الخميس، 16 يوليو 2009

إستراتيجية الإستعمار و التحرير-ج1


هذا الكتاب القيم هو أحد إبداعات المفكر الموسوعى د.جمال حمدان رحمه الله, هذا المفكر العبقرى الذى أعطى فى كتاباته أبعاداً جديدة للقارىء العربى يفهم بها العلاقات المتشابكة بين الجغرافيا و التاريخ و السياسة, و يلخص ذلك فى فقرات عبقرية موجزة مثل: (إن التاريخ هو معمل الجغرافى كما قيل,و هو كذلك مخزن الاستراتيجى الذى لا ينضب, و كل منهما يستمد منه خامته و يجرى عليها تجاربه.و بالنسبة للجغرافى بالذات, فإن التاريخ إذا كرر نفسه-و هو قد يفعل-فهذا التكرار هو الجغرافيا:أعنى أن الجغرافيا بهذا هى الجذر الجبرى للتاريخ, و عملية استقطاب له و تركيز.أكثر من هذا, ليس التاريخ كما عبر البعض إلا جغرافيا متحركة,بينما أن الجغرافيا تاريخ توقف, و هما معا أشبه شىء بقرص الطيف:إذا سكن على عجلته تعددت ألوانه فإن هو دار و تحرك استحال لوناً جديداً واحداً) و كذلك (البيئة قد تكون فى بعض الأحيان خرساء,و لكنها تنطق من خلال الإنسان.و ربما تكون الجغرافيا صماء, و لكن ما أكثر ما كان التاريخ لسانها.و لقد قيل بحق إن التاريخ ظل الإنسان على الأرض,بمثل ما أن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان).

و فى هذا الكتاب الذى كتبه مؤلفه فى عالم يموج بالصراع بين قوى الإستعمار و حركات التحرير, وضح الكاتب فى مقدمته أن الإستعمار ليس بشىء حديث نسبياً يعود الى القرن التاسع عشر أو عصر الكشوف الجغرافية, و أنه لفهم استراتيجية القوى العالمية لابد أن نوغل الى أبعد أعماق التاريخ لأنه بالدور التاريخى الكامل وحده تبرز الاستراتيجية الكامنة لأى إقليم و تتضح الشخصية الإقليمية, و من خلال هذا البعد التاريخى يمكن فهم الحاضر و من ثم التنبؤ بالمستقبل.

-----------------------------------------------------------

العصور القديمة

عرض الكاتب تاريخ الاستعمار فى شكل محاولات متكررة من جماعة بشرية للسيطرة على جماعة أخرى فى صورة هجرات و غزوات و غارات يكون الدافع الأساسى لها هو الاستحواذ على الثروات الطبيعية الموجودة لدى الجماعة المغلوبة و التى تفتقر اليها الجماعة الغالبة فى بيئتها الأصلية, و الصراع فى جوهره بين قوى بر و بر, بين الجبل و السهل, أو بين الاستبس و الغابة.

من أبرز الأمثلة هى غارات و غزوات الهكسوس و الآلان و الهون, و هى غزوات تخريبية لم تبنِ حضارة أو دولة لها قابلية للإستمرار, بقدر ما كانت بسبب طرد البيئة الصحراوبة الصعبة لساكنيها و بحثهم عن الدفء و الخضرة و الماء.

لكن مع هذا شهد العالم القديم نوعاً آخر من الاستعمار التوسعى كان أساسه الصراع بين قوى البر و البحر للفوز (بالموقع و الموضع معاً), و لعل أبرز الأمثلة إمبراطورية الإسكندر التوسعية, و التى ورثتها روما, فجمعت بين السيطرة على ثروات الأمم المغلوبة, و بين اكتساب أماكن لها أهميتها الاستراتيجية.

و هذا الصراع بين القوى-قوى البر و البحر الاستعمارية-أبرز أهمية المناطق البينية و لزوم السيطرة عليها, و كونها منطقة صراع تخضع مرة لسيطرة هذه أو تلك, و تمثل هذا أكثر ما تمثل فى منطقة الشرق الأوسط التى كانت ضحية الصراع بحكم موقعها بين الإمبراطورية الفارسية و الرومانية, الى أن تبدلت الأدوار فى العهد الوسيط.

------------------------------------------------------

العصور الوسطى

ظهرت قوة الدولة الإسلامية العربية و توسعت شرقاً و غرباً, و لكن يوضح الكاتب أن هذه الدولة أبعد ما تكون عن فكر الإستعمار بل إنها(أول فصل فى جغرافيا التحرير) فقد كانت(امبراطورية تحريرية بمعنى الكلمة حررت كل هذه المناطق من ربقة الاستعمار الفارسى أو الرومانى و لم تعرف الدولة الجديدة عنصرية أو حاجزاً لونياً).

و إن كان الكاتب قد أشار على إستحياء إلى عوامل (ميتافيزيقية) غير مادية تفسر هذا الاتساع الذى بلغته الدولة الإسلامية فى زمن وجيز و العامل الرئيس هو الإيمان, فإنه أبرز السبب المادى لتفكك الدولة مفسراً ذلك بترامي أطرافها و كثرة الحواجز الصحراوية بين الحواضر الزراعية الخصبة-العراق-الشام-مصر-الأندلس..الخ-بالإضافة لتكالب قوى البر و البحر المحيطة بهذه القوة البرية البحرية الجديدة, لكنه لم يشر للضعف الروحى بدوره كسبيل للتفكك لأن الدراسة جغرافية تاريخية سياسية فى الأساس.

فى مراحل التفكك تعرضت الدولة العربية الإسلامية لهجمات خارجية كثيرة أبرزها الاستعمار الصليبى و الهجمة المغولية, و التى كانت فى وقت شبه متزامن أوقعت الدولة بين شقى الرحى حتى كتب النصر للمسلمين و توقف كلا منهما, و إن كان الإستعمار الصليبى فصلا مبكراً من الإستعمار الأوروبى الحديث و نشوء المد القومى بها.

ورثت الدولة العثمانية الدولة العربية الإسلامية, و كان توسعها (ضفدعياً) أى أنها تقفز على منطقة لتسيطر عليها ثم تعود لتسيطر على منطقة أخرى قبلها(مثال أن سيطرتها على شرق أوروبا سبقت زمنياً فتح القسطنطينية).

بدأت الدولة العثمانية كقوة بر ثم تحولت الى قوة بر و بحر معاً, و كان للموقع أثره فى تحولها فيما بعد الى منطقة بينية كما سيتضح فى الأسطر القادمة.

---------------------------------------------------

عصر الكشوف الجغرافية

يبدأ الكاتب هنا فى عرض الاستعمار فى صورة جديدة, حيث يميز بين الاستعمار الذى ظهر مع بداية عصر الكشوف الجغرافية فى القرنين السادس عشر و السابع عشر بأنه إستعمار سكانى إستيطانى, كما نرى من إستيطان الأسبان و البرتغاليين فى الأمريكتين, و استيطان الانجليز فى امريكا الشمالية و استراليا..الخ.

أما الاستعمار فى القرن التاسع عشر فقد كان إستعماراً إستغلالياً إقتصادياً فى المقام الأول, و فى الفصول التالية سنرى أنواعاً أخرى من الإستعمار منها الإستعمار الأيدلوجى حينما تصدر قوى أيدلوجيتها الى دول أخرى لكى تسير فى ركابها مثلما دأب الإتحاد السوفييتى على تصدير شيوعيته الثورية.

كانت الضغوط التى تتعرض لها اوروبا الغربية من الشرق دافعا لها لعبور المحيط و الاستكشاف و الاستعمار, هذا إلى جانب كونها بيئة بحرية فى المقام الأول.

تنقلت مراكز القوى الإستعمارية حسب قوة الدولة, فقد بدأ مع البرتغال رغم كونها دولة صغيرة الحجم بعدما صارت فى الطليعة بإكتشافها طريق رأس الرجاء الصالح و وصولها الى الهند على يد فاسكو دا جاما الذى اعتمد على البحار العربى أحمد بن ماجد.

كان من أهداف البرتغاليين ضرب الطريق التجارى القديم الذى كان يسيطر عليه العرب المسلمون, كانت البضائع تنزل فى القلزم (السويس), ثم تحمل على الجمال الى الفرما على البحر المتوسط, و منها تنتقل الى اوروبا, و كانت مصر تحصل ضرائب نتيجة لهذا مرور مثلما يحدث فى قناة السويس حالياً,( لذا كان هذا من أسباب نشوء القتال بين المماليك و البرتغاليين).

من جهة أخرى, كان الأسبان قد فتحوا آفاقاً جديدة للإستعمار بإكتشاف الامريكتين, و انفتحت شهية أوروبا لتغزو العالم الجديد, و كان التبشير هو السمة المشتركة بين البرتغاليين و الأسبان, أما نمط الاستعمار للأسبان فهو الاستعمار الاستيطانى السكنى.

-----------------------------------------------------

الإستعمار البحرى

نشأت قوة استعمارية جديدة هى هولندا, لكنها سرعان ما بدأت تفقد مستعمراتها بنمو القوة البحرية لكل من فرنسا و إنجلترا و اللتان تنافستا بدوريهما فى تقسيم تركة من سبقوهم, هذا غير الاستيلاء على ما حازوه من أراض و مستوطنات, و كانت محاولة نابليون لتأسيس إمبراطورية فى المشرق فى مصر و الشام لكى تكون توطئة لضرب بريطانيا فى الهند, لكن الأمور حسمت للقوة البحرية فى النهاية بإنتصار إنجلترا فى الطرف الأغر.

برزت إنجلترا كقوة بحرية من الأساس, فهى جزيرة ذات أسطول قوى مكنها من الانتقال بقوتها الى أى مكان, و إستطاعت أن ترث القوى الاستعمارية الأخرى, و كانت سياستها أن تترك القوى الأخرى فى القارة تتصارع حتى تضعف جميعا فتتقدم هى لترثها, و كانت تحرص أيضاً على عدم إستئثار طرف بالقوة و السيادة فتعمل على دعم الطرف الأضعف فى مواجهة المنافس و يتضح هذا أوضح ما يتضح فى سياستها التقليدية مع منافستها الدائمة:فرنسا.

---------------------------------------------

الإستعمار البرى

كان أبرز الأمثلة التى عرضها الكاتب هو نشوء قوة روسيا البرية, لكن ما نود التركيز عليه ليس تاريخ روسيا الإستعمارى فى الأساس, و إنما التشابه فى الأساس الإستعمارى بين قوى البر و قوى البحر و كون الفرق فقط فى الطبيعة و الظروف, و إن حرصت كلتا القوتين على الإحتفاظ بمساحة فاصلة-بينية-بينهما تمثلت فى الدولة العثمانية المتداعية.

------------------------------------------

الإنقلاب الصناعى و الإستعمار

كان للثورة الصناعية و الإنقلاب الصناعى دوراً دافعاً و قوة منشطة للإستعمار و مغيرة من شكله, ليس بسبب التطور فى تقنية الأسلحة بالطبع, و لكن فى الأساس لتطور وسائل النقل و ظهور وسائل جديدة مثل القطار الذى حقق (وحدة اليابس) , و السفينة البخارية التى حققت (وحدة المحيط) ليصبح العالم القديم قارة عالمية لا عدة قارات.

من جهة أخرى-سياسياً-سهلت تلك الوسائل ضبط و ربط الدولة, فيسر ذلك نمو الدول و ترامى أطرافها بعد أن كان الإتساع و البعد عن العاصمة يسهل التمرد و الإنفصال.أما خارجياً, فتطور المواصلات سيسهل على الإمبراطوريات الظهور و الإرتباط بمستعمراتها مهما ترامت أطرافها و بعدت المسافات.

من جهة أخرى كان الإنقلاب الصناعى عاملاً حفازاً لفتح شهية الإستعمار, فالصناعة تبحث دوماً عن مصادر الخامات و أسواق تصريف السلع.

و كان النموذجين المتتاليين تاريخياً للإستعمار ما بين عصرى الكشوف الجغرافية و عصر الإنقلاب الصناعى هما إستعمار المعتدلات ثم الإستعمار المدارى على الترتيب, و ننتهز الفرصة للتمييز بين أنماط الإستعمار ذاته.

فالبنسبة لمرحلة إستعمار المعتدلات, فقد تميزت بإتجاه الأوروبيين لإستعمار عروض معتدلة تقترب فى طبيعة المناخ من مثيله فى بلادهم, و بدأ بإستعمار شرائح ساحلية فى البداية مكونة رؤوس جسور لتعميق الإستعمار, و تميز بكونه إستعماراً سياسياً لجأت فيه كل دولة لتوسعة أراضيها و نفوذها فى العالم الجديد-و القديم أيضاً-مع كونه إستعماراً إستيطانياً إبادياً تم فيه القضاء على أعداد كبيرة من أهل البلاد الأصليين-مثل الهنود الحمر فى أمريكا-و إحلال مستوطنين مستعمرين مكانهم.

و مع الإنقلاب الصناعى, ظهر الإستعمار المدارى, حيث سيطرت أوروبا فى أقل من قرن على معظم أفريقيا و آسيا و مبتلعة معظم العالم العربى أخيراً فى سباق إستعمارى غرضه توسيع المجال الحيوى و الإستراتيجى لكل دولة, و بالطبع إستنزاف ثروات الأمم المغلوبة و جعلها مصدراً للخامات و سوقا لتصريف السلع, و هو نموذج الإستعمار الإستغلالى الإقتصادى, و بهذا صارت دولة كمصر مثلاً مزرعة قطن لانكشاير بعد أن كانت سلة غلال روما.

و فى صفحات الكتاب عرض عالمنا الكبير نماذج تاريخية لتطور هذا الإستعمار فى أفريقيا و آسيا, ثم أبرز حالة إسرائيل كنموذج للإستعمار فى العصر الحديث مقارناً بين صورته و بين أنماط الإستعمار القديم, فهو إستعمار: طائفى بحت, و عنصرى مطلق, و إستعمار سكنى إستيطانى قائم على إبادة أهل البلاد الأصليين, و قد أوجز حمدان هذه النقطة بقوله: (أنها-إسرائيل-تجمع أسوأ ما فى نماذج الإستعمار السكنى, ثم تضيف إليه الأسوأ منه:هى كأستراليا و أمريكا انتظمت قدراً محققاً من إبادة الجنس, و كجنوب أفريقيا تعرف قدراً محققاً من العزل الجنسى, و لكنها تختلف عن الجميع فى أنها طردت كل السكان الأصليين خارجها ليتحولوا إلى لاجئين على حدودها, و إسرائيل بهذا كله أعلى-أم نقول أدنى-مراحل الإستعمار السكنى).

و إسرائيل تجسيم للإستعمار المتعدد الأغراض, فهى مع كل ما سبق تمثل إستعماراً إستراتيجياً و إستعماراً إقتصادياً, و هى إستعمار توسعى ذو مخططات معروفة, و هى إجمالاً إستعمار بالأصالة و الوكالة معاً:بالأصالة لأنها أقيمت لتحقيق رؤية الصهيونية العالمية, و بالوكالة لأنها أقيمت لتحقق إرادة الإستعمار الغربى و تكون له الطليعة و رأس الحربة فى بلادنا كما أوضحنا هذا فى مقال سابق لنا يحمل نفس الإسم.

و نكتفى بهذا القدر من هذا الكتاب الجميل الصعب فى عرضه و تلخيصه لأنه بحق يستحق قراءة و تشرب كل حرف منه, و بإذن الله نكمل عرض بقية الكتاب لاحقاً.

ليست هناك تعليقات: