الدكتور: أرأيتم؟فى فترة زمنية حوالى 35 سنة تم تغيير ثقافة الشعب و نمط حياته و توجيهه الى ثقافة أخرى, ثقافة الإهتمام بالأفلام و الأغانى و الكرة, و ذلك لصرف انتباهه عن أشياء أخرى) انتهى كلام الدكتور.
لمست هذا الموضوع بنفسى بعد التخرج مباشرة, كنت أحضر كورس فى أحد البرامج المتعلقة بالتخصص, و فى مرة وردت كلمة Exclusive(حصرى) فى سياق البرنامج, قال المحاضر:هذه الكلمة ترونها كثيراً,أليس كذلك؟ قلت:نعم, عندما تبث الجزيرة خبراً حصرياً, فضحك اصدقائى و قالوا: جزيرة ايه يبنى, احنا بنشوفها فى ميلودى و مزيكا.(و لا تعليق)
ما علينا, أدخل فى الموضوع
فأعتقد أنه ليس منا من لا يوافق على أن هناك ثقافات كثيرة خاطئة سائدة فى مجتمعنا المصرى فى زمننا هذا.
ثقافة الفهلوة, ثقافة عدم الاتقان(عك و ليس كله كويس), ثقافة عدم احترام المواعيد, ثقافة الأسبقية و عدم التحضر و عدم القدرة على الوقوف فى طابور.....الخ
أشياء كثيرة سلبية موجودة فينا نحتاج أن نغيرها, نحتاج أن نحطم هذه القيود التى تكبلنا, لأنها تعوقنا عن أى تقدم, و تمنعنا من أى نجاح.
و لعل من أهم الثقافات التى نحتاج لتغييرها:ثقافة الخوف.
نعم, فحتى الخوف أصبح ثقافة, ثقافة تم زرعها فينا منذ زمن, نتيجة لسنوات عديدة من سياسة تكميم الأفواه, و كبت الحريات, و الإعتقالات و الذى منه.
و هى ثقافة تحتاج لتغيير, فلن يستطيع أى شعب التحرر, طالما أنه غارق فى مستنقع من الخوف و الجبن.
لا ندعو للتهور, و لا للإلقاء بالنفس فى التهلكة, بل على الإنسان أن يكون عاقلاً و متوازناً و ذكياً فى تصرفاته, و لكن الجبن و الخنوع ليس من الذكاء فى شىء, إنه المورث للسلبية و الإحباط و هلم جرا من الثقافات التى تحتاج للتغيير بدورها.
اذاً, قلنا أن هناك ثقافات عديدة تحتاج للتغيير, و بالطبع فإن على عاتقى و عاتقك, على عاتق كل شاب مؤمن و مثقف و محب لوطنه و أمته, على عاتق كل شجاع و شريف, تقع مسئولية التغيير, لأن الناس بحاجة لمن يصحح لهم المفاهيم, و يوقظ فى قلوبهم الإيمان و التفاؤل, و ينشر روح الإيجابية و المشاركة, و يطرد اليأس و الإحباط و التشاؤم و السلبية, و لئن تقاعس المصلحون عن أداء دورهم,فمن سيقوم به إذاً؟ فلنفضها سيرة و لنقل على بلدنا السلام.
هنا أتعرض للنقطة الثانية, و هى
ثقافة التغيير, و التى تحتاج أن تنتشر بين المصلحين أنفسهم قبل أن تنتشر بين عوام الناس.
قرأت مؤخراً فى كتاب للأستاذ فهمى هويدى رأياً عن أسلوب التأثر بين الحاكم و المحكوم, و ملخصه (أن هذا التأثر واقع فى اتجاه واحد,من أعلى لأسفل, من جهة الحاكم الى المحكومين, و المثال على هذا من كلام لأحد أئمة السلف:كان الخليفة الوليد بن عبد الملك صاحب معمار و بناء, فكان الرجل يلقى الرجل يسأله عن البناء و القصور, و كان سليمان بن عبد الملك صاحب طعام و نكاح, فكان الرجل يلقى الرجل يسأله عن الطعام و النكاح, أما عمر بن عبد العزيز فكان صاحب عبادة, فكان الرجل يلقى الرجل يسأله عن ورده و عبادته, و كم قرأ من القرآن فى هذا اليوم)انتهى.
نعم, فالناس على دين ملوكهم, و (إذا صلح الحاكم صلحت الرعية), و إذا كان رب البيت بالدف ضاربا,فشيمة أهل البيت......
فالتأثير واقع لا محالة من الحاكم الى المحكومين, حتى لو كان هذا الحاكم من غير جنس أهل البلد-قوة احتلال يعنى-فالشعب المستعمَر واقع تحت تأثير الغزو الثقافى من قوة الإستعمار, و قد تحدث ابن خلدون عن هذا فى مقدمته تحت عنوان (ولع المغلوب بتقليد الغالب).
لذا, اذا كان الحكم فاسداً, وجدت الفساد منتشراً فى المجتمع, اذا كان الحاكم ثورياً شجاعاً, وجدت روح الثورة و الشجاعة تنتشر فى شعبه, أما اذا كان ضعيفاً خانعاً غير واثق بنفسه, يرى نفسه قزماً إزاء القوى العظمى, فستجد روح الانهزامية تسرى بين الناس .
اذا كان الحاكم فاشياً مستبداً ظالماً, وجدت الظلم متنقلاً بين الطبقات, من كل طبقة للطبقة التى تحتها, وصولاً الى مستوى الأسرة الصغيرة, فتجد من رب الأسرة فى بعض الأحيان أحادية فى التفكير, ونزوعاً الى العنف والقسوة, والتخويف والارهاب , نعم لا تندهش, ستجد الناس ينتقدون الظلم و يبشعونه و يسبون الظالم و يدعون عليه, ثم تجدهم فى الوقت ذاته يمارسونه على من هم أدنى منهم, و هم يظلمون أنفسهم قبل أن يظلموا أحداً آخر.
إنها حالة إنفصام حقيقية فى الشخصية, تحدث بسبب الفساد الهابط من أعلى, و كلما هبط درجة اتخذ شكلاً آخر و تكيف مع البيئة التى يعيش فيها, حتى يستقر و يرسخ فى القاع.
و فى عصرنا الحديث, فإن إنتقال الثقافة الفاسدة أصبح أيسر و أسهل, فالفساد و الضلال صار له كهنته و دعاته الذين يبشرون به و ينشرونه قدر استطاعتهم, كى تظل الأوضاع على ما هى عليه, و يظلوا فى أماكنهم.
كهنة المعبد هؤلاء ليسوا بالضرورة رجال سياسة فقط, ستجد معهم سرايا ممن يقدمون أنفسهم لنا على أنهم (مثقفو الأمة), و هم يبشرون بثقافات غربية دخيلة مستوردة غريبة عنا, و ستجد كتائب من الإعلاميين, و الفنانين-مع الاعتذار للفن-و الكتاب و الصحفيين, كل هؤلاء يسخرون جهودهم و طاقاتهم ليكونوا فى خدمة الفاسدين, و لينشروا الثقافة التى يريدونها.
و هنا تقع المسئولية على ضمير الأمة الحقيقى, على الذين عندهم من الوعى و الإيمان ما يحصن عقولهم ضد الغزو الفكرى, و يعطي قلوبهم مناعة ضد هذه الأمراض, فهم الأمل الوحيد للقضاء على الثقافات الفاسدة, و نشر مفاهيم أخرى, هم الذين يجب عليهم أن ينشروا ثقافة التغيير, و هم الحلقة المفقودة التى تقع فى منتصف المسافة بين القمة و القاع.
بالمناسبة, لا أريد من القارىء أن يختزل كلمة التغيير فى مفهوم (تغيير النظام الحاكم), بل الأمر أعمق من هذا, إنى أتكلم عن تغيير المنظومة المجتمعية و الثقافات الفاسدة بشكل كلى, و النجاح فى هذا هو الذى سيؤدى بدوره الى التغيير للأصلح على كل المستويات وصولاً لمستوى القمة.
و قد دخلت فى نقاش منذ زمن عن طبيعة التغيير, هل هو تغيير من قمة الهرم أم من قاعدته, هل هو من أعلى أو من أسفل؟
و ما أذهب اليه, هو أن التغيير من أعلى الهرم شىء خيالى بعض الشىء, و مقوماته ليست متاحة على الدوام, هذا غير أن من يصل للقمة و ليس عنده قاعدة قوية يرتكز عليها, سيظل مهزوزاً و غير مستقر, ففى الوقت الذى يحتاج فيه لتضافر كل قوى شعبه لتسير معه فى الاصلاح, فإنه سيجد نفسه يحتاج الى الانتظار حتى يصلح ما أفسده من قبله, و عموماً, ففى البناء لا تبدأ بتشييد السقف قبل أن تضع الأساس أولاً.
لذا فقناعتى هى أن التغيير يجب أن يبدأ من القاعدة, نعم, يقوم المصلحون ببذر البذور, و نشر الوعى, و إيقاظ الأرواح و القلوب, يقومون بإصلاح ما أفسده المفسدون, سيحتاج تغيير الثقافة الى صبر و وقت كما قلنا, فليكن, فالثقافات الفاسدة لم تنتشر بدورها بين يوم و ليلة, بل أخذت ما شاءت من الوقت حتى رسخت, و من الطبيعى أن يحتاج ازاحتها الى نفس الوقت,إن لم يكن أطول.
و بجانب هذا, نحتاج ألا نقطع الأمل فى إصلاح الرأس, ليس بالدعاء دون العمل, بل واجب على كل مفكر و عالم و صاحب رأى أن يبلغ رأيه بشجاعة لأولى الأمر, فإن إنصاعوا للحق, فسيجرون معه المحكومين, و إن استمروا على فسادهم, فعسى أن تكون شجاعة المصلح أبقى فى نفس المحكوم من فساد الحاكم, و لنتذكر موقف الإمام أحمد بن حنبل فى محنته المشهورة, و فى النهاية ذهب المفسدون الى مزبلة التاريخ, و بقى موقف الإمام مشرقاً يعطى الثقة للمصلحين بقية العصور.
نحتاج أن ندرس جيداً سير المصلحين و أفكارهم و رؤاهم فى التغيير, نحتاج أن نتعلم من تجارب الأمم التى حولنا , و كيف نجح من نجح منهم فى التغيير للأفضل,و ما الأشياء التى نستطيع أن نقتبسها منهم و نطبقها فى حالتنا. نحتاج أن ندرس تاريخ أمتنا نفسه بشكل أعمق, و نأخذ منه الدروس و العبر, و نرى كيف تعامل أجدادنا مع الفساد و الظلم. نحتاج لأن نفهم ديننا الفهم الحق, و نلتمس منه الوسائل الأمثل للإصلاح.
لن نستطيع أن نساهم فى الإصلاح إذا كنا ضعفاء لدرجة أننا نستسلم لتيار المغريات من حولنا, و ننزل للمستوى المنحط الذى يُراد لنا, اذا استسلمنا للثقافات الفاسدة الوافدة و نبذنا ثقافتنا و قيمنا.
كيف ننشر التفاؤل إذا كنا متشائمين محبطين؟
كيف ندعو للأمل اذا كنا يائسين؟
كيف نبشر بالنصر إذا كنا نعيش فى هزيمة نفسية؟
كيف ندعو للعودة للهوية و رفض الثقافة الوافدة, اذا كنا أنفسنا متأثرين بالغرب لدرجة أن بعضنا يكتب العربية بحروف لاتينية, و يحسن التعبير بالإنجليزية و يخطىء فى الكتابة بالعربية؟
كيف نغرس فى قلوب غيرنا الإيمان, و لما يدخل الإيمان فى قلوبنا؟
لن يتأتى كل هذا إن لم يصاحبه البدء بالنفس, و ثقافة التغيير قبل أن نحاول أن ننشرها فى المجتمع, يجب أن نطبقها على أنفسنا أولاً, و القاعدة القرآنية الخالدة واضحة بهذا الشأن
((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)).سيظل الحق و الباطل فى صراع الى يوم الدين, فلنكن جنود الحق, و السهام التى ترمى فى صدر الباطل, فلنكن القناديل التى تضىء للناس حياتهم, و تزيح الغشاوة من على أعينهم, و الران من على قلوبهم, و لنتحمل خلال ذلك سخرية الساخرين, و شماتة الحاقدين, و عداوة الظالمين, و الله معنا ما دامت نوايانا خالصة لله.
و أسأل الله أن يكون فى هذا الكلام تنشيطاً لهمم المصلحين, و أن يجعل لنا دوراً-و لو مجرد وضع لبنة-فى طريق الإصلاح, فلعلنا نكون جيل النصر المنشود, إذا فعلنا ما علينا, و أدينا واجبنا, و أخلصنا النية.
أما اذا تقاعسنا, و ركنا الى الدعة, و صرفنا جهدنا فى الخطابة و التنظير و السفسطة دون الفعل,و شتتنا جهدنا فى الجدل و الصراخ و الخلاف, فسنظل نحرث فى البحر, و ستغرقنا أمواجه فى النهاية.