
ربما تظل تقرأ و تسمع لشخص طوال حياتك, و فى النهاية لا يترك بداخلك أثراً, و تنسى كل كلماته.
و ربما تسمع كلمة واحدة من شخص آخر, أو لا تقرأ له الا أقل القليل, لكنه يترك داخلك أثراً, و تتعلق روحك به.
و من النوع الثانى, كان الدكتور
عبد الوهاب المسيرى-رحمه الله-بالنسبة لى.
أكتب عنه اليوم مخالفاً للترتيب الذى كنت أضعه فى ذهنى لهذه السلسلة, لكن قلبى هو ما يدفعنى للكتابة, قلب حزين على رحيل هذا الفارس النبيل, أسكنه الله فسيح جناته, و جزاه عنا خير الجزاء.و لا بأس أن يتحول هذا المقال فى أغلبه الى مرثية للرجل, فمثلى أقل من يكتب عن مثله, لكن أعتقد أن لى على الأقل بعض الحق فى أن أرثيه.
بدايةً, أعترف أنى لم أقرأ كثيراً للأستاذ المسيرى, أغلب قراءاتى له بضعة مقالات و كتاب أو اثنين, لكن فى هذا القليل الذى قرأت وجدت عقلاً مفكراً متميزاً, له قدرة تحليلية عميقة, و نظرة فلسفية للأمور, تجعلك تعبر بعقلك آفاقاً جديدة لم تكن لتصل لها وحدك.
لا أستطيع أن اقول أن أسلوب الدكتور المسيرى يتميز بالبساطة, على العكس, فكتبه ليست من النوع الذى تقرأه و أنت مسترخى, بل تحتاج للإنتباه و التركيز و أنت تقرأ, فغالباً ما تجد فى عبارة من عباراته مفهوماً جديداً تماماً على عقلك, أو معنى لم يخطر ببالك من قبل, و دائماً ما أشبه هذه الحالة بالنسبة لى, بأن عقلى كان به باب مغلق حتى فتحه هذا المعنى الجديد فأدخلنى على عالم لم ادخله من قبل.
و الأستاذ المسيرى فنان فى استخدام المصطلحات و التعريفات-ربما لطول الفترة التى قضاها فى تأليف موسوعته الشهيرة-و كثيراً ما تجده يستخدم مصطلحات علمية أكاديمية ترتفع بعقل القارىء-لو وعاها و فقهها-الى مصاف الدارسين, و ليس هذا الأمر قاصراً على كتبه, فنفس المنهج الأكاديمى التحليلى موجود فى مقالاته التى تتميز بالدسامة و العمق الشديد, و تحتاج لقراءتها بنفس القدر من التركيز.
الجميل فى عالمنا الراحل, أن تخصصه الأكاديمى العلمى و الذى حاز فيه على درجة الدكتوراة, لم يكن الدراسات العبرية أو تاريخ العبرانيين, فتخصصه هو الأدب الانجليزى, لكن على حد علمى, فإن أحداً من المتخصصين فى اليهودية و الاسرائيليات لم يفد المكتبة العربية و القارىء العربى بمثل ما أفادها الدكتور المسيرى, و لو لم ينجز فى حياته غير موسوعة:اليهود و اليهودية و الصهيونية, لكفى.
و الأمر لم يقتصر على الاهتمام بالعدو الاسرائيلى فقط, فللدكتور اسهاماته الفكرية فى تخصصه الأكاديمى بالطبع, و عن الحضارة, و عن العلمانية, و حتى الأطفال اهتم بهم و كتب لهم قصصاً!
و من أكثر ما لفت انتباهى فى الدكتور المسيرى, أنه مثال للعالم الذى لا ينفصل عن قضايا و هموم وطنه و أمته, سواء فى الداخل أو الخارج, و موقفه من القضية الفلسطينية و الصراع العربى الاسرائيلى واضح وضوح الشمس, سواء فى كتبه و مقالات, أو فى التصريحات التى كان يلقيها فى وسائل الإعلام, و الرجل لم ترهبه رسائل التهديد التى توالت عليه من الحاخام المتطرف مائير كاهانا و غيره, عندما علموا بنيته فى كتابة الموسوعة, كان عند الرجل من الشجاعة و الإيمان ما جعله يواصل المشوار الى النهاية, بل و يكتب كتباً أخرى عن القضية قبل و أثناء -و حتى بعد-انتهاؤه من الموسوعة.
أما على الجانب الداخلى, فليس أقل من كونه معارضاً مستقلاً شريفاً انحاز كمثقف الى الجماهير التى خرج منها, و كان المنسق العام الثانى للحركة المصرية من أجل التغيير(كفاية), لم يحفل بكونه مريضاً بالمرض الخبيث, و لم يستسلم لمتاعبه الصحية و مشاغله العديدة, فآثر ألا يكتفى بالتنظير و أن يشترك فعلياً-حتى فى المظاهرات-ربما ليضرب مثلاً لغيره.
و كنت قد كتبت فى مقدمة هذه السلسلة عن خاطرة قرأتها فى مقدمة موسوعة الدكتور المسيرى, تكلم فيها عن المراجع و المرجعية, و قلنا أن المرجعية هى عبارة عن الأشخاص و الآراء و الأفكار التى تشكل وعى الكاتب و تسهم بشكل كبير-مواز للمراجع-فى الصورة التى يكتب بها الكاتب و يعرض فكره, و قد تنوعت مرجعيات الدكتور ما بين مسلمين و غير مسلمين, عرب و أجانب, مؤمنين و ملحدين, فبينما تجد أسماء مفكرين عظام مثل:رجاء جارودى , و على عزت بيجوفيتش, تجد أيضاً ماركس , الذى اعتنق أفكاره لفترة فى بداية حياته ثم انتهى به المطاف بكونه أحد أكبر المفكرين المؤثرين فى العالم الإسلامى, و المتعلقين بهمومه, حتى و لو لم يكن محسوباً على التيار الاسلامى.
و الحقيقة أن فكرة رحيل العظماء من مفكرينا كانت تراودنى مؤخراً, كنت أتساءل عن الخسارة التى ستحل بالأمة, و بالفكر المستنير, و بالصحوة الاسلامية, عندما يذهب الجيل الموجود حالياً, فمن البديل لعلماء و أساتذة مثل القرضاوى و فهمى هويدى و المسيرى و محمد عمارة و العوا و البشرى(مع حفظ الألقاب للجميع) ؟
لكن كان الجواب الذى أقنع به نفسى: أن المدير الناجح, هو الذى يربى كوادراً ناجحة, تستطيع ملء الفراغ الذى يتركه عندما يرحل, بحيث يستمر العمل بدون أن يختل.
أما المدير الذى يمسك بكل شىء فى يده, و لا يربى وراؤه جيلاً يستطيع أن يحمل الراية من بعده و يكمل المشوار, فهو مدير فاشل بكل المقاييس, نعم, ليس أفشل من مدير أو مسئول أو حاكم لا يهتم بأن يترك شخصيات قادرة على ملء الفراغ الذى سيتركه, و يقول:لا أجد حولى من يستطيع أن يكون نائباً لى , أو أترك له موقعى!!
و من هذا المنطلق, فإن أساتذتنا هؤلاء جميعاً, مديرين ناجحين, فقد كانوا أولاً نتاج تربية جيل من قبلهم كان من رواده الشيخ الغزالى رحمه الله, الذى أثر بفكره فى كل من يعمل فى الحقل الاسلامى, و أساتذتنا هؤلاء بدورهم لهم تلامذتهم و مريديهم, الذين يتلقون منهم العلم مباشرة, و يخضعون لتربيتهم. هذا غيرى الآلاف من التلاميذ غير المباشرين, الذين تشربوا رؤيتهم من كتبهم و مقالاتهم و أحاديثهم, هؤلاء التلاميذ هم أنا و أنت يا قارئى العزيز.
و أحسب أن الدكتور المسيرى كان بدوره مثالاً للمدير الناجح, و سمعته فى حديث تليفزيونى يتحدث عن اللقاء الأسبوعى الذى يعقده فى احدى الجمعيات, و التلامذة الذين هو فخور بهم و على اتصال دائم بهم و يرى فيهم الأمل و أذكر منهم د.هبة رؤوف عزت.
عندما وصل الإمام الشافعى لمصر, اطلع على فقه إمام أهل مصر:الليث بن سعد, فقال:الليث أفقه من مالك, لكن أصحابه لم يقوموا به, أى لم ينشروا فقهه بالشكل الذى يليق به.
فإن كنا نعتبر أتفسنا من اصحاب المسيرى, فلنقم بعلمه, الذى نسأل الله أن يجعله فى ميزان حسناته.
إنى أؤمن أن خير ما نخلد به ذكرى الرجل, هو ألا نهدر علمه, نعم, نحتاج أن نتزود أكثر من علمه, فكتبه عن الصهيونية و موسوعته هى من أهم ما يكون لمعرفة العدو, هذا غير انجازاته فى المجالات الأخرى التى لها أكبر الأثر فى الارتقاء بالعقل و فتح آفاق جديدة له.
نعم قلوبنا كلها حزن عليه, لكن هذا حال الدنيا, و مصيبتنا فى رسول الله (ص) هى أعظم مصيبة, اذا فلنجفف دموعنا, و لنكمل المسيرة و لنتحمل المسئولية التى أصبحت على عاتقنا, حتى لا نفاجأ فى يوم بأن الساحة قد خلت من القادة, و أن الجنود قد ألقوا السلاح.
و ليست القراءة للعظماء فقط هى ما نحتاجه, بل نحتاج أن ندرس الظروف التى شكلت هؤلاء العظماء, و ندرس الأفكار التى شكلت وعيهم, حتى نستفيد من هذه التجارب على المستوى الشخصى, و من هذا المنطلق أدعوكم لمتابعة هذه القراءة الجميلة لكتاب الدكتور المسيرى:رحلتى الفكرية -سيرة غير ذاتية غير موضوعية, و الذى تعرضه أختنا شمس الدين فى مدونتها
جناحى الطائر, جزاها الله خيراً.
أسأل الله أن يرحم الدكتور المسيرى, و أن يعيننا على تحمل المسئولية من بعده و من بعد كل أساتذتنا, حتى نقوم بعلمهم, فهم يستحقون ذلك, و الأمة تستحق أكثر.