السبت، 12 يوليو 2025

قراءة نقدية لكتاب: يأجوج ومأجوج ولقاء مع ذى القرنين


بدايةً، وقبل أن أكتب تعقيبي على هذا الكتاب، لابد من أؤكد على أمرين:

أولهما: أني بالقطع لست ضد الاجتهاد، وكما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن للمجتهد أجران إذا أصاب، وأجرٌ إذا أخطأ، وكثيراً ما أصادف اجتهاداً لم يسبق صاحبه إليه أحد، فأطرب لما أقرأ إذا اقتنع عقلي به، ولا أؤاخذه إن خالفته الرأي ولم أقتنع باجتهاده، طالما أن هذا الاجتهاد لا يمس أسساً عقيدية، أو ركناً من أركان الدين.

وثانيهما: أنه ليس لي موقفٌ شخصي تجاه كتابات د.أسامة الشاذلي صاحب هذا الكتاب، على العكس تماماً، فقد أعجبتني كثيراً روايته الأولى (أوراق شمعون المصري)، وكتبت عنها مثنياً على الفكرة وما بذله فيها من مجهود، وصحيح أنني لم تُعجبني روايته الثانية لأسبابٍ بينتها، لكن تظل كتابات الرجل شاهدة عن كاتبٍ متميز.

ولكني في كتابه هذا أجدني مغرداً خارج السرب، فكل التعقيبات التي قرأتها تثني عليه وعلى اجتهاده، ولقد تعرفت على موضوع الكتاب بدايةً من بودكاست مع الكاتب، ولم أر أن اجتهاده قد يكون مقبولاً وصحيحاً إلا في تفسيره لقول الله تعالى (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا)، بأنها تعني أن هذا المكان ليس المعني به هو (مشرق الشمس)، وإنما هو مكانٌ تطلع عليه الشمس ويستمر نورها ولا يغيب، وهو أمرٌ لا يتحقق إلا في الدائرة القطبية، وقد أقر الكاتب بأن هذا الرأي قد ذكره كلٌ من الشيخ الشعراوي ود.مصطفى محمود، عليهما رحمة الله.

أما ما سوى ذلك، فأختلف معه، ولم أقتنع به، وأكتب محل الخلاف بإيجاز، لأن هذا التعقيب ليس بحثاً علمياً، وقد يكون رأيي نفسه خطأ، ولكن هذه قناعتي الحالية، والله بغيبه أعلم.

سأقسم اعتراضي على الكتاب إلى نقاط خلاف منهجية، ثم نقاط خلاف على التطبيق، من واقع بعض تأويلات د.أسامة الشاذلي في كتابه.

فإذا بدأنا بالمآخذ منهجية، فأولها أن الكاتب قد ذكر أن منهجيته هي الاقتصار على آيات القرآن، وما اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم، والإعراض عما لم يرد في الصحيحين من أحاديث، والحقيقة أنه مع علو مرتبة الصحيحين، فإنه بشكلٍ عام – لا في هذه الحالة فقط – فإن الاقتصار على أحاديث الصحيحين والإعراض عما ورد في بقية دواوين السنة، كبقية الكتب الستة أو المسند وخلافه، يحرم المسلم من خيرٍ عظيم، وكذلك الاقتصار على الأخذ بالصحيح، دون النظر للأحاديث التي تدنوه في الرتبة، طالما أن الحديث لم يدخل ضمن دائرة الموضوع بكل تأكيد. والخلاصة، أنه في هذه الحالة، كان ينبغي دراسة حالة كل حديث متعلق بالقضية محل النقاش، ودرجته من الصحة سنداً ومتناَ، لا غض النظر عنها لمجرد أنها لم ترد في الصحيحين.

وثاني المآخذ هو تكرار الكاتب لقوله (أشار بعض العلماء أو المفسرين)، دون أن نجد أمثلة على هؤلاء العلماء أو المفسرين لنرجع لتفاسيرهم، ويُستثنى من ذلك ذكره للشيخ محمد رشيد رضا.

أما المأخذ الثالث، فهو البدء بمقدمات خاطئة، والانطلاق منها بعد ذلك لنتائج أرى بالتبعية أنها خاطئة، وبالتالي تأتي التفسيرات للآيات والأحاديث بها قدر من التأويل والتعسف، وذلك في رأيي الذي لا أُلزم به أحدا. فهو قد وضع الفرضية في صورة الحقيقة الراجحة، ثم عاد ليدلل على ما رآه الحق بتأويل النصوص التي اختارها بشكل انتقائي. ومن تبعات هذا المنهج أنه عندما افترض صواب تفسيره للمعنى اللغوي ليأجوج، وأنها من تأجج النار، ومأجوج، وأنها من الماء شديد الملوحة، بنى نظريته كلها، دون أن يفترض أن تفسيره اللغوي قد يكون جانبه الصواب، وسأضع في نهاية تعقيبي تفسيراً لغوياً آخر يوضح هذا.

أما المأخذ الرابع، فهو العزوف عن التأويل المباشر المتواتر من واقع القراءات للنصوص القرآنية والنبوية لبعض أهم الغيبيات مثل الدجال ويأجوج ومأجوج  - والذين لا نتصورهم إلا في شكل أشخاص أو مخلوقات أياً كانت صورتها -، وتصور وجود تفسيرات رمزية أو مادية لهذه الغيبيات، ففي حالة الدجال يصبح رمزاً للزيف وعلو الباطل، وكأن هذه الأمور لم تحدث على مر العصور وستنتشر فقط في آخر الزمان، وكذلك تصبح يأجوج (الحمم البركانية)، ومأجوج (تسونامي).

وأستطرد هنا قليلاً، فإني أتفهم – بل وأؤمن – أن من إعجاز القرآن، أن بعض الألفاظ القرآنية قد تأتي مستوعبةً لأكثر من معنى، يلائم تغير الأفهام على مر العصور، فالعربي البدوي حين سمع قول الله تعالى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فهمه حسب تصوره للكون وقتها، ونحن الآن في عصرنا نفهمه بشكلٍ أوسع تبعاً لما وصلنا إليه من علمٍ بحركة الأجرام السماوية، لكن في النهاية، اللفظ متعلق بأمرٍ واحد هو حركة الشمس، فهمها السابقون بطريقة وفهمناها نحن بطريقة، وكل هذا فيما يتعلق بالأمور المحسوسة التي نعاينها لكن قد يختلف فهمنا وتفسيرنا لتفاصيلها تبعاً لتطور العلوم والفهم، لكن فيما يتعلق بالغيبيات التي لم نشهدها – ونسأل الله ألا نشهدها – فهل كان من الصعب على العقلية البشرية في العصور الماضية أن تتقبل فكرة أن يأجوج ومأجوج هي كوارث طبيعية؟ لا لم يكن من الصعب بالطبع، وخصوصاً أن الآيات والأحاديث المتعلقة بأشراط الساعة قد حدثتنا عن الزلازل مثلاً،  فكان من الممكن أن يُعبر عن يأجوج بأنها النار، وعن مأجوج بأنها الطوفان، لكن الذِكر المباشر ليأجوج ومأجوج بصيغة الأعلام لا معنى معه إلى التأويل المتعسف لتحويلها لأشكال مادية، وهذا التأويل المتعسف في حد ذاته قد تحول من نتيجة وصل إليها الكاتب ليصبح مقدمة خاطئة قادته لتأويلات أكثر سخفاً للنصوص الواردة في هذا الباب.

والمأخذ الخامس هو جزم الكاتب بكون بكون بعض الأمور الغيبية التي لم نشهدها – سواء حدثت أو لم تحدث بعد – هي بعض الظواهر الطبيعية التي تحدث في عالمنا المعاصر، كتأكيده بأن طوفان نوح كان تسونامي، في حين أن الآيات التي تصف كيف حدث هذا الطوفان تختلف عن المسببات المعروفة لحدوث التسونامي. ويمكن تلخيص هذا المنهج بأنه صورة أخرى من التفسيرات المادية للمعجزات والاكتفاء بالتفسيرات العقلية والتي لا تستقيم مع كون المعجزة هي أمرٌ خارق للعادة أساساً، ومشكلة هذا المنهج أنه عند مد الخط على استقامته ينتهي بإنكار الغيبيات بدعوى الاستحالة العقلية، مثل إنكار د.محمد حسين هيكل لحدوث الإسراء والمعراج بالروح والجسد معاً.

وعلى ذكر الاستحالة العقلية، فقد كان أحد الأمور التي استشكلها الكاتب هو وجود سد يحجب وراءه يأجوج ومأجوج ولا ندري مكانه في عصرنا هذا الذي تستطيع أن ترى فيه كل شبر من الأرض بالأقمار الصناعية، وهو استشكال واهٍ ناتج من النظرة المادية السالف ذكرها، لأن الله الذي خلق هذه الكائنات وقدر لها أن تُحجز وراء سدٍ إلى أن يخرجوا في آخر الزمان، أليس بقادرٍ على أن يخفيهم عن أعيننا إلى أن يحين أوان خروجهم؟!

وننتقل بعد ذلك لعرض اعتراضاتي على التطبيق وعلى بعض النتائج التي وصل لها الكاتب، ونبدأ بالنقطة التي قد تكون محل الاتفاق، وهي نقطة مطلع الشمس التي ذكرتها في بداية كلامي، وبعد أن فصلها الكاتب ورأى أن القوم الذين لم يجعل الله لهم من دون الشمس سترا هم قبائل الاسكيمو المنتشرين في الدائرة القطبية الشمالية، تحدث عنهم بعد ذلك على اعتبار أنهم هم ذاتهم القوم الذين لا يفقهون قولا، ودلل على ذلك بأن أحد تفسيرات اسم (الاسكيمو) هو أنهم (الشعب ذو اللغة الغريبة) وأن أقرب تشبيه لهذا هو أنهم (لا يفقهون قولا).

لكننا عندما نقرأ الآيات نجدها تقول عن ذي القرنين: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا)

ونفهم منها أن ذا القرنين الذي مكن الله له في الأرض، أتبع سببا، فوصل إلى مغرب الشمس، ثم أتبع سببا، و(ثم) حرف عطف يفيد الترتيب مع التراخي، أي أن الحدث الثاني يحدث بعد الأول بفترة وليس مباشرةً، وبذلك بعد فترة من مغادرته مغرب الشمس وصل إلى مطلع الشمس، ثم أتبع سببا مرةً أخرى، و(ثم) هنا تجعلنا نختلف مع جزم الكاتب بأن من قابلهم ذو القرنين في مطلع الشمس هم ذاتهم القوم الذين لا يفقهون قولا وأنهم كلهم يعيشون في الدائرة القطبية الشمالية، اللهم إلا لو كان القوم الأولون في أيسلندا مثلاً والآخرين في روسيا، وهذا كله مبني على أن مطلع الشمس هو منطقة الدائرة القطبية أصلاً، والخلاصة أن الأولين ليسوا الآخرين، والله أعلم. والغريب أن الكاتب في الجزء الخاص بذي القرنين عاد ليذكر أن ذي القرنين قد قابل القوم الذين لا يفقهون قولاً في مكانٍ يختلف عن الذي وصله ورأى فيه القوم الذين تطلع عليهم الشمس، وهو ما يجعلني أظن أن البحثين لم يُكتبا في نفس الفترة الزمنية.

ويقول الكاتب: "وعلى هذا، فإن محنة يأجوج ومأجوج الكبرى، التي ستقع في آخر الزمان، ما هي إلا كارثة كونية عظيمة سينفجر فيها عدد كبير من البراكين في آن واحد، وسيصحبها موجات عاتية من فيضانات البحار والمحيطات والمعروفة باسم تسونامي. فتهبط الحمم من فوق قمم الجبال على القرى والمدن، وتغرق الأراضي والبلدان بالفيضانات، وتختفي الحياة بأشكالها على جزء كبير من كوكب الأرض، إلا من شاء الله له أن ينجو من هذه الكارثة. جعلنا الله وإياكم ممن لا يدركون هذه المحنة، أو من الناجين منها إذا أدركناها."

ونختلف مع تفسيره ليأجوج ومأجوج، وحديثه عن البراكين والتسونامي، فأقول أن العلاقة بينهما ليست علاقة معية، وإنما سببية، فالتسونامي سينتج من زلزال أو بركان كبير تحت المحيط، ولو حدث البركان على اليابسة فليس من الضرورة أن تجد هذا التسونامي، وبالتالي ستجد في الحادثة الواحدة إما هذا وإما ذاك، لا كلاهما معاً، ولذلك ليس من المنطقي أن يشكو القوم (الذين لا يفقهون قولاً) من السبب الخفي والنتيجة الظاهرة، بل الشكوى تكون من النتيجة فقط، وذلك إذا اعتنقنا تفسير الكاتب الذي ينفي كون يأجوج ومأجوج كائنات أو بشر وجعلهم ظواهر طبيعية.

ويقول الكاتب في موصعٍ آخر: "وحريٌ بمثل هاتين المحنتين أن يفزع لهما رسول الله فيقول: «ويل للعرب من شر قد اقترب»، وحريٌ بهما أن يصفهما الله لعيسى بن مريم فيقول: «إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم». وحريٌ بهما أن يوصفا بأنهما «مفسدون في الأرض» فأي شيء أكبر إهلاكًا للزرع والنسل من هذين الشيئين"، ثم يقول: "ولو حاولنا أن نفسر معاني الكلمات السابقة على أن يأجوج ومأجوج من البشر لوجدناها غير متسقة، فضلا عن كونها تتنافى مع المنطق والعقل. فكيف نتخيل قومًا يهبطون من فوق قمم الجبال قبل قيام الساعة ليثيروا الرعب في نفوس الناس، وأن نعتبر هذه إحدى المحن الكبرى التي سيتعرض لها البشر. فشتان بين رؤية الحمم البركانية تحملها الفيضانات العاتية، وهي تهبط مسرعة نحو القرى في مشهد تشخص له الأبصار، وتذهل منه النفوس، وبين رؤية شعوبٍ محاربة مهما كانت قوتهم."

ولا أدري لماذا من الصعب تقبل أن يكون يأجوج ومأجوج بشراً مفسدون في الأرض، وهذا المصطلح ليس من المعهود استخدامه في الحديث عن الكوارث الطبيعية التي تحدث بقدر الله، ولماذا نتغاضى عن المعنى المباشر في وصف الله تعالى ليأجوج ومأجوج بأنهم (عباد لا يًدان لأحد بقتالهم)، ونعتبر أنهما البراكين والتسونامي بالاعتبار المجازي بأنها أيضاً من عباد الله؟!، وهب أننا أخذنا بهذا التفسير، فألا يكون من الأولى أن يكون الفعل المستخدم هو مواجهتهم، أو مجابهتهم، أو مدافعتهم، أو صدهم، بدلاً من أن يقول (قتالهم)، فكيف يقاتل الإنسان بركاناً أو طوفاناً أصلاً؟!

ثم يتحدث عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقولُ اللَّهُ: يا آدَمُ، فيَقولُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ والخَيْرُ في يَدَيْكَ، قالَ: يقولُ: أخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قالَ: وما بَعْثُ النَّارِ؟ قالَ: مِن كُلِّ ألْفٍ تِسْعَ مِئَةٍ وتِسْعَةً وتِسْعِينَ، فَذاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وما هُمْ بسَكْرَى ولَكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) فاشْتَدَّ ذلكَ عليهم فقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أيُّنا ذلكَ الرَّجُلُ؟ قالَ: أبْشِرُوا، فإنَّ مِن يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ ألْفًا ومِنكُم رَجُلٌ"، فيقول الكاتب: "«وبعث النار» كل ما يحيها ويشعلها ويؤججها، فيكون المقصود في رواية أبي سعيد كل ما يشعل النار ويؤججها والقرآن الكريم يشير إلى وجود أشياء من مؤججات النار غير البشر، ففيها الحجارة يقول تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، وفيها الأصنام {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، وفيها كذلك المهل، يقول تعالى: {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} والمهل من أسماء الصهارة، وقيل هو النحاس المذاب والقطران، وقيل اسم جامع لما ذاب من الحديد والفضة والنحاس ونحوه. وفيها الحميم يقول تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}، وقيل الحميم الماء بالغ الحرارة. وتتشابه هذه المكونات مع صفات يأجوج ومأجوج التي ذكرناها في تفسيرنا، وعلى هذا فهما من بعث النار، أو مما يعمل على تأجيجها، والله تعالى أعلم."، وهنا نسأل الكاتب، وهل الحمم التي هي صخور ومعادن مذابة إلى أن تحولت إلى نار في ذاتها ستعمل على تأجيج النار؟ وإذا ما تجاوزنا ذلك، فهل يأجوج الذي فسرته بأنه ماء، سيعمل بدوره على تأجيج النار؟!!

ليس هذا إلا فقرة أخرى من التناقض والخلط الذي وقع فيه الكاتب بسبب التفسير المتعسف للنصوص.

وعند حديثه عن حديث أم المؤمنين زينب رضي الله عنها " أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يقولُ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ، ومأْجُوجَ مِثْلُ هذا، وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ، وبِالَّتي تَلِيهَا فَقَالَتْ زَيْنَبُ فَقُلتُ يا رَسولَ اللَّهِ أنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ"، قال الكاتب: " قوله: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ»، تحمل أيضًا إعجازًا لفظيًا من حيث دلالة المعنى. فقد يفهم منها «نعم إذا كثر الخبث» أي إذا كثرت الأخلاق الرديئة والفسق والفجور، فسيحل الهلاك على الجميع الصالح منهم والطالح وهذا هو المعنى الأقرب الذي ذكره شراح الحديث، ولكن هناك معنى آخر لكلمة «الخبث» وهو الحمم البركانية، كما ذكرنا، ويكون المقصود حينئذ: نعم إذا كثرت الحمم، فسيهلك الجميع الصالح منهم والطالح."، وهنا نود أن نسأل الكاتب: وهل معنى (الخَبَث) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بهذا المفهوم الذي ذكرته؟!! بالقطع لا، ولكن مرة أخرى نجد عزوفاً عن المعنى المباشر واتجاهاً إلى معنى شديد التكلف والغرابة!

ثم يسعى الكاتب لتفسير سبب اختصاص ذكر العرب في هذا الحديث، رغم أن ردم يأجوج ومأجوج في الدائرة القطبية الشمالية حسب استنتاجه الأول، ويفسر ذلك قائلاً: "وذكرنا أن يأجوج ومأجوج في آخر الزمان حادثة عامة لا تقتصر على مكان واحد، وستحدث في أماكن متعددة، ولن تقتصر على منطقة القطب التي وقعت فيها الحادثة التاريخية لذي القرنين وهذا الحديث يتحدث عن آخر الزمان، وعلى هذا فإن الرسول اختص العرب بيأجوج ومأجوج المستقبلية التي ستهدد الجزيرة العربية والسؤال هل هناك بركان مخيف بالقرب من جزيرة العرب؟ والإجابة نعم وهي براكين اليمن، فمن المعروف أن اليمن به عدد من الجبال البركانية، بالإضافة إلى أن بركان عدن، يُعد أحد البراكين العملاقة ويتفق هذا مع الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أشراط الساعة: «وَآخِرُ ذلكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ اليَمَنِ، تَطْرُدُ النَّاسَ إلى مَحْشَرِهِمْ»"، ومع تسليمنا باحتمالية أن يكون المقصود بهذه النار بركاناً لعدم التعارض العقلي ولا اللغوي بين الأمرين، فما يخرج من البركان يُعد من قبيل النار صفةً وتأثيراً، وإن كان ذلك لا يمنع أن تخرج نارٌ صافية بقدرة الله، فإن الكاتب هنا لا يفسر لنا لم تحدث الرسول صلى الله عليه وسلم عن (ردم يأجوج ومأجوج)، وهل لهذا الردم من وجودٍ إلا في الموضع الذي أنشأه به ذو القرنين؟!

ثم يذكر حديث حذيفة بن أسيد الغفاري قال: "اطلع النبي ﷺ علينا ونحن نتذاكر. فقال: «ما تذاكرون؟» قالوا: «نذكر الساعة». قال: «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات». فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم ﷺ، ويأجوج ومأجوج. وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب. وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم»"، فيعلق الكاتب هنا على الحديث بقوله أننا سنلاحظ أن أغلب أشراط الساعة المذكورة هنا هي كوارث طبيعية، فيدلل بذلك على صحة ما ذهب إليه، وهنا ناقض الكاتب نفسه أشد التناقض، فإن كانت يأجوج ومأجوج هي كوارث طبيعية، فلم ذُكرت كأعلام وليس بصفتها كنيران وطوفان مثلاً؟، وإذا كان الكاتب في تفسيره للنار التي تخرج من اليمن في الحديث السابق بأنها بدورها (يأجوج)، فلم ذُكرت في هذا الحديث بجوار يأجوج ومأجوج؟! أليس هذا بدليلٍ على أنها شيء مختلف تماماً، وإلا كان ذكرها هنا من قبيل التكرار واللغو؟!

أما حديثه عن الديدان التي ستأكل أعناق يأجوج ومأجوج بعد موتهم وتفسيره بأنها ديدان الأرض وأنها لازمة لاستعادة خصوبة الأرض بعد ما سيحدث لها من بوارٍ بسبب الكوارث الطبيعية الممثلة في يأجوج ومأجوج، فمرةً أخرى، لا أجد هذا إلا تفسيراً سخيفاً متكلفاً للنص يحمله فوق ما يحتمل، وهو من قبيل محاولة التوفيق بين المقدمة الخاطئة التي وصل إليها، وبين الأحاديث الصحيحة في هذا الباب، وبالتالي نجد مثل هذه التأويلات المتكلفة، أو عباراتٍ بها (لفة طويلة) لمجرد التدليل على النتيجة بدون سندٍ قوي ترتاح له النفس والعقل.

ويختم الكاتب بحثه عن يأجوج ومأجوج بمحصلة نهائية باطلة – لأن ما بني على باطل فهو باطل – وتتناقض بدورها مع ما أورده سابقاً من نصوص، فيقول: "ونحن نرى من خلال التأويل الذي وضعناه، أن المحنة الكبرى التي سيشهدها العالم، من تغير مناخي، وكوارث طبيعية، والتي أخبرتنا عنها الديانات، تستدعي التفكير في طرق الاستعداد لها، وانتهاج سبل العلم لمحاولة الحد من خسائرها. وقد يتساءل أحدنا، وهل يمكن أن يكون العلم مخرجًا من هذه المحنة؟ والإجابة القاطعة هي نعم، خصوصًا إذا كانت قصة ذي القرنين في القرآن تُعلي من شأن العلم والعلماء، وأن هناك شخصًا اسمه ذو القرنين تحلى بالمعرفة ليتصدى لها قديمًا."، ونرد عليه بسؤال: وماذا عن نص الحديث «إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم»، فإذا كان الله سبحانه وتعالى يخبرنا بهذا، فهل لأي منا القدرة على أن يتصدى لهذه المحنة أو يقلل من خسائرها على حد قولك؟ أيمكن هذا ونحن لا نعلم متى وأين تقع أشراط الساعة؟ وحتى لو علمت، فما الذي يمكن للإنسان عمله لكي يتفادى الأثر المدمر للبراكين والتسونامي؟ هل سيبني سداً كسد ذي القرنين حول كل مكان محتمل أن ينفجر منه بركان؟ قد تصلح بعض الاجراءات للحد من أثر أي ظاهرة طبيبعية ذات حجم محدود، لكن مهما فعل الإنسان، فلن يستطيع أن يواجه البراكين العملاقة التي ذكرها الكاتب نفسه في كتابه وأوضح أنها قد تؤدي مع تبعاتها لمحو الحياة من على الأرض!

بقي في هذه الجزئية الخاصة بيأجوج ومأجوج، أن نستأنس بتحليلٍ لغويٍ آخر لهذه الألفاظ، وهو تحليل الأستاذ محمود رؤوف أبو سعدة في الجزء الثاني من كتابه الجميل (من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن)، والذي يدلل فيه على اجتهاده الذي أوصله إلى أن العَلَم الأعجمي يأتي في موضعه في القرآن في سياقٍ يُفسر معناه، وقد كتبت عنه مراجعة مستقلة من قبل، وإيرادي لرأيه دليلٌ على تقديري للاجتهاد طالما كان ذو منهجٍ منضبط، وعموماً يقول الرجل في كتابه:

"أما " يأجوج " و " مأجوج " اللذان في القرآن ، فهما إسمان عربيان أصيلان ، تشتقهما من الجذر العربي " أجج " : "يأجوج" على زنة " يَفْعُول " من أج / يَوْج /أجاً ، وأجيجاً وأجة أيضا ، ومن معانيه في العربية إلى الآن الإهاجة والاشتداد والاستثارة ، والأجاج يعنى اللاذع الممض مرارة أو ملوحة ، ومن معانى الأجيج أيضا الاضطراب والاختلاط . أما "مأجوج " فهى على زنة "مَفْعُول" من " أج " هذه نَفْسها وكان " أ " يَصلح أيضا مُتعدِّياً بنفسه، وكأن معنى "يأجوج ومأجوج" هو الذين يوج بعضهم بعضاً. نعم . يأجوج ومأجوج من العربية الأولى ، عربية آدم ، لا تستطيع أن تحدد زمان الإرتاج عليهم ، كما لا تستطيع تحديد موقعه من هذه الأرض التي نعيش عليها ، ولا تستطيع التنبؤ بزمن خُروجهم ، لاستئثاره عز وجل بعلم الساعة ، لا يجلبها لوقتها إلا هو

الذي تستطيعه هو فحسب تفسير " يأجوج ومأجوج " من القرآن بالقرآن،.مقصدنا الأول من الحديث عن يأجوج ومأجوج في هذا الكتاب الذي نكتب :

فسرت " يأجوج ومأجوج " في القرآن بالتعريب : الذين يَؤُجُ بعضهم بعضا . ويَسْتَفرُّ بعضُهم بعضا ، ويَمُوج بعضُهم فى بعض ، كما قال عز وجل فيهم :( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ) ( الكهف : (۹۹)، والموج على المصدرية من ماج / يَمُوجُ / موجا ، هو من الاختلاط والاضطراب، فهو تفسير بالتصوير ، كما قال في موضع آخر : { وَهُمْ من كُلِّ حدب يَنْسلون } (الأنبياء ، ٩٦) كناية عن مدى الاختلاط والاضطراب . وفى الاختلاط والاضطراب فساد وإفساد ، ومن هذا قول الذين استعانوا ذا القرنين عليهم : { إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض }"، وهذا التفسير قد يكون أكثر منطقية مما ذهب إليه د.أسامة الشاذلي، علماً بأن كتاب أبو سعدة نفسه لا يخلو بدوره من بعض التكلف والتعسف هنا وهناك، لكن الكمال لله وحده.

أما القسم الثاني من الكتاب، فيتعلق بمحاولة استنتاج شخصية ذي القرنين، وذهب الكاتب إلى كونه رحالة إغريقي اسمه (بيثياس المارسيلي)، وفي هذا الاجتهاد لا نملك أن نصدق أو نكذب، ولكني بالاستنتاج العقلي الشخصي لا أميل للاقتناع باجتهاده هنا، لأن تصرف ذي القرنين مع القوم الذين وجدهم عند العين الحمئة وتخيير المولى عز وجل له بين أن يُعذبهم أو يتخذ فيهم حُسنا، ينبيء عن رجلٍ ذو شوكة وقوة، لا مجرد مستكشف، والتبرير بما جرى بين كولومبس وأهل أمريكا الأصليين به مقارنة بعيدة للفارق التكنولوجي في الحالة الثانية، بخلاف الحالة الأولى، وكذلك كون الأحداث جرت في القرن الثالث قبل الميلاد وفي مسرحٍ نقطة الانطلاق فيه بعيدة عن منطقتنا يجعلني أستبعد أن يكون بيثياس هذا معروفاً لدى اليهود لدرجة أن يمتحنوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أغلم.

وإلى هنا أنهي تعقيبي على هذا الكتاب الذي أعتبره تطبيقاً عملياً على أحدى أشهر المغالطات المنطقية وهي مغالطة المصادرة على المطلوب، وهي حجة دائرية يفترض فيها الكاتب النتيجة التي يريد الوصول إليها كمقدمة ودليل يبني عليه حجته، وبذلك حاول تطويع النصوص لهذه النتيجة، وما كنت أحب أن أضيع كل هذا الوقت في كتابة هذا التعقيب على قضيةٍ ليست من الأولويات، وعلى معرفةٍ لا ينبغي عليها فرقٌ في العمل، ولقد طال هذا التعقيب أكثر مما كنت أبغي وأتوقع لا لشيءٍ إلا لأني قد استفزني المنهج الذي سار عليه الكاتب، والذي كنا لنحتفظ له بالتقدير على كل حالٍ لما بذل في بحثه من جهدٍ لو لم يكن بحثه حافلاً بهذه الأخطاء المنهجية. ويبقى أن نؤكد على حقيقة أنه ليس بالضرورة أن تكون الرؤية التقليدية جموداً، ولا أن تكون الرؤية الجديدة اجتهاداً وتنويراً، ولو كان الاجتهاد مبنياً على أسسٍ فأنعم به، والله بغيبه أعلم.

الخميس، 10 يوليو 2025

في خدمة الأمن السياسي - مذكرات اللواء حسن طلعت


 تتناول هذه المذكرات المسيرة المهنية للواء حسن طلعت ما بين مايو 1939، وحتى إقالته في مايو 1971، في مسيرة تنقل فيها في محطات مختلفة داخل جهاز الأمن، وكان له دورٌ أساسي في تأسيس جهاز المباحث العامة – الذي عُرف لاحقاً بأمن الدولة – ووصل إلى منصب مدير الجهاز، إلى أن أقاله السادات واعتقله على خلفية ما سماه ثورة التصحيح، كما كان طلعت هو صاحب فكرة إنشاء قوات الأمن المركزي.

بدأ طلعت كتابه بمقدمة نظرية يشرح فيها مفهوم الأمن السياسي وأهميته وصوره عبر التاريخ، ثم بدأ في عرض مسيرته المهنية، منذ التحاقه بكلية الشرطة، ثم تخرجه وعمله في أماكن متعددة مثل الجوازات والتموين، ثم انتقاله للعمل بالقلم السياسي، الذي تحول بعد ذلك إلى المباحث العامة.

تحدث طلعت عن الأوضاع الوظيفية الصعبة لضباط الشرطة والتي دفعتهم لتنظيم إضراب عام، كما تناول طلعت في حديثه ذكر الاحتكاكات العديدة مع المحتل الإنجليزي، وخصوصاً خلال الفترة التي خدم فيها طلعت في الإسماعيلية، وتحدث عن بعض الأدوار الوطنية التي شارك فيها، مثل تنبيه الفدائيين لحملة تفتيشية يعد لها الإنجليز، فتمكنوا من نقل ذخائرهم بعيداً عن أعين المحتل، كما تحدث عن مشاركته في تشجيع العمال المصريين على ترك الخدمة في معسكرات الإنجليز، وترتب على ذلك إلقاء الإنجليز القبض عليهم وإبعادهم له عن الإسماعيلية. كما تحدث طلعت أيضاً عن تغير مشاعر المصريين عموماً ومعهم الضباط تجاه الملك، وحنقهم ونقمتهم عليه، وتفكيره هو وعدد من زملائه في تكوين تنظيم من ضباط الشرطة لقلب نظام الحكم، وتفكيرهم في التواصل مع ضباط الجيش، وأنهم كانوا على وشك الانكشاف لأن الضابط الذي كانوا سيتواصلون معه كان أحد أعضاء الحرس الحديدي.

تحدث عن أحداث 25 يناير في الاسماعيلية والتي تلاها حريق القاهرة يوم 26، ووصف المظاهرات وتحدث عن قيادة الضباط لبعضها، وتراخي الشرطة في التصدي للمتنظاهرين، وعرض بعض التفاصيل التي توحي بوجود بعض العناصر التي ساعدت على زيادة الإثارة وتأجيج المشاعر. وذكر أنه بعد هذه الأحداث، بدى اهتمام الأمريكان بالسيطرة على الموقف الداخلي بالبلاد وحماية عرش الملك، فأرسلوا ضابطاً أعطى للضباط المصريين محاضرات في كيفية السيطرة على الجماهير الثائرة، ورتبوا لابتعاث بعض الضباط لأمريكا للندرب عملياً على طرق السيطرة على الشغب.

وصف طلعت أحداث ليلة ثورة 23 يوليو، وفرحته واستبشاره بها، وشغلته الاضطرابات التي تلت الثورة وفي مقدمتها إضراب عمال كفر الدوار وجعلته يفكر في (وجوب إنشاء جهاز جديد بهيئة الشرطة يؤمن بالثورة وبمبادئها، على أن ينتشر أفراد هذا الجهاز في جميع أنحاء البلاد لملاحظة الحالة والسيطرة على تطوراتها قبل أن تصل إلى حد الصدام بين الجيش والعمال)، فاقترح الفكرة على ياور اللواء محمد نجيب، واقترح كذلك اسم المرشح لرئاسة الجهاز المقترح، فأخذوا بنصيحته، وصدر قرار بإنشاء إدارة المباحث العامة لتحل محل القسم المخصوص بالوزارة والأقلام السياسية بالمحافظات، ونُقل طلعت للعمل بالإدارة الجديدة.

يتبدى بالكتاب إيمان طلعت الشديد بعبد الناصر، وولائه وإنصافه له على طول الخط، لدرجة التصريح بأن عبد الناصر كان لا يتأخر عن تلبية احتياجات محمد نجيب طوال فترة تحديد إقامته، وأن محمد نجيب هو نفسه السبب في الحالة المزرية التي كان عليها محل إقامته بفيلا زينب الوكيل وما حدث لها من إهمال!، كما انحاز طلعت بمشاعره كليةً لعبد الناصر أثناء أزمة مارس 54 الشهيرة، بل وأعرب عن فرحه عند سماعه عن حشد رجال عبد الناصر لعمال النقل العام وتشجيعهم على الإضراب وتمنى لهم التوفيق في ذلك!، وهذه مجرد أمثلة فقط، فعبد الناصر يظهر طوال هذه المذكرات في صورة القديس، والكثير من الاجراءات التعسفية والمقيدة للحريات أو حتى الاجراءات القمعية إنا يتم تهوينها والتقليل من حجمها أو تجاهل ذكرها تماماً، فالحراسات وتصفية الاقطاع لا يصدر فيها قرار إلا بعد دراسة من لجانٍ خاصة، ويذكر أنه من الطبيعي حدوث (بعض) الأخطاء، أما المعتقلين السياسيين، فيذكر أنه كان يتم الافراج عنهم تباعاً بعد دراسة حالاتهم، وتجاهل ذكر ما حدث للإخوان والشيوعيين في السجون، حتى في كارثة مثل هزيمة يونيو، فإن من يتحمل مسئوليتها هم القادة العسكريين الذين حذرهم عبد الناصر مسبقاً بأن الحرب ستقع يوم 5 يونيو، لا عبد الناصر الذي على الأقل يتحمل المسئولية السياسية عن وصول الأوضاع إلى حافة المعركة دون استعداد كاف، وعلى النقيض من ذلك، ينال السادات وعهده نصيبه من اللمز والانتقاد.

وقد كنت أتوقع أن أجد الكثير من التفاصيل لفترة عمله خلال العهد الناصري، لكني وجدت أن ما ذكره من تفاصيل لسنوات خدمته برتبته الصغيرة في العهد الملكي فاق ما ذكره من تفاصيل وهو يترقى وصولاً لرتبة اللواء في العهد الناصري، ولا نجد من التفاصيل الجنائية سوى أمثلة قليلة جداً أهمها دوره في القبض على (السفاح) الذي استوحى محفوظ من قصته رواية (اللص والكلاب)، وقد تحدث طلعت عن قضية تنظيم 65 والتي قُدمت حينها كنجاح من المباحث الجنائية العسكرية مقابل عدم يقظة من المباحث العامة، في حين يدافع طلعت عن المباحث العامة ذاكراً أن مصادر المباحث كانت قد وضعت يدها بالفعل على أول الخيوط للتنظيم، ولكن المصادر الأخرى تحدثنا عن وجود تنظيم بالفعل، لكن تنفي أن هذا التنظيم هدف لاغتيال عبد الناصر من الأساس. وعلى العموم، فإن طلعت في مذكراته يتناول الإخوان بالانتقادات منذ معرفته بهم من قبل الثورة، وينعى عليهم دورهم في اغتيال عدد من الساسة كأحمد ماهر والنقراشي، ويُعرب عن اختلافه الفكري معهم، وهو أمرٌ متوقع ومتفهم من ضابط أمن وصل لهذا المنصب.

وينفرد طلعت بذكر تفاصيل جنازة عبد الناصر لدوره في تأمينها، كما يتحدث في مواضع مختلفة عن تأمين زيارات عبد الناصر الخارجية، أو تأمين الوفود العربية والأجنبية الزائرة خلال المؤتمرات، كما يخبرنا بأوامره – التي أصدرها على مسئوليته الشخصية -  لقوات الشرطة بعدم الاحتكاك بالمظاهرات الشعبية في 9 و 10 يونيو، كما ينفرد بالحديث عن كواليس وصول جثمان فاروق لمصر واختياره لمكان الدفن الأول بجوار إبراهيم باشا بحضور الأميرتين فوزية وفائقة، قبل أن ينقل الجثمان في عهد السادات ليُدفن في جامع الرفاعي، لكن طلعت مع ذلك لا يعطينا تفاصيل أكثر عن بعض اللحظات المهمة، مثل تصرف قوات الشرطة مع مظاهرات الطلبة في 68 عقب صدور أحكام ضباط الطيران، والتي تجمع المصادر على أنها ووجهت بقسوة، وهو ما لا يظهر في شهادة طلعت، بل على العكس تماماً، يدعي إصدار الأوامر بالتعامل مع المظاهرات باللين وعدم اللجوء للعنف، وأن شعراوي جمعة كان سيقدم استقالته بسبب مخالفة مأمور حلوان للتعليمات وإطلاقه أعيرة نارية في الهواء أصابت أحد المتظاهرين وقتلته، وكلها تصريحات أشبه بتصريحات المركز القومي لحقوق الإنسان!

ومن الشخصيات العديدة التي ذكرها طلعت في مذكراته، نتوقف عند شخصية حسن التهامي، وقد تواترت الشهادات المختلفة وأجمعت على غرابة أطواره وأفكاره وخصوصاً في عهد السادات، ويذكر طلعت بعض الأقوال والمواقف التي صدرت من التهامي وجعلت طلعت يتلقى آراؤه بحذر وحيطة، إلى أن أخبره التهامي مرة بأنه إذا أقدم على أي عمل ولو كان إزهاق روح إنسان، فإنه لا يفعله بأمره وإنما بأمر الله، فسأله طلعت عما إذا كان هو سيدنا الخضر، فأجابه التهامي بالإيجاب، وعندها أدرك طلعت أنه وصل مع ذلك الرجل لنهاية المطاف، وأنه لا ينبغي أن يأخذ أي حديث له مأخذ الجد. وجدير بالذكر أن التهامي كان اختيار السادات ليكون أول من يتحاور مع العدو الإسرائيلي كقناة خلفية قبل المضي في عملية السلام، وكان لقائه مع موشى ديان!

وفي حديثه عن مرحلة هزيمة 67 ثم حرب الاستنزاف، استوقفني موقفان أحببت أن أنقلهما لأنهما يحملان بعض الكرامات من الله عز وجل ولطفه بنا، فقد ذكر أن (إادارة الشؤون العامة بالقوات المسلحة كانت قد وزعت على الضباط والجنود آية الكرسي مكتوبة على بطاقات صغيرة ليحتفظوا بها في جيوبهم تبركاً وتيمناً، وعقب انتهاء احدى الغارات وكانت غارة عنيفة خرج ضابط مصري ومعه الخبير الروسي من المخبأ، فطلب منه الضابط الروسي أن يعطيه بطاقة مشابهة للبطاقة التي يحملها. وعندما سأله الضابط المصري عن السبب وقد أخذه العجب أجاب الروسي بانه قد أصبح مقتنعاً بأن المصريين ليسوا الذين يتولون الدفاع عن بلادهم بل لا بد أن هناك قوة أخرى خفية أكبر وأعظم تدافع عن مصر، وعلل ذلك قائلا أنه كان يخرج من المخبأ عقب كل غارة وهو يتوقع رؤية قدراً هائلاً من التدمير في المعدات ومن الخسائر في الأرواح ولكن لدهشته كان يرى أن معظم القنابل قد سقطت على أماكن خالية وأن المعدات التي تدمر لا تكاد تذكر وأن الاصابات البشرية طفيفة ولا تعادل اطلاقاً ضراوة الغارات وحجم المتفجرات التي تلقيها الطائرات ولذلك فإنه قرر الاحتفاظ بواحدة من هذه البطاقات!)

أما الموقف الثاني، فقد ذكر أن (العدو كان يركز غاراته لتدمير الأهداف الحيوية كالمصانع ومحطات الكهرباء والكبارى والسدود، ولخشيته من الانقضاض على السدود والقناطر مباشرة لكثافة الدفاع الجوي عنها، اخترع العدو طريقة جديدة لمهاجمتها وذلك بالقاء ألغام عائمة في مجرى النيل أعلى القناطر ليجرفها التيار فتصطدم بها مدمرة اياها لتغرق الوادي بما فيه من سكان وزروع .

وفي احدى الليالي أُبلغ طلعت بحدوث انفجارات كبيرة في مجرى النيل أعلى قناطر نجع حمادي، وبالبحث اتضح أن ألغاماً اسرائيلية عائمة قد اصطدمت بكتلة من نبات ورد النيل الذي كان يطفو على وجه الماء فانفجرت، وحالت رعاية الله وعنايته دون اتمام الجريمة الاسرائيلية الآثمة باغراق البلاد وتدمير القناطر. وأحال الله ورد النيل من نقمة تعوق الملاحة وتمتص كميات كبيرة من المياه الى نعمة تحمي البلاد والعباد!).

وعند الحديث عن المرحلة الساداتية، يذكر ما لمسه من تغير في السياسات والخروج عما رآه خط عبد الناصر وامتعاضه من ذلك، ثم ينتقل بنا لأحداث مايو 71، فيبدأ بذكر مكالمة من شعراوي جمعة له يوم 13 مايو يخبره فيها عن اجتماعات للسادات بعدد من المسئولين وأنه الآن مجتمع بمحافظ الاسكندرية ممدوح سالم، وأنه – شعراوي- ضاق ذرعاً بهذه السياسية وأنه سيقدم استقالته، وطلب من طلعت إعدام تسجيلات المراقبة التليفونية، ويذكر طلعت أن السادات في نفس اليوم كان قد أصدر قراراً بإلغاء المراقبة التليفونية أيضاً، وعلى الرغم من ذلك، اُعتقل طلعت واُتهم طلعت بأنه تعمد إعدام التسجيلات حتى لا تصل لرئيس الجمهورية فيجد فيها ما يدين (المتآمرين) عليه، في حين يذكر طلعت أن نسخة من التسجيلات كانت تُرسل أصلاً إلى رئاسة الجمهورية منذ عهد عبد الناصر واستمراراً في عهد السادات، وبهذا فإن هذا الاتهام لا محل له، وهذه المعلومة ينفرد بها طلعت، لكن على كل حال، لم يطل المقام بطلعت في السجن فبُريء وأخرج منه في أغسطس 71.

ومع تفهمنا لكونه موتوراً من السادات لما فعله معه، فإنه حينما ينتقد السادات ويلمزه يشتط في ذلك أحياناً بصور قد تدعو للسخرية، فمثلاً عندما تحدث عن الاستفتاء على اختيار السادات للرئاسة، قال: " ولما كانت الاستفتاءات تسمح بأن يدلى الناخب بصوته فى أى مركز انتخابي ولا يلزم أن يكون ذلك هو الدائرة المقيد بجداول انتخابها، فقد كانت إخطارات بعض اللجان الانتخابية تصيبنا بالذهول (!!) وخرجت بنتيجة هى أن هذه الاستفتاءات ليست الوسيلة الأمثل لاستطلاع اتجاه الشعب ورغباته الحقيقية."، وهنا لا نملك إلا أن نضحك ونحن نصدر بعض الأصوات الاعتراضية، ونسأله: وماذا عن الاستفتاءات التي جرت في عهد عبد الناصر؟!

وعلى كلٍ، فإن لهذه المذكرات أهميتها البالغة نظراُ لموقع صاحبها ورتبته ودوره المؤسس في هيكلة الداخلية بصورتها الحديثة بعد ثورة 52، وعلى ما يتبدى من روح صاحبها من هدوءٍ وإتزانٍ ووطنية وقدرٍ عميق من التدين، فإننا في الوقت ذاته لن نكون مخطئين إذا قلنا بأنه أحد الآباء المؤسسين والمربين للأجيال التي تلته من الشرطة، وأن قدراً كبيراً مما أرساه –أو شارك في إرسائه – من نظم، هي الأسس التي تسير عليها الداخلية حتى اليوم.

السبت، 5 يوليو 2025

مذكرات مجدي يعقوب: جراح خارج السرب

 


سيرة غير ذاتية تجتمع فيها مفاهيم المثابرة، و(المعافرة)، والاجتهاد، والمبادرة، والجرأة، والانسانية، ممثلة في شخصية مؤثرة لا تزال تعيش في عالمنا، وجعلها الله سبباً في إنقاذ حياة الآلاف.

عرضت هذه السيرة أهم محطات حياة مجدي يعقوب من خلال الحديث المباشر معه، أو مع المحيطين به، وبدأ معه منذ نشأته إلى تخرجه من كلية طب القاهرة وتكريمه من عبد الناصر، ثم قراره السفر لبريطانيا للعمل واكتساب الخبرة العملية، وعن سبب رحيله عن مصر، ، قال يعقوب: "لقد كنَّا ندرك أن في مصر مَن ينعمون بالكرامة، ومَن حِيل بينهم وبين الكرامة، لكن عبد الناصر حاول أن يتيح التعليم للجميع، فتهاوت من جرَّاء ذلك المعايير، وإذا بـحَلِّ عبد الناصر يُجهض التميز"، ثم يضيف: "كان تعليم الطب في القاهرة رائعًا، فقوام كل دفعة من الطلبة كان ستين طالبًا فقط ولكن عبد الناصر قال إن التعليم الجامعي حق للجميع، وفتح البوابات بغتة على مصاريعها فتدفقت الجموع، وإذا بنا بعد أن كنَّا ستين طالبًا نصبح ألفًا، وإذا بالطلبة يتدلون من الأسقف يحاولون أن يتسمَّعوا إلى ما يقوله المحاضرون، فلم يبقَ للجودة والتميز من مجال".

بعد عدة سنوات من العمل في بريطانيا انتقل يعقوب لعامٍ واحد للعمل في شيكاغو، ورغم ما اكتسبه من خبرة جديدة، لكنه لم يحب النظام الصحي الأمريكي، ورأى أن النظام الصحي البريطاني الذي يتيح العلاج للجميع هو الأفضل في العالم، وعلى حد تعبيره "في حالة اصابتك بجرح, في حالة مرض ابنك أو ابنتك أو حفيدك, تسارع طالباً العون, فيقول لك شخص من هيئة الصحة الوطنية: هيا هيا ولا يقول لك أرني بطاقتك الإئتمانية"، فعاد يعقوب إلى إنجلترا، وعمل في مستشفى هيرفيلد للقلب، ونجح بمجهوده ومثابرته إلى تحويله من مجرد مستشفى ريفي، إلى أحد أشهر مراكز جراحة وزراعة القلب في العالم، ويستفيد من خدماته مختلف الناس على اختلاف أعمارهم ومستواهم المادي والاجتماعي وحتى جنسياتهم، فأحد مرضاه مثلاً كان بابانداريوس رئيس الوزراء اليوناني، كما عالج ملياردير أمريكي يعتبر خامس أغنى رجل في أمريكا، في الوقت الذي أجرى فيه على التوازي الكثيرمن الجراحات لأطفالٍ رضع.

الكتاب بطبيعة الحال حافل بالعديد من التفاصيل الطبية المتعلقة بالقلب وجراحاته، ومن المفاهيم الجديدة علي في هذا الكتاب، هو جراحة الدومينو، وهي تُجرى لمريض رئتيه معتلتان ويحتاج لزراعة رئتان جديدتان متصلتان بقلب المتبرع، والمتبرع يكون بالطبع شخص ذو أعضاء مناسبة تُوفي في حادث أو خلافه، وتؤخذ موافقة أهله على التبرع، فتجري جراحة لنقل رئتيه وقلبه، وجراحة أخرى لزراعتهما في المريض ذو الرئة المعتلة، ويؤخذ قلب هذا المريض ليزرع في جسد مريض آخر ذو قلب معتل!

وكذلك تعرفت على جراحة التحميل، وتتم غالباً مع مريض ذو قلب ضعيف، يُزرع بجوار قلبه قلبٍ آخر وكأنه يعمل كبطين آخر أو مضخة أخرى تحسن كفاءة القلب، وأحياناً بمرور الوقت يتحسن أداء عضلة القلب الأصلية، فلا يعود المريض بحاجة للقلب الإضافي.

وأشار الكتاب للكثير من الأبحاث والمشاريع العلمية التي شارك فيها يعقوب أو أشرف عليها، ومن آخر هذه الأبحاث – وهي أبحاث لا تزال جارية – السعي للتغلب على مشكلة ندرة الأعضاء المتبرع بها - والتي تؤدي إلى وفاة الكثير من المرضى وهم في قوائم الانتظار – من خلال تركيب أجزاء اصطناعية وعليها خلايا بشرية، وبمراقبة سلوك الجسم البشري، فإن الجسم له القدرة على استكمال هذه الخلايا بالتدريج. وكذلك تجارب أخرى لاستخدام أعضاء الحيوانات في الزراعة، وذُكرت تجربة استعين فيها بقلب خنزير وعاش المريض بعدها لأسبوعين، ومن البديهي أن مثل هذه التجربة قد تكون لا إشكال بها من الناحية العلمية، لكن ينبغي مناقشتها جيداً من الناحية الدينية.

تحدث الكتاب عن علاقات يعقوب وصلاته ومعارفه، والتي مكنته من طلب الدعم المادي للمستشفى وللمشاريع البحثية، وعن تمكنه مثلاً من طلب تبرع ب20 مليون دولار من الملياردير الأمريكي الذي أجرى له العملية، ونجاحه في اقتناص هذا التبرع، وعن دعم المشاهير له ومنهم جيفري آرتشر وعمر الشريف، وتحدث كذلك عن علاقة يعقوب المتميزة بالأميرة ديانا والتي أسمته ملك القلوب، كما تحدث عن تحمسه لمشروع سلسلة الأمل والسعي لتدشينه في بريطانيا والانطلاق منها لدول مختلفة بالعالم الثالث، وبذلك تمكن من إقامة عدد من مستشفيات القلب في أماكن مختلفة، منها مستشفاه الشهير بأسوان، وآخر تحت الإنشاء بمدينة السادس من أكتوبر. وهو في كل هذه المشروعات يحرص على استمرار تمويلها من التبرعات والوقفيات لضمان استمرار علاج المرضى بالمجان، وكذلك يحرص على تدريب وتجهيز الكوادر الطبية من أطباء وممرضين من المجتمع المحلي ليستمر المستشفى بنفس الأداء.

يذكر الكتاب الكثير من القصص عن العديد من العمليات، سواءً الناجحة أو الفاشلة، وفي كل عملية فاشلة نجد أن دافع يعقوب الأساسي كان الأمل في إنقاذ المريض ومنحه فرصة مهما كانت حالته صعبة، طالما كانت هناك قدرة على عمل شيء، واحتمالية للنجاح، ولكن حتى بعد الفشل، فإن يعقوب لا يُحبط ولا يستستلم، بل يستفيد من التجربة ليتجنب في المرة التي تليها ما يمكن أن يؤثر بالسلب على النتيجة، ولهذا كان يعقوب من الجرأة أن يقبل من العمليات ما لا يتجاسر غيره من الأطباء على قبوله، وبذلك أجرى من عمليات القلب أكثر مما أجرى أي شخص!، وفي الوقت ذاته، كان حريصاً على العلاقة الإنسانية مع مرضاه، وكانت هذه اللفتات الإنسانية من أكثر ما يتأثر به المريض وأهله، كأم الطفل التي ظلت تتذكر لسنوات كيف حرص يعقوب على تدفئة السماعة قبل وضعها على جسد طفلها. أما أكثر ما كان يؤثر في يعقوب نفسه، هو أن يستوقفه شاب أو شابة ليشكره، ويخبره أنه قد أجرى له جراحة قلب وهو طفل!

لعل سر نجاح يعقوب هو الإصرار والدأب والمثابرة وحبه لعمله وإنهماكه فيه لا للمادة، ولكن لحب العلم وللحرص على الحياة الإنسانية، وبديهي أن هذا الانهماك أثر على حياته الأسرية وعلى الوقت الذي يتيحه لزوجته وأولاده، ونختم بهذا الحوار الدال بين أندرو – ابن يعقوب – الذي سأل والده: "ما سرُّ إصرارك على الإفراط في العمل، والسفر في العالم بجنون، وإحراق كل شمعة من طرفيها؟". فأجابه يعقوب قائلًا: "لأن أي شيءٍ أقل من ذلك سيكون عاديًّا، وأنا لا أحتمل أن أعيش عاديًّا"!