الاثنين، 21 يوليو 2008

العرب و مصر:فتح أم غزو؟

لم أكن أتصور أنى سأكتب عن هذا الموضوع, لأنه من البديهيات بنظرى, و عادة ما أجد هذه الشبهة تتصدر بعض كتابات المستشرقين, مخالفين بها ما أثبته التاريخ, و مخالفين بها أى روح موضوعية.
لكن وجدت أن هذا الموضوع قد طُرح بالصدفة على أحد المجموعات البريدية, و قام أخ فاضل بالإعتراض على وصف مصر بالدولة(العربية), و تساءل عن سبب الغاء هوية مصر و تاريخها من أجل عدة آلاف من العرب قاموا بغزو مصر بقوة السلاح من 1400 سنة؟!!!
و عندما تفضل بعض الأخوة بالرد, وجدت الأخ الفاضل قد صرح قائلاً أنه: يحلو للبعض أن يسمى الغزو فتحاً. هذا غير الكلام عن عنصرية العرب.
و لهذا أود أن ألفت نظر الأخ الفاضل-و غيره ممن يتبنى هذا الرأى الى الحقائق التالية:
*إن الإختلاف حول لفظ الفتح أو الغزو يتوقف على الجانب الذى نقف فيه, لكن إذا مررنا بالأحاديث النبوية التى تكلمت عن مصر, و اخترنا منها هذا الحديث:((إنكم ستفتتحون مصر, و هى أرض يسمى فيها القيراط, فإذا فتحتموها فأحسنوا الى أهلها, فإن لهم ذمة و رحما, أو قال: ذمة و صهرا)) صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم, و الحديث وارد بصحيح مسلم.
و بما أن الأخ السائل اسمه (محمد), فأحببت أن أذكره بهذا الحديث, فليس لفظ الفتح لعباً بالألفاظ من أحد.
*المنصفين من المستشرقين قد استخدموا نفس المصطلح-الفتح-فى وصفهم لدخول العرب لمصر, و يمكن مراجعة بعض الكتب الشهيرة فى هذا المجال مثل: (فتح العرب لمصر)للدكتور ألفرد بتلر, و( الدعوة الى الاسلام )لتوماس أرنولد, و (حضارة العرب) لجوستاف لوبون, و غيرهم.
و الغريب أن المنصفين من كتاب الغرب لم يتجنوا على الفتح العربى بمثل ما نتجنى نحن عليه, و اذا قارنا بين سلوك العرب فى مصر, و سلوك أى غازى, يتضح الفرق, و التاريخ يشهد.
*المشكلة ليست فى الألفاظ-فتح أو غزو- بقدر ما هى مشكلة فى المفهوم, فوصف الفتح بأنه عربى هو وصف مبتسر, بل و عنصرى, فالعرب الفاتحين فى هذا الوقت لم يكونوا ينظرون لأنفسهم على أنهم عرب يحاربون قوميات أخرى, بل على أنهم مسلمون يحملون رسالة الى بقية الأمم, و مسئولية هى:إخراج العباد من عبادة العباد الى عبادة رب العباد.
*عند التحدث عن العرب الفاتحين هؤلاء, هل ننسى أنهم صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم, هل ننسى أن منهم عمرو بن العاص و عبادة بن الصامت و الزبير بن العوام و أبى الدرداء و غيرهم؟
إن بعض المستشرقين المغرضين يصرون على الوصف العنصرى(الفتح العربى), ليكون هذا مقدمة لشىء أبعد و هو الطعن فى الفاتحين, ثم نتبعهم بحسن نية و ننسى أننا بهذا نطعن فى صحابة الرسول الكريم, الذين حملوا الينا الرسالة, و من اسلم منا فإن إسلامه فى موازين حسنات هؤلاء.
إن مصر قد تعرضت خلال تاريخها الطويل الى الاحتلال من قوى و حضارات مختلفة, غزانا الهكسوس, و الآشوريين, و النوبيين و الليبيين, و الفرس,ثم الاغريق, و بعدهم الرومان.
مع كل هؤلاء, لم يتغير لسان مصر, و لم يعتنق المصريون أديان الغرباء, بل إن من الغرباء من عبد آلهة المصريين, مثل البطالمة.
الديانة المسيحية دخلت مصر و اعتنقها المصريون قبل أن تصبح ديناً سائداً للإمبراطورية الرومانية, و حتى بعد ذلك لاقى المصريون منهم أقسى صنوف الاضطهاد بسبب اختلاف المذهب, و لم يغير المصريون مذهبهم.
حتى أتى المسلمون, و حررونا من ظلم الرومان, و أعادوا العدل الى الأرض, و رأينا ذلك, فاعتنق منا الإسلام من اعتنق, و ظل بقيتنا على دينه الى يومنا هذا.
و صارت مصر عربية الهوية فى نهاية المطاف, قبلت مصر الإسلام مصحوباً بالعروبة, التى هى هوية أكثر منها بجنس.
إذا ماذا يجدى الآن إثارة تساؤلات مثل هذه؟ ألا ينبغى ألا ننساق وراء دعوات الانسلاخ من الهوية, و نميز الغرض الحقيقى منها؟
ألا يجب أن نعقل أن الأمر أبعد من مجرد الطعن فى جنس الفاتحين, لكنه تمهدة للطعن فى عقيدتهم؟
إنى بالطبع لا أتهم الأخ السائل بهذا, فإنى أحسبه على خير, و لكنى أرى أنه بحسن نية يردد أقوال المغرضين من المستشرقين و أعوانهم.
و تبقى فى النهاية مقولة:عنصرية العرب, و القومية العربية.
فلا يخفى عنكم أن دعاوى القومية فى العصر الحديث قد نشأت فى أوروبا و نمت خصوصا فى القرن التاسع عشر, و إستوردناها كمثيلاتها من الأفكار الغريبة على مجتمعاتنا, و التى ليس لها جذور فى تربتنا.
و هكذا وجدنا من يقومون بما أسموه(الثورة العربية الكبرى) ضد الأتراك و الحكم العثمانى, و ليس بخاف عنكم دور الاستعمار الغربى فى إذكاء هذه الروح العرقية لهزيمة دولة الخلافة.
ثم وجدنا من يرفع راية القومية العربية ظنا منهم أنها السبيل الوحيد لضم صفوف العرب, ناسين أن الرسول الأكرم لم يوحد قبائل العرب تحت راية العروبة, و لكن تحت راية لا اله الا الله.
و هكذا, فإن الطعن فى دعاوى القومية نفسها,و التى لم تحقق ما أرادت, لا يجب أن ينسحب بالطعن فى العرب أنفسهم, و ننسى أن الله إصطفى منهم خير البرية.
و إذا كان سلوك بعض العرب فى عصرنا هذا متسماً بالعنصرية, فهذه من الخيبة العربية المعاصرة, التى هى إحدى صور تراجعنا فى كافة المجالات, و بعدنا عن روح الدين, فلا يجب أن نؤاخذ الكل بذنب البعض, و ليس الإنسلاخ من العروبة هو الحل, و على من يطرحون هذا الحل أن يقدموا الينا البديل, و لا أظننا سنجده.
إننا كمصريين لا يجب أن نكون ممزقين بين الوطنية المصرية, و القومية العربية, و الهوية الإسلامية, فهناك أولويات يجب أن نعيها, يجب أن نعى من نحن حقاً, و لكن لهذا حديث آخر.

------------------------------------------------------------------------------
تحديث
بعد كتابة هذا المقال, قرأت مقالين للأستاذ فهمى هويدى يتناولان نفس الموضوع, رداً على محاضرة ألقاها أسقف قبطى يعتبر أحد القيادات الكنسية فى مصر, و تناول فى محاضرته مسألة الفتح الاسلامى بنفس الفكر و الأسلوب المغرض, مما يضع دليلاً عملياً على وجود مخطط وراء طرح هذه الافتراءات, و كذلك نرى بوضوح من يقف وراءها.
أنصح بقراءة هذين المقالين القيمين: طعنة للجماعة الوطنية , العيش المشترك له شروط
و أختم برأيٍ قد قرأته منذ زمن للشيخ محمد الغزالى رحمه الله
يقول الشيخ:((جاءت المسيحية لمصر و انتشرت,فاعتنقها من اعتنقها, و بقى من بقى على الوثنية, و لم يقل عاقل و لا مجنون لمن تنصر إنك قد فقدت وطنك بتنصرك!!
ثم جاء الإسلام, فأسلم من اسلم, و بقى من بقى على نصرانيته, فلماذا يريدون أن نفقد وطننا بإسلامنا؟؟!!))

هناك 9 تعليقات:

غير معرف يقول...

كلام جميل جدا جزاك الله خيرا

غير معرف يقول...

جزاك الله خيرا؛؛ فكر واسع ولغة رصينة

لكن ثمة خطأ لغوي:
ليس بخاف عليكم دور الاستعمار الغربى
والصحيح:
ليس بخاف عنكم دور الاستعمار الغربى

Ibn Mazzhar يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم

جزاك الله خيراّ. أعتقد إننا غى مصر نحتاج مراجعة جذرية للطريقة التى يفكر بها كثير من المثقفين.

تحياتى

عبد الحميد مظهر

صيد الخاطر يقول...

بصراحة مدونة جميلة ماشاء الله
تنم عن نفس نفكرة
وعقل واع

نفع الله بك

وبخصوص موضوع المقال
فاحسنت في ردودك

فهذه صيحة بدات تسمع من البعض

وللاسف غذاها الاعلام ..
لك تحياتي

مسلم من مصر - محمد على عطية يقول...

السلام عليكم و رحمة الله
الأخ الفاضل,جزانا الله و إياكم,و شكرا على مرورك الكريم

-------------------
الأخ الفاضل
جزانا الله و إياكم, و أشكرك على الإطراء
و أشكرك أيضاً على التصحيح اللغوى,سأعود لأصل المقال و أقوم بتصويب الخطأ
شكرا لتنبيهى,و إن شاء الله لا أعود لمثل هذا الخطأ ثانية

---------------------
الأخ الفاضل د.عبد الحميد مظهر
جزاك الله كل الخير,لقد رددت على تعليقك فى المجموعة البريدية, و ها قد رأيت ما آلت اليه المناقشة, إن الثقافة الغربية قد أثرت فى عقول شريحة واسعة من مثقفينا لكن أخذوا منها للأسف الجوانب السلبيةبأكثر من الجوانب الايجابية,و الفكر العلمانى نشأ بصورة أساسية بسبب الصراع بين الدين و العلم فى أوروبا فى عصور ظلامها,و كذلك بسبب فساد رجال الدين عندهم,و مع هذا تم استيرادها لتعالج مرضا لم تعانى منه أمة الإسلام,تم استيرادها مع الشيوعية و الليبرالية و القومية و ما غيرها من أفكار, بما فى ذلك الالحاد
ستظل دائما هناك مساحات و دوائر مشتركة نستطيع أن نلتقى فيها مع من يخالفنا فى الرأى,فى إطار من الحب و العقلانية و المنطق, لكن الحوار مع المتطرفين الذين يظنون أنهم يحتكرون الحقيقة و لا يقبلون الرأآ الآخر مضيعة للوقت و الجهد, و نسأل الله لنا و لهم الهداية
خالص التحية لمرورك الكريم و نورت المدونة

------------------------
أخى فى الله(صيد الخاطر)
جزاك الله كل الخير يا أخى,و أسأل الله لك التوفيق فى دراستك و حياتك
و بصفتك متخصص فى الحديث,أرجو أن تنبهنى بالطبع لأى قصور فى استشهاداتى,نعم يحاول المرء قدر استطاعته تحرى الدقة و التأكد من قوة الحديث قبل الاستشهاد به,لكن جل من لا يسهو
و أحمد الله أن المحتوى لاقى اعجابك,و أسألك الدعاء لى بالإخلاص و أن يجعله الله فى ميزان حسناتى
و بخصوص المقال,فللأسف تبين أن صاحب الدعوى رغم أننا أحسنا الظن بنيته فى البداية,و قلنا أنه ربما يكرر كلام المستشرقين بلا إدراك لما وراءه,و أن الهدف الحقيقى لهم هو الطعن فى الإسلام, لكن تبين بعد هذا أن المرء أكبر من مجرد شبهة,فقد طعن فى رسائل تالية فى الصحابة ثم فى الاسلام ذاته, و نسأل الله لنا و له و لكل من يرى رأيه الهداية.
هالص التحية لمرورك الكريم و نورت المدونة

شــــمـس الديـن يقول...

السلام عليكم و رحمه الله و بركاتة

موضوع جد مهم ما تحدثت عنه

و للاسف هناك شبه منظومة شاملة تعمل علي قلب الحقائق و استبدال الفاظ بالفاظ اخري ... قد ينطلي الامر علي العامة و لكن في الحقيقة ان الامر اكبر من مجرد تغيير لفظ كما اشرت لان اللفظ يعكس مغزي و معني مختلف تماما و للاسف دائما يدخل لنا اعداؤنا من هذا المدخل و نحن عنه غافلون ( تغيير و تحوير المعاني و تساهلنا معها منذ البداية ثم نفاجئ بتراكم معاني داخل هذا اللفظ الجديد غير ما كان يحويه القديم ابدا )

و من ضمن هذه الالفاظ التي يحلوا للبعض التشدق مثل هذه القضية التي اثرتها

ما يعنيني اكثر هذا المبدأ المتكرر و الذي يغفل عنه اغلب الناس , و ها انت قد رايك بنفسك التجربة , من يردد و ينشر هذه الالفاظ يكون خلفه فكر كامل يريد ان يبثه خلالها ... فجزاكم الله خيرا علي التنبيه باللتي هي احسن و باسلوب راقي :)

خالص التحية اخي الكريم

مسلم من مصر - محمد على عطية يقول...

و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته
أختى الكريمة شمس,بارك الله فيكى
نعم كما قلتى,هناك منظومة كاملة تعمل على تزييف التاريخ,و قلب الحقائق,و هو مخطط يسير عبر العصور كلها,لتزييف وعى الأجيال القادمة
كثرة الكذب و الاصرار عليه تؤدى الى تثبيته,و اذا لم تجد الحقيقة من يدافع عنها و يقف فى صفها,فسيسود الزيف
أما عن مسألة التنبيه بالتى هى أحسن,فأسأل الله أن يكون هذا سلوكنا جميعا كمسلمين,فالله دعانا لأن نجادل أهل الكتاب بالتى هى أحسن,فكيف اذا بمجادلة من ينتسب الى ديننا,مهما اختلف معنا.
و اذا لم نجد الطرف الآخر على استعداد للحوار العاقل المتوازن,اذا فإن الحوار ساعتها سيكون بلا فائدة,و لن نجنى سوى اضاعة الوقت و حرق الدم و الأعصاب مع من لا يستحق.
و نسأل الله الهداية لنا و للجميع
جزاكى الله خيرا أختى الكريمة :)

ابوعبدالعزيز الكثيري يقول...

اخي الكريم ..

أسجل حضوري شاكراً لك َ ما تفضلت به .

مسلم من مصر - محمد على عطية يقول...

أخى الكريم بسام
أهلا و سهلا بك,نورت مدونتى المتواضعة,و أسألك الدعاء
و جزاك الله خيرا