بدايةً، وقبل أن أكتب تعقيبي على هذا الكتاب، لابد من أؤكد على أمرين:
أولهما: أني بالقطع لست ضد الاجتهاد، وكما علمنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فإن للمجتهد أجران إذا أصاب، وأجرٌ إذا أخطأ، وكثيراً ما أصادف
اجتهاداً لم يسبق صاحبه إليه أحد، فأطرب لما أقرأ إذا اقتنع عقلي به، ولا أؤاخذه
إن خالفته الرأي ولم أقتنع باجتهاده، طالما أن هذا الاجتهاد لا يمس أسساً عقيدية،
أو ركناً من أركان الدين.
وثانيهما: أنه ليس لي موقفٌ شخصي تجاه كتابات د.أسامة الشاذلي
صاحب هذا الكتاب، على العكس تماماً، فقد أعجبتني كثيراً روايته الأولى (أوراق
شمعون المصري)، وكتبت عنها مثنياً على الفكرة وما بذله فيها من مجهود، وصحيح أنني
لم تُعجبني روايته الثانية لأسبابٍ بينتها، لكن تظل كتابات الرجل شاهدة عن كاتبٍ
متميز.
ولكني في كتابه هذا أجدني مغرداً خارج السرب، فكل التعقيبات التي قرأتها
تثني عليه وعلى اجتهاده، ولقد تعرفت على موضوع الكتاب بدايةً من بودكاست مع
الكاتب، ولم أر أن اجتهاده قد يكون مقبولاً وصحيحاً إلا في تفسيره لقول الله تعالى
(حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا
تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا)،
بأنها تعني أن هذا المكان ليس المعني به هو (مشرق الشمس)، وإنما هو مكانٌ تطلع
عليه الشمس ويستمر نورها ولا يغيب، وهو أمرٌ لا يتحقق إلا في الدائرة القطبية، وقد
أقر الكاتب بأن هذا الرأي قد ذكره كلٌ من الشيخ الشعراوي ود.مصطفى محمود، عليهما
رحمة الله.
أما ما سوى ذلك، فأختلف معه، ولم أقتنع به، وأكتب محل الخلاف بإيجاز، لأن
هذا التعقيب ليس بحثاً علمياً، وقد يكون رأيي نفسه خطأ، ولكن هذه قناعتي الحالية،
والله بغيبه أعلم.
سأقسم اعتراضي على الكتاب إلى نقاط خلاف منهجية،
ثم نقاط خلاف على التطبيق، من واقع بعض
تأويلات د.أسامة الشاذلي في كتابه.
فإذا بدأنا بالمآخذ منهجية، فأولها
أن الكاتب قد ذكر أن منهجيته هي الاقتصار على آيات القرآن، وما اتفق عليه الشيخان
البخاري ومسلم، والإعراض عما لم يرد في الصحيحين من أحاديث، والحقيقة أنه مع علو
مرتبة الصحيحين، فإنه بشكلٍ عام – لا في هذه الحالة فقط – فإن الاقتصار على أحاديث
الصحيحين والإعراض عما ورد في بقية دواوين السنة، كبقية الكتب الستة أو المسند
وخلافه، يحرم المسلم من خيرٍ عظيم، وكذلك الاقتصار على الأخذ بالصحيح، دون النظر
للأحاديث التي تدنوه في الرتبة، طالما أن الحديث لم يدخل ضمن دائرة الموضوع بكل
تأكيد. والخلاصة، أنه في هذه الحالة، كان ينبغي دراسة حالة كل حديث متعلق بالقضية
محل النقاش، ودرجته من الصحة سنداً ومتناَ، لا غض النظر عنها لمجرد أنها لم ترد في
الصحيحين.
وثاني المآخذ هو تكرار الكاتب لقوله (أشار بعض العلماء أو المفسرين)،
دون أن نجد أمثلة على هؤلاء العلماء أو المفسرين لنرجع لتفاسيرهم، ويُستثنى من ذلك
ذكره للشيخ محمد رشيد رضا.
أما المأخذ الثالث، فهو البدء بمقدمات خاطئة، والانطلاق منها بعد
ذلك لنتائج أرى بالتبعية أنها خاطئة، وبالتالي تأتي التفسيرات للآيات والأحاديث
بها قدر من التأويل والتعسف، وذلك في رأيي الذي لا أُلزم به أحدا. فهو قد وضع
الفرضية في صورة الحقيقة الراجحة، ثم عاد ليدلل على ما رآه الحق بتأويل النصوص
التي اختارها بشكل انتقائي. ومن تبعات هذا المنهج أنه عندما افترض صواب تفسيره
للمعنى اللغوي ليأجوج، وأنها من تأجج النار، ومأجوج،
وأنها من الماء شديد الملوحة، بنى
نظريته كلها، دون أن يفترض أن تفسيره اللغوي قد يكون جانبه الصواب، وسأضع في نهاية
تعقيبي تفسيراً لغوياً آخر يوضح هذا.
أما المأخذ الرابع، فهو العزوف عن التأويل المباشر المتواتر من واقع
القراءات للنصوص القرآنية والنبوية لبعض أهم الغيبيات مثل الدجال ويأجوج ومأجوج - والذين لا نتصورهم إلا في شكل أشخاص أو
مخلوقات أياً كانت صورتها -، وتصور وجود تفسيرات رمزية أو مادية لهذه الغيبيات،
ففي حالة الدجال يصبح رمزاً للزيف وعلو الباطل، وكأن هذه الأمور لم تحدث على مر
العصور وستنتشر فقط في آخر الزمان، وكذلك تصبح يأجوج (الحمم
البركانية)، ومأجوج (تسونامي).
وأستطرد هنا قليلاً، فإني أتفهم – بل وأؤمن – أن من إعجاز القرآن، أن بعض
الألفاظ القرآنية قد تأتي مستوعبةً لأكثر من معنى، يلائم تغير الأفهام على مر
العصور، فالعربي البدوي حين سمع قول الله تعالى (وَالشَّمْسُ
تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)
فهمه حسب تصوره للكون وقتها، ونحن الآن في عصرنا نفهمه بشكلٍ أوسع تبعاً لما وصلنا
إليه من علمٍ بحركة الأجرام السماوية، لكن في النهاية، اللفظ متعلق بأمرٍ واحد هو
حركة الشمس، فهمها السابقون بطريقة وفهمناها نحن بطريقة، وكل هذا فيما يتعلق
بالأمور المحسوسة التي نعاينها لكن قد يختلف فهمنا وتفسيرنا لتفاصيلها تبعاً لتطور
العلوم والفهم، لكن فيما يتعلق بالغيبيات التي لم نشهدها – ونسأل الله ألا نشهدها –
فهل كان من الصعب على العقلية البشرية في العصور الماضية أن تتقبل فكرة أن يأجوج
ومأجوج هي كوارث طبيعية؟ لا لم يكن من الصعب بالطبع، وخصوصاً أن الآيات والأحاديث
المتعلقة بأشراط الساعة قد حدثتنا عن الزلازل مثلاً، فكان من الممكن أن يُعبر عن يأجوج بأنها النار، وعن
مأجوج بأنها الطوفان، لكن الذِكر المباشر ليأجوج ومأجوج بصيغة الأعلام لا معنى معه
إلى التأويل المتعسف لتحويلها لأشكال مادية، وهذا التأويل المتعسف في حد ذاته قد
تحول من نتيجة وصل إليها الكاتب ليصبح مقدمة خاطئة قادته لتأويلات أكثر سخفاً
للنصوص الواردة في هذا الباب.
والمأخذ الخامس هو جزم الكاتب بكون بكون بعض الأمور الغيبية التي لم
نشهدها – سواء حدثت أو لم تحدث بعد – هي بعض الظواهر الطبيعية التي تحدث في عالمنا
المعاصر، كتأكيده بأن طوفان نوح كان تسونامي، في حين أن الآيات التي تصف كيف حدث
هذا الطوفان تختلف عن المسببات المعروفة لحدوث التسونامي. ويمكن تلخيص هذا المنهج
بأنه صورة أخرى من التفسيرات المادية للمعجزات والاكتفاء بالتفسيرات العقلية والتي
لا تستقيم مع كون المعجزة هي أمرٌ خارق للعادة أساساً، ومشكلة هذا المنهج أنه عند
مد الخط على استقامته ينتهي بإنكار الغيبيات بدعوى الاستحالة العقلية، مثل إنكار
د.محمد حسين هيكل لحدوث الإسراء والمعراج بالروح والجسد معاً.
وعلى ذكر الاستحالة العقلية، فقد كان أحد الأمور التي استشكلها الكاتب هو
وجود سد يحجب وراءه يأجوج ومأجوج ولا ندري مكانه في عصرنا هذا الذي تستطيع أن ترى
فيه كل شبر من الأرض بالأقمار الصناعية، وهو استشكال واهٍ ناتج من النظرة المادية
السالف ذكرها، لأن الله الذي خلق هذه الكائنات وقدر لها أن تُحجز وراء سدٍ إلى أن يخرجوا
في آخر الزمان، أليس بقادرٍ على أن يخفيهم عن أعيننا إلى أن يحين أوان خروجهم؟!
وننتقل بعد ذلك لعرض اعتراضاتي على التطبيق
وعلى بعض النتائج التي وصل لها الكاتب، ونبدأ بالنقطة التي قد تكون محل الاتفاق،
وهي نقطة مطلع الشمس التي ذكرتها في بداية كلامي، وبعد أن فصلها الكاتب ورأى أن
القوم الذين لم يجعل الله لهم من دون الشمس سترا هم قبائل الاسكيمو المنتشرين في
الدائرة القطبية الشمالية، تحدث عنهم بعد ذلك على اعتبار أنهم هم ذاتهم القوم
الذين لا يفقهون قولا، ودلل على ذلك بأن أحد تفسيرات اسم (الاسكيمو) هو أنهم
(الشعب ذو اللغة الغريبة) وأن أقرب تشبيه لهذا هو أنهم (لا يفقهون قولا).
لكننا عندما نقرأ الآيات نجدها تقول عن ذي القرنين: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن
كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ
الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ۗ
قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ
فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ
إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا
يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ
الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا
سِتْرًا (90) كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ
أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن
دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا)
ونفهم منها أن ذا القرنين الذي مكن الله له في الأرض، أتبع سببا، فوصل إلى
مغرب الشمس، ثم أتبع سببا، و(ثم) حرف عطف يفيد الترتيب مع التراخي، أي أن
الحدث الثاني يحدث بعد الأول بفترة وليس مباشرةً، وبذلك بعد فترة من مغادرته مغرب
الشمس وصل إلى مطلع الشمس، ثم أتبع سببا مرةً أخرى، و(ثم) هنا تجعلنا نختلف
مع جزم الكاتب بأن من قابلهم ذو القرنين في مطلع الشمس هم ذاتهم القوم الذين لا
يفقهون قولا وأنهم كلهم يعيشون في الدائرة القطبية الشمالية، اللهم إلا لو كان القوم
الأولون في أيسلندا مثلاً والآخرين في روسيا، وهذا كله مبني على أن مطلع الشمس هو
منطقة الدائرة القطبية أصلاً، والخلاصة أن الأولين ليسوا الآخرين، والله أعلم.
والغريب أن الكاتب في الجزء الخاص بذي القرنين عاد ليذكر أن ذي القرنين قد قابل
القوم الذين لا يفقهون قولاً في مكانٍ يختلف عن الذي وصله ورأى فيه القوم الذين
تطلع عليهم الشمس، وهو ما يجعلني أظن أن البحثين لم يُكتبا في نفس الفترة الزمنية.
ويقول الكاتب: "وعلى هذا، فإن محنة
يأجوج ومأجوج الكبرى، التي ستقع في آخر الزمان، ما هي إلا كارثة كونية عظيمة
سينفجر فيها عدد كبير من البراكين في آن واحد، وسيصحبها موجات عاتية من فيضانات
البحار والمحيطات والمعروفة باسم تسونامي. فتهبط الحمم من فوق قمم الجبال على
القرى والمدن، وتغرق الأراضي والبلدان بالفيضانات، وتختفي الحياة بأشكالها على جزء
كبير من كوكب الأرض، إلا من شاء الله له أن ينجو من هذه الكارثة. جعلنا الله
وإياكم ممن لا يدركون هذه المحنة، أو من الناجين منها إذا أدركناها."
ونختلف مع تفسيره ليأجوج ومأجوج، وحديثه عن البراكين والتسونامي، فأقول أن
العلاقة بينهما ليست علاقة معية، وإنما سببية، فالتسونامي سينتج من
زلزال أو بركان كبير تحت المحيط، ولو حدث البركان على اليابسة فليس من الضرورة أن
تجد هذا التسونامي، وبالتالي ستجد في الحادثة الواحدة إما هذا وإما ذاك، لا كلاهما
معاً، ولذلك ليس من المنطقي أن يشكو القوم (الذين لا يفقهون قولاً) من
السبب الخفي والنتيجة الظاهرة، بل الشكوى تكون من النتيجة فقط، وذلك إذا اعتنقنا
تفسير الكاتب الذي ينفي كون يأجوج ومأجوج كائنات أو بشر وجعلهم ظواهر طبيعية.
ويقول الكاتب في موصعٍ آخر: "وحريٌ
بمثل هاتين المحنتين أن يفزع لهما رسول الله فيقول: «ويل للعرب من شر قد اقترب»،
وحريٌ بهما أن يصفهما الله لعيسى بن مريم فيقول: «إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان
لأحد بقتالهم». وحريٌ بهما أن يوصفا بأنهما «مفسدون في الأرض» فأي شيء أكبر
إهلاكًا للزرع والنسل من هذين الشيئين"، ثم يقول: "ولو حاولنا أن نفسر معاني الكلمات السابقة على أن
يأجوج ومأجوج من البشر لوجدناها غير متسقة، فضلا عن كونها تتنافى مع المنطق
والعقل. فكيف نتخيل قومًا يهبطون من فوق قمم الجبال قبل قيام الساعة ليثيروا الرعب
في نفوس الناس، وأن نعتبر هذه إحدى المحن الكبرى التي سيتعرض لها البشر. فشتان بين
رؤية الحمم البركانية تحملها الفيضانات العاتية، وهي تهبط مسرعة نحو القرى في مشهد
تشخص له الأبصار، وتذهل منه النفوس، وبين رؤية شعوبٍ محاربة مهما كانت قوتهم."
ولا أدري لماذا من الصعب تقبل أن يكون يأجوج ومأجوج بشراً مفسدون في الأرض،
وهذا المصطلح ليس من المعهود استخدامه في الحديث عن الكوارث الطبيعية التي تحدث
بقدر الله، ولماذا نتغاضى عن المعنى المباشر في وصف الله تعالى ليأجوج ومأجوج
بأنهم (عباد
لا يًدان لأحد بقتالهم)، ونعتبر أنهما البراكين والتسونامي بالاعتبار
المجازي بأنها أيضاً من عباد الله؟!، وهب أننا أخذنا بهذا التفسير، فألا يكون من
الأولى أن يكون الفعل المستخدم هو مواجهتهم، أو مجابهتهم، أو مدافعتهم،
أو صدهم، بدلاً من أن يقول (قتالهم)،
فكيف يقاتل الإنسان بركاناً أو طوفاناً أصلاً؟!
ثم يتحدث عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقولُ اللَّهُ: يا آدَمُ،
فيَقولُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ والخَيْرُ في يَدَيْكَ، قالَ: يقولُ: أخْرِجْ
بَعْثَ النَّارِ، قالَ: وما بَعْثُ النَّارِ؟ قالَ: مِن كُلِّ ألْفٍ تِسْعَ مِئَةٍ
وتِسْعَةً وتِسْعِينَ، فَذاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ
حَمْلٍ حَمْلَها وتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وما هُمْ بسَكْرَى ولَكِنَّ عَذابَ
اللَّهِ شَدِيدٌ) فاشْتَدَّ ذلكَ عليهم فقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أيُّنا ذلكَ
الرَّجُلُ؟ قالَ: أبْشِرُوا، فإنَّ مِن يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ ألْفًا ومِنكُم
رَجُلٌ"، فيقول الكاتب: "«وبعث
النار» كل ما يحيها ويشعلها ويؤججها، فيكون المقصود في رواية أبي سعيد كل ما يشعل
النار ويؤججها والقرآن الكريم يشير إلى وجود أشياء من مؤججات النار غير البشر،
ففيها الحجارة يقول تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، وفيها الأصنام {إِنَّكُمْ وَمَا
تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، وفيها
كذلك المهل، يقول تعالى: {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} والمهل من أسماء
الصهارة، وقيل هو النحاس المذاب والقطران، وقيل اسم جامع لما ذاب من الحديد والفضة
والنحاس ونحوه. وفيها الحميم يقول تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ
أَمْعَاءَهُمْ}، وقيل الحميم الماء بالغ الحرارة. وتتشابه هذه المكونات مع صفات
يأجوج ومأجوج التي ذكرناها في تفسيرنا، وعلى هذا فهما من بعث النار، أو مما يعمل
على تأجيجها، والله تعالى أعلم."، وهنا نسأل الكاتب، وهل
الحمم التي هي صخور ومعادن مذابة إلى أن تحولت إلى نار في ذاتها ستعمل على تأجيج
النار؟ وإذا ما تجاوزنا ذلك، فهل يأجوج الذي فسرته بأنه ماء، سيعمل بدوره على
تأجيج النار؟!!
ليس هذا إلا فقرة أخرى من التناقض والخلط الذي وقع فيه الكاتب بسبب التفسير
المتعسف للنصوص.
وعند حديثه عن حديث أم المؤمنين زينب رضي الله عنها " أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يقولُ:
لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ
اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ، ومأْجُوجَ مِثْلُ هذا، وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ،
وبِالَّتي تَلِيهَا فَقَالَتْ زَيْنَبُ فَقُلتُ يا رَسولَ اللَّهِ أنَهْلِكُ
وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ"، قال الكاتب:
" قوله:
«نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ»، تحمل أيضًا إعجازًا لفظيًا من حيث دلالة
المعنى. فقد يفهم منها «نعم إذا كثر الخبث» أي إذا كثرت الأخلاق الرديئة والفسق
والفجور، فسيحل الهلاك على الجميع الصالح منهم والطالح وهذا هو المعنى الأقرب الذي
ذكره شراح الحديث، ولكن هناك معنى آخر لكلمة «الخبث» وهو الحمم البركانية، كما
ذكرنا، ويكون المقصود حينئذ: نعم إذا كثرت الحمم، فسيهلك الجميع الصالح منهم
والطالح."، وهنا نود أن نسأل الكاتب: وهل معنى (الخَبَث) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
بهذا المفهوم الذي ذكرته؟!! بالقطع لا، ولكن مرة أخرى نجد عزوفاً عن المعنى
المباشر واتجاهاً إلى معنى شديد التكلف والغرابة!
ثم يسعى الكاتب لتفسير سبب اختصاص ذكر العرب في هذا الحديث، رغم أن ردم
يأجوج ومأجوج في الدائرة القطبية الشمالية حسب استنتاجه الأول، ويفسر ذلك قائلاً: "وذكرنا أن يأجوج ومأجوج في آخر الزمان حادثة عامة لا
تقتصر على مكان واحد، وستحدث في أماكن متعددة، ولن تقتصر على منطقة القطب التي
وقعت فيها الحادثة التاريخية لذي القرنين وهذا الحديث يتحدث عن آخر الزمان، وعلى
هذا فإن الرسول اختص العرب بيأجوج ومأجوج المستقبلية التي ستهدد الجزيرة العربية
والسؤال هل هناك بركان مخيف بالقرب من جزيرة العرب؟ والإجابة نعم وهي براكين
اليمن، فمن المعروف أن اليمن به عدد من الجبال البركانية، بالإضافة إلى أن بركان
عدن، يُعد أحد البراكين العملاقة ويتفق هذا مع الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن
أشراط الساعة: «وَآخِرُ ذلكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ اليَمَنِ، تَطْرُدُ النَّاسَ إلى
مَحْشَرِهِمْ»"، ومع تسليمنا باحتمالية أن يكون المقصود بهذه
النار بركاناً لعدم التعارض العقلي ولا اللغوي بين الأمرين، فما يخرج من البركان
يُعد من قبيل النار صفةً وتأثيراً، وإن كان ذلك لا يمنع أن تخرج نارٌ صافية بقدرة
الله، فإن الكاتب هنا لا يفسر لنا لم تحدث الرسول صلى الله عليه وسلم عن (ردم يأجوج ومأجوج)،
وهل لهذا الردم من وجودٍ إلا في الموضع الذي أنشأه به ذو القرنين؟!
ثم يذكر حديث حذيفة بن أسيد الغفاري قال: "اطلع النبي ﷺ علينا ونحن نتذاكر.
فقال: «ما تذاكرون؟» قالوا: «نذكر الساعة». قال: «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر
آيات». فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن
مريم ﷺ، ويأجوج ومأجوج. وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة
العرب. وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم»"،
فيعلق الكاتب هنا على الحديث بقوله أننا سنلاحظ أن أغلب أشراط الساعة المذكورة هنا
هي كوارث طبيعية، فيدلل بذلك على صحة ما ذهب إليه، وهنا ناقض الكاتب نفسه أشد
التناقض، فإن كانت يأجوج ومأجوج هي كوارث طبيعية، فلم ذُكرت كأعلام وليس بصفتها
كنيران وطوفان مثلاً؟، وإذا كان الكاتب في تفسيره للنار التي تخرج من اليمن في
الحديث السابق بأنها بدورها (يأجوج)، فلم ذُكرت في هذا الحديث بجوار يأجوج
ومأجوج؟! أليس هذا بدليلٍ على أنها شيء مختلف تماماً، وإلا كان ذكرها هنا من قبيل
التكرار واللغو؟!
أما حديثه عن الديدان التي ستأكل أعناق يأجوج ومأجوج بعد موتهم وتفسيره
بأنها ديدان الأرض وأنها لازمة لاستعادة خصوبة الأرض بعد ما سيحدث لها من بوارٍ
بسبب الكوارث الطبيعية الممثلة في يأجوج ومأجوج، فمرةً أخرى، لا أجد هذا إلا
تفسيراً سخيفاً متكلفاً للنص يحمله فوق ما يحتمل، وهو من قبيل محاولة التوفيق بين
المقدمة الخاطئة التي وصل إليها، وبين الأحاديث الصحيحة في هذا الباب، وبالتالي
نجد مثل هذه التأويلات المتكلفة، أو عباراتٍ بها (لفة طويلة) لمجرد التدليل على
النتيجة بدون سندٍ قوي ترتاح له النفس والعقل.
ويختم الكاتب بحثه عن يأجوج ومأجوج بمحصلة نهائية باطلة – لأن ما بني على
باطل فهو باطل – وتتناقض بدورها مع ما أورده سابقاً من نصوص، فيقول: "ونحن نرى من خلال التأويل الذي وضعناه، أن المحنة
الكبرى التي سيشهدها العالم، من تغير مناخي، وكوارث طبيعية، والتي أخبرتنا عنها
الديانات، تستدعي التفكير في طرق الاستعداد لها، وانتهاج سبل العلم لمحاولة الحد
من خسائرها. وقد يتساءل أحدنا، وهل يمكن أن يكون العلم مخرجًا من هذه المحنة؟
والإجابة القاطعة هي نعم، خصوصًا إذا كانت قصة ذي القرنين في القرآن تُعلي من
شأن العلم والعلماء، وأن هناك شخصًا اسمه ذو القرنين تحلى بالمعرفة ليتصدى لها
قديمًا."، ونرد عليه بسؤال: وماذا عن نص الحديث «إني قد أخرجت
عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم»، فإذا كان الله سبحانه وتعالى يخبرنا
بهذا، فهل لأي منا القدرة على أن يتصدى لهذه المحنة أو يقلل من خسائرها على حد
قولك؟ أيمكن هذا ونحن لا نعلم متى وأين تقع أشراط الساعة؟ وحتى لو علمت، فما الذي
يمكن للإنسان عمله لكي يتفادى الأثر المدمر للبراكين والتسونامي؟ هل سيبني سداً
كسد ذي القرنين حول كل مكان محتمل أن ينفجر منه بركان؟ قد تصلح بعض الاجراءات للحد
من أثر أي ظاهرة طبيبعية ذات حجم محدود، لكن مهما فعل الإنسان، فلن يستطيع أن يواجه
البراكين العملاقة التي ذكرها الكاتب نفسه في كتابه وأوضح أنها قد تؤدي مع تبعاتها
لمحو الحياة من على الأرض!
بقي في هذه الجزئية الخاصة بيأجوج ومأجوج، أن نستأنس بتحليلٍ لغويٍ آخر
لهذه الألفاظ، وهو تحليل الأستاذ محمود رؤوف أبو سعدة في الجزء الثاني من كتابه
الجميل (من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن)،
والذي يدلل فيه على اجتهاده الذي أوصله إلى أن العَلَم الأعجمي يأتي في موضعه في
القرآن في سياقٍ يُفسر معناه، وقد كتبت عنه مراجعة مستقلة من قبل، وإيرادي لرأيه
دليلٌ على تقديري للاجتهاد طالما كان ذو منهجٍ منضبط، وعموماً يقول الرجل في
كتابه:
"أما " يأجوج " و " مأجوج "
اللذان في القرآن ، فهما إسمان عربيان أصيلان ، تشتقهما من الجذر العربي "
أجج " : "يأجوج" على زنة " يَفْعُول " من أج / يَوْج /أجاً
، وأجيجاً وأجة أيضا ، ومن معانيه في العربية إلى الآن الإهاجة والاشتداد
والاستثارة ، والأجاج يعنى اللاذع الممض مرارة أو ملوحة ، ومن معانى الأجيج أيضا
الاضطراب والاختلاط . أما "مأجوج " فهى على زنة "مَفْعُول" من
" أج " هذه نَفْسها وكان " أ " يَصلح أيضا مُتعدِّياً بنفسه،
وكأن معنى "يأجوج ومأجوج" هو الذين يوج بعضهم بعضاً. نعم . يأجوج ومأجوج
من العربية الأولى ، عربية آدم ، لا تستطيع أن تحدد زمان الإرتاج عليهم ، كما لا
تستطيع تحديد موقعه من هذه الأرض التي نعيش عليها ، ولا تستطيع التنبؤ بزمن
خُروجهم ، لاستئثاره عز وجل بعلم الساعة ، لا يجلبها لوقتها إلا هو
الذي تستطيعه هو فحسب تفسير " يأجوج ومأجوج "
من القرآن بالقرآن،.مقصدنا
الأول من الحديث عن يأجوج ومأجوج في هذا الكتاب الذي نكتب :
فسرت " يأجوج ومأجوج " في القرآن بالتعريب :
الذين يَؤُجُ بعضهم بعضا . ويَسْتَفرُّ بعضُهم بعضا ، ويَمُوج بعضُهم فى بعض ، كما
قال عز وجل فيهم :( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ) ( الكهف : (۹۹)،
والموج على المصدرية من ماج / يَمُوجُ /
موجا ، هو من الاختلاط والاضطراب، فهو تفسير بالتصوير ، كما قال في موضع آخر : {
وَهُمْ من كُلِّ حدب يَنْسلون } (الأنبياء ، ٩٦) كناية عن مدى الاختلاط والاضطراب
. وفى الاختلاط والاضطراب فساد وإفساد ، ومن هذا قول الذين استعانوا ذا القرنين
عليهم : { إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض }"، وهذا
التفسير قد يكون أكثر منطقية مما ذهب إليه د.أسامة الشاذلي، علماً بأن كتاب أبو
سعدة نفسه لا يخلو بدوره من بعض التكلف والتعسف هنا وهناك، لكن الكمال لله وحده.
أما القسم الثاني من الكتاب، فيتعلق بمحاولة استنتاج شخصية ذي القرنين،
وذهب الكاتب إلى كونه رحالة إغريقي اسمه (بيثياس المارسيلي)، وفي
هذا الاجتهاد لا نملك أن نصدق أو نكذب، ولكني بالاستنتاج العقلي الشخصي لا أميل
للاقتناع باجتهاده هنا، لأن تصرف ذي القرنين مع القوم الذين وجدهم عند العين
الحمئة وتخيير المولى عز وجل له بين أن يُعذبهم أو يتخذ فيهم حُسنا، ينبيء عن رجلٍ
ذو شوكة وقوة، لا مجرد مستكشف، والتبرير بما جرى بين كولومبس وأهل أمريكا الأصليين
به مقارنة بعيدة للفارق التكنولوجي في الحالة الثانية، بخلاف الحالة الأولى، وكذلك
كون الأحداث جرت في القرن الثالث قبل الميلاد وفي مسرحٍ نقطة الانطلاق فيه بعيدة
عن منطقتنا يجعلني أستبعد أن يكون بيثياس هذا معروفاً لدى اليهود لدرجة أن يمتحنوا
فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أغلم.
وإلى هنا أنهي تعقيبي على هذا الكتاب الذي أعتبره تطبيقاً عملياً على أحدى
أشهر المغالطات المنطقية وهي مغالطة المصادرة على
المطلوب، وهي حجة دائرية يفترض فيها الكاتب النتيجة التي يريد الوصول
إليها كمقدمة ودليل يبني عليه حجته، وبذلك حاول تطويع النصوص لهذه النتيجة، وما
كنت أحب أن أضيع كل هذا الوقت في كتابة هذا التعقيب على قضيةٍ ليست من الأولويات،
وعلى معرفةٍ لا ينبغي عليها فرقٌ في العمل، ولقد طال هذا التعقيب أكثر مما كنت
أبغي وأتوقع لا لشيءٍ إلا لأني قد استفزني المنهج الذي سار عليه الكاتب، والذي كنا
لنحتفظ له بالتقدير على كل حالٍ لما بذل في بحثه من جهدٍ لو لم يكن بحثه حافلاً
بهذه الأخطاء المنهجية. ويبقى أن نؤكد على حقيقة أنه ليس بالضرورة أن تكون الرؤية
التقليدية جموداً، ولا أن تكون الرؤية الجديدة اجتهاداً وتنويراً، ولو كان الاجتهاد
مبنياً على أسسٍ فأنعم به، والله بغيبه أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق