لم أكن أتصور أنى سأكتب عن هذا الموضوع, لأنه من البديهيات بنظرى, و عادة ما أجد هذه الشبهة تتصدر بعض كتابات المستشرقين, مخالفين بها ما أثبته التاريخ, و مخالفين بها أى روح موضوعية.
لكن وجدت أن هذا الموضوع قد طُرح بالصدفة على أحد المجموعات البريدية, و قام أخ فاضل بالإعتراض على وصف مصر بالدولة(
العربية), و تساءل عن سبب الغاء هوية مصر و تاريخها من أجل عدة آلاف من العرب قاموا بغزو مصر بقوة السلاح من 1400 سنة؟!!!
و عندما تفضل بعض الأخوة بالرد, وجدت الأخ الفاضل قد صرح قائلاً أنه:
يحلو للبعض أن يسمى الغزو فتحاً. هذا غير الكلام عن عنصرية العرب.
و لهذا أود أن ألفت نظر الأخ الفاضل-و غيره ممن يتبنى هذا الرأى الى الحقائق التالية:
*إن الإختلاف حول لفظ الفتح أو الغزو يتوقف على الجانب الذى نقف فيه, لكن إذا مررنا بالأحاديث النبوية التى تكلمت عن مصر, و اخترنا منها هذا الحديث
:((إنكم ستفتتحون مصر, و هى أرض يسمى فيها القيراط, فإذا فتحتموها فأحسنوا الى أهلها, فإن لهم ذمة و رحما, أو قال: ذمة و صهرا)) صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم, و الحديث وارد بصحيح مسلم.
و بما أن الأخ السائل اسمه (
محمد), فأحببت أن أذكره بهذا الحديث, فليس لفظ الفتح لعباً بالألفاظ من أحد.
*المنصفين من المستشرقين قد استخدموا نفس المصطلح-الفتح-فى وصفهم لدخول العرب لمصر, و يمكن مراجعة بعض الكتب الشهيرة فى هذا المجال مثل: (فتح العرب لمصر)للدكتور ألفرد بتلر, و( الدعوة الى الاسلام )لتوماس أرنولد, و (حضارة العرب) لجوستاف لوبون, و غيرهم.
و الغريب أن المنصفين من كتاب الغرب لم يتجنوا على الفتح العربى بمثل ما نتجنى نحن عليه, و اذا قارنا بين سلوك العرب فى مصر, و سلوك أى غازى, يتضح الفرق, و التاريخ يشهد.
*المشكلة ليست فى الألفاظ-فتح أو غزو- بقدر ما هى مشكلة فى المفهوم, فوصف الفتح بأنه عربى هو وصف مبتسر, بل و عنصرى, فالعرب الفاتحين فى هذا الوقت لم يكونوا ينظرون لأنفسهم على أنهم عرب يحاربون قوميات أخرى, بل على أنهم مسلمون يحملون رسالة الى بقية الأمم, و مسئولية هى:
إخراج العباد من عبادة العباد الى عبادة رب العباد.
*عند التحدث عن العرب الفاتحين هؤلاء, هل ننسى أنهم صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم, هل ننسى أن منهم عمرو بن العاص و عبادة بن الصامت و الزبير بن العوام و أبى الدرداء و غيرهم؟
إن بعض المستشرقين المغرضين يصرون على الوصف العنصرى(
الفتح العربى), ليكون هذا مقدمة لشىء أبعد و هو الطعن فى الفاتحين, ثم نتبعهم بحسن نية و ننسى أننا بهذا نطعن فى صحابة الرسول الكريم, الذين حملوا الينا الرسالة, و من اسلم منا فإن إسلامه فى موازين حسنات هؤلاء.
إن مصر قد تعرضت خلال تاريخها الطويل الى الاحتلال من قوى و حضارات مختلفة, غزانا الهكسوس, و الآشوريين, و النوبيين و الليبيين, و الفرس,ثم الاغريق, و بعدهم الرومان.
مع كل هؤلاء, لم يتغير لسان مصر, و لم يعتنق المصريون أديان الغرباء, بل إن من الغرباء من عبد آلهة المصريين, مثل البطالمة.
الديانة المسيحية دخلت مصر و اعتنقها المصريون قبل أن تصبح ديناً سائداً للإمبراطورية الرومانية, و حتى بعد ذلك لاقى المصريون منهم أقسى صنوف الاضطهاد بسبب اختلاف المذهب, و لم يغير المصريون مذهبهم.
حتى أتى المسلمون, و حررونا من ظلم الرومان, و أعادوا العدل الى الأرض, و رأينا ذلك, فاعتنق منا الإسلام من اعتنق, و ظل بقيتنا على دينه الى يومنا هذا.
و صارت مصر عربية الهوية فى نهاية المطاف, قبلت مصر الإسلام مصحوباً بالعروبة, التى هى هوية أكثر منها بجنس.
إذا ماذا يجدى الآن إثارة تساؤلات مثل هذه؟ ألا ينبغى ألا ننساق وراء دعوات الانسلاخ من الهوية, و نميز الغرض الحقيقى منها؟
ألا يجب أن نعقل أن الأمر أبعد من مجرد الطعن فى جنس الفاتحين, لكنه تمهدة للطعن فى عقيدتهم؟إنى بالطبع لا أتهم الأخ السائل بهذا, فإنى أحسبه على خير, و لكنى أرى أنه بحسن نية يردد أقوال المغرضين من المستشرقين و أعوانهم.
و تبقى فى النهاية مقولة:عنصرية العرب, و القومية العربية.
فلا يخفى عنكم أن دعاوى القومية فى العصر الحديث قد نشأت فى أوروبا و نمت خصوصا فى القرن التاسع عشر, و إستوردناها كمثيلاتها من الأفكار الغريبة على مجتمعاتنا, و التى ليس لها جذور فى تربتنا.
و هكذا وجدنا من يقومون بما أسموه(الثورة العربية الكبرى) ضد الأتراك و الحكم العثمانى, و ليس بخاف عنكم دور الاستعمار الغربى فى إذكاء هذه الروح العرقية لهزيمة دولة الخلافة.
ثم وجدنا من يرفع راية القومية العربية ظنا منهم أنها السبيل الوحيد لضم صفوف العرب, ناسين أن الرسول الأكرم لم يوحد قبائل العرب تحت راية العروبة, و لكن تحت راية
لا اله الا الله.
و هكذا, فإن الطعن فى دعاوى القومية نفسها,و التى لم تحقق ما أرادت, لا يجب أن ينسحب بالطعن فى العرب أنفسهم, و ننسى أن الله إصطفى منهم خير البرية.
و إذا كان سلوك بعض العرب فى عصرنا هذا متسماً بالعنصرية, فهذه من الخيبة العربية المعاصرة, التى هى إحدى صور تراجعنا فى كافة المجالات, و بعدنا عن روح الدين, فلا يجب أن نؤاخذ الكل بذنب البعض, و ليس الإنسلاخ من العروبة هو الحل, و على من يطرحون هذا الحل أن يقدموا الينا البديل, و لا أظننا سنجده.
إننا كمصريين لا يجب أن نكون ممزقين بين الوطنية المصرية, و القومية العربية, و الهوية الإسلامية, فهناك أولويات يجب أن نعيها, يجب أن نعى من نحن حقاً, و لكن لهذا حديث آخر.
------------------------------------------------------------------------------
تحديثبعد كتابة هذا المقال, قرأت مقالين للأستاذ فهمى هويدى يتناولان نفس الموضوع, رداً على محاضرة ألقاها أسقف قبطى يعتبر أحد القيادات الكنسية فى مصر, و تناول فى محاضرته مسألة الفتح الاسلامى بنفس الفكر و الأسلوب المغرض, مما يضع دليلاً عملياً على وجود مخطط وراء طرح هذه الافتراءات, و كذلك نرى بوضوح من يقف وراءها.أنصح بقراءة هذين المقالين القيمين:
طعنة للجماعة الوطنية ,
العيش المشترك له شروطو أختم برأيٍ قد قرأته منذ زمن للشيخ محمد الغزالى رحمه الله
يقول الشيخ:
((جاءت المسيحية لمصر و انتشرت,فاعتنقها من اعتنقها, و بقى من بقى على الوثنية, و لم يقل عاقل و لا مجنون لمن تنصر إنك قد فقدت وطنك بتنصرك!!ثم جاء الإسلام, فأسلم من اسلم, و بقى من بقى على نصرانيته, فلماذا يريدون أن نفقد وطننا بإسلامنا؟؟!!))