الاثنين، 26 مايو 2025

قراءة لكتاب (الفريق مرتجي يروي الحقائق)


يعتبر هذا الكتاب من أكثر المذكرات التي قرأتها عن هزيمة يونيو تفصيلاً من وجهة النظر العسكرية، مع عرض الظرف السياسي العام المصاحب للحرب والمؤثر عليها، لا يكاد يباريه في ذلك سوى كتاب الفريق صلاح الدين الحديدي (شاهد على هزيمة 67)، مع كون الأخير أهدأ أسلوباً ونبرة، بسبب اختلاف موقع الكاتبين من الأحداث، فالأول كان في قلبها، وكان ممن تلطخ اسمه بعار الهزيمة وتحمل وزرها، حتى مع كونه ليس المسؤول المباشر عنها، لذا يجدر بالقاريء أن يعذر الكاتب وأن ينتبه لبعض الشطط الذي يُولده الشعور بالغبن، بالإضافة إلى رد فعل البشري الطبيعي الدافع لتبرئة النفس ودفع عار الهزيمة، فالنصر له ألف أب، والهزيمة يتيمة.

ولقد مررت بتفاصيل الهزيمة المؤلمة في كتابات العديد من القادة والضباط والجنود على السواء، ووصف كل منهم من موقعه مشهداً من مشاهدها. مررت بذلك في مذكرات بعض القادة كالشاذلي وعبد المنعم خليل وكمال حسن علي وطه المجدوب وغيرهم، كما اطلعت على شهادات الضباط والجنود، ككتاب الناس والحرب (لأسامة علي الصادق)، و(خطوات على الأرض المحبوسة) لمحمد حسين يونس، و(الأسرى يقيمون المتاريس) لفؤاد حجازي، وكان القاسم المشترك بينهم جميعاً هو وصف حالة الفوضى والتخبط وتضارب الأوامر والتحركات شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً بما أنهك المعدات والجنود، إلى أن صدر قرار الانسحاب الكارثي!

تتميز هذه المذكرات بالتفاصيل التي عرضها الفريق مرتجي من موقعه كقائد للجبهة، والتي تضمنت عرض للأحداث بشكل يومي منذ اندلاع الأزمة في منتصف مايو 1967، وصولاً للعدوان والهزيمة وما جرى بعدها من أحداث، ويشمل هذا العرض الأحداث السياسية العامة وتفاصيل الأوضاع والتحركات العسكرية، مع ملخص تقارير المخابرات الحربية عن هذا اليوم.

يبدأ الكتاب بعرض وضع القوات المسلحة قبيل الحرب، حيث كانت أفضل وحدات الجيش بما يقارب ثلث قوة الجيش تقريباً متورطة في حرب اليمن التي أنهكت الجيش ولم تضف له خبرات جديدة، بل بالعكس خفضت من مستواه، فنمط المعارك أساسه حروب عصابات في مناطق جبلية بدون التعامل مع طيران معادي أو دفاع جوي أو مدرعات، وكل هذا عكس مسرح العمليات في سيناء تجاه عدونا الأساسي. وفي الوقت ذاته، عانى الجيش بشكل عام من تدني مستوى التدريب من المستويات الدنيا وصولاً للقيادات، وسوء الحالة الفنية للعديد من المعدات، وتخلف المعدات الواردة من الاتحاد السوفييتي عن مثيلتها المتواجدة مع العدو، وعدم توفر الكثير من قطع الغيار، مع تأثر الجيش سلباً من تراجع الوضع الاقتصادي العام للبلاد، والذي أدى للتوجه لتقليص حجم الاحتياطي العام للقوات المسلحة، كما أدى لعدم إمكانية تنفيذ العديد من المتطلبات الدفاعية، ومن أهمها طلبات القوات الجوية التي كانت في احتياج لتجهيز دشم ووسائل حماية للطائرات بالإضافة لحاجتها لزيادة عدد المطارات لمنع تكدس الطائرات، بالإضافة لتخفيض ميزانية القوات المسلحة في العام السابق للحرب، وكل هذه ظروف فنية تحد من فاعلية الجيش وقدرته.
وبخلاف المشاكل الفنية، فقد تعرض لمشكلاتٍ خطيرة أخرى، تتلخص في الوضع العام للمؤسسة العسكرية التي قادها عامر لمدة 15 عاماً بدون أن يكون مؤهلاً لهذا المنصب، وقد أشار للحقيقة المعروفة لتقديم الولاء على الكفاءة والتي أدت لغياب الضبط والربط داخل القوات المسلحة اعتماداً على كون الضابط – حتى لو صغرت رتبته – على صلة بالمشير أو بأحد المنتفعين المحيطين به، وبالتالي كان من الطبيعي أن تجد بعض القيادات والرتب العليا تتزلف لرتبٍ أدنى منها لقربها من مراكز القوى، أضف إلى ذلك أن الجيش كان إحدى ساحات صراع القوى بين عبد الناصر وعامر، وفي حين أصر ناصر على تعيين محمد فوزي رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة على غير رغبة عامر، فقد عمد عامر إلى اختراع قيادة جديدة باسم (القيادة العامة للقوات البرية) تحت قيادة الفريق مرتجى، الذي كان في الوقت ذاته قائداً عسكرياً وسياسياً لجبهة اليمن، وقد كانت الأسلحة الأخرى (القوات البحرية والجوية) تعيش وكأنها ممالك مستقلة بغير سيطرة حقيقية من قيادة الأركان، الذي سعى – حسب قول مرتجي -  لبسط سيطرته المباشرة على قيادة القوات البرية ليصبح مرتجي بلا صلاحيات حقيقية، ويجدر بنا أن نذكر أن الفريق فوزي في مذكراته يذكر رواية عكسية، وهي أنه منذ تعيينه رئيساً للأركان على غير هوى من المشيرالذي عين مرتجي قائداً للقوات البرية، واستحدث منصب (مدير الأركان) وعين به اللواء علي عبد الخبير، وجد فوزي نفسه بدون صلاحيات!

وليست كل هذه الأجواء ببعيدة عن كون عبد الناصر بطبيعته التآمرية ووصوله للسلطة من خلال انقلاب، متخوفاً بدوره من حدوث انقلاب الجيش عليه، وقد كانت الحرب بين ناصر وعامر حرباً في انتزاع السلطات والصلاحيات، لم تؤثر على القوات المسلحة فقط، بل على البلد ككل. وفي المجمل، فإن مرتجي يؤكد أن السلطة السياسية لم توفر العوامل التي تسمح للجيش بتحقيق أي نصر.

بخلاف العوامل الداخلية، يمر مرتجي بالوضع الدولي العام، ويشير إلى سوء علاقة مصر ببقية الدول العربية وحتى مع الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وكلها عوامل تؤثر بالسلب على الوضع السياسي والاقتصادي وبالتالي الوضع العسكري. وكل العرض السابق للأوضاع الداخلية والخارجية هو بغرض بيان أن إقدام القيادة السياسية على المغامرة واتخاذ قرارات تدفع الأمور دفعاً في اتجاه الحرب، بينما القوات المسلحة في وضعها هذا غير مؤهلة لخوضها، هو خطأ لا يُغتفر.

يبدأ الفريق مرتجي بعد ذلك في عرض الأحداث بدايةً من 14 مايو 1967، حين دار الحديث عن الحشود الإسرائيلية المزعومة على الحدود السورية، والتي كانت كرة الثلج التي تسارعت بعدها الأحداث لتصل لنهايتها المأساوية.

لقد كان مصدر المعلومة المغلوطة هو الاتحاد السوفييتي، بجوار النظام السوري نفسه، وقيل في تفسير ذلك أن النظام السوري كان بحاجة للتلويح بوجود تهديد خارجي للتغلب على اضطرابات داخلية بسوريا تهدد النظام، أما الاتحاد السوفييتي، فقد كان يراقب تهديدات إسرائيل للنظام السوري وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي طويلاً أمام العمليات الفدائية الفلسطينية المنطلقة من الأراضي السورية، وبالتالي أراد السوفييت حماية النظام الحليف لهم من السقوط من خلال دفع مصر لتحريك قواتها بشكل يردع إسرائيل!

بالرغم من تفقد الفريق فوزي للجبهة السورية بنفسه وعدم رؤيته لأي حشود وإبلاغه القيادة السياسية والعسكرية بذلك، إلا أن النظام أصر على المضي في طريقه بدعوى دعم سوريا، فبدأ تدفق القوات والمعدات إلى سيناء، واستدعي الاحتياطي على عجل وبدون ترتيب، لدرجة أن منهم من وصل لمواقعه بثيابه المدنية. وكان تفسير هذا الاندفاع هو رغبة نظام عبد الناصر في تغيير الأوضاع السارية في سيناء والبحر الأحمر منذ نهاية العدوان الثلاثي عام 1956.

وأنتقل هنا لاستطراد مستقى من كتاب (تحطيم الآلهة) لعبد العظيم رمضان لكي نتناول وضع هذه المنطقة منذ نكبة 1948، فخلال النكبة، سارع اليهود لاحتلال أم الرشراش وتحويلها إلى ميناء سمته إيلات ليكون لهم منفذ على خليج العقبة، ولكن حكومة الوفد عام 1950 قد وجهت القوات المصرية للتمركز في جزيرتي تيران وصنافير، بالإضافة لتواجد قوات عسكرية في رأس نصراني للتحكم في المضيق بشكلٍ كامل، ثم أمرت بإغلاق مضيق تيران في وجه الملاحة والتجارة الإسرائيلية لتفرض عليها حصاراً بحرياً في البحر الأحمر يجعل اغتصابها لأم الرشراش بدون فائدة. وظل هذا الحصار مفروضاً حتى عام 1956، وبعد انتهاء الحرب وبدء ترتيبات انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء، وتواجد القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة على خطوط الهدنة وفي شرم الشيخ، اشترط العدو السماح لسفنه بعبور خليج العقبة، وقد قبل النظام المصري بهذه التسوية – التي لم يعلم عنها الشعب المصري شيئاً – لعجزه عن إخراج العدو من سيناء بالقوة، وقد صرحت جولدا مائير بأن أي إغلاق لخليج العقبة في وجه إسرائيل سيكون بمثابة إعلان للحرب، وظل هذا هو الوضع حتى عام 1967، والذي كانت إذاعات الدول العربية المعادية لعبد الناصر تسخر منه، بما مثل عبئاً عليه لأنه يمس صورته كزعيم!

لذلك وجدت القيادة السياسية في حشد القوات المصرية في سيناء وسيلة لتغيير هذا الوضع، لكن التحركات العسكرية استدعت أن تطلب مصر من القوات الدولية سحب بعض قواتها من مواقعها، لتجيب الأمم المتحدة بأن القوات الدولية إما أن تؤدي مهامها بشكلٍ كامل أو تنسحب بشكلٍ كامل، فيطلب النظام المصري سحب القوات، ثم يشعر أنه قد تسرع فيطلب بقاءها لكن بعد أن يكون السهم قد انطلق بالفعل، فتنسحب القوات الدولية وتتجه القوات المصرية لاحتلال مواقعها، ومن ضمنها شرم الشيخ، لتتطور الأحداث من جديد لغلق مضيق العقبة في وجه سفن العدو.

عندما بدأ حشد القوات عُين الفريق مرتجي قائداً للجبهة، ومع ذلك فإنه طوال المذكرات أكد أنه كان قائداً بالإسم فقط، فمع وجوده داخل مركز القيادة المتقدم داخل سيناء، إلا أن كل تحركات القوات كانت بيد القيادة العامة في القاهرة، وحتى قيادة الجيش الميداني في سيناء كانت تتلقى تعليماتها من القاهرة رأساً من قيادة غير متواجدة بمسرح الأحداث، ويتضح من خلال السرد للأحداث اليومية مدى تخبط وارتجال القيادة، وبالرغم من وجود خطة مُعدة للدفاع عن سيناء باسم (قاهر)، إلا أن القيادة أخذت في تحريك الفرق والألوية من الشمال والجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، بما يخالف هذه الخطة تماماً، بل وسحبت وحدات من بعض الألوية لتدعم بها ألوية في أماكن أخرى، تاركة وحداتها الأصلية بدون فاعلية، هذا إلى جانب ضعف المخابرات الحربية وعدم قدرتها على الحصول على معلومات دقيقة عن قدرات العدو وحشوده، وينتقدها مرتجي انتقاداً مريراً ويصرح بأن جهدها الرئيس كان موجهاً للتجسس على الضباط ومراقبتهم لضمان أمن النظام، وأن المخابرات فشلت في تحديد موعد هجوم العدو، ولم تعلم بشأن القنابل التي أعدها العدو لتدمير ممرات المطارات، وأعطت معلومات خاطئة عن مدى طيران العدو، فلم يضع الجيش في حسبانه أن طيران العدو قادر على تخطي محور القناة ومهاجمة بقية مطارات الجمهورية. أما القيادة، فقد انساقت وراء خطة الخداع والمعلومات المغلوطة التي سربها إليه العدو، فصار على عقيدة بأنه لو حدث هجوم من العدو، فإنه سيكون بشكل رئيسي في اتجاه المحور الجنوبي، وبالرغم من أن الاستطلاع الجوي بين أن قوات العدو المتواجدة إزاء المحور الجنوبي أضعف من أن تمثل خطراً، فقد ظل المشير مصراً على قناعته، ولهذا عمد على التركيز على سحب قوات من الشمال لدعم هذا المحور، ليُفاجأ في النهاية بأن العدو ركز هجومه على الشمال والوسط!

وفي إطار انتقاده للقيادة السياسية وتدخلها في تفاصيل الشأن العسكري على حد قوله، يشير إلى أنه كان من المقرر عمل ضربة جوية استباقية لمطارات العدو يوم 27 مايو، لكن أُلغي الأمر، ولكن بمراجعة الروايات الأخرى عن هذه الضربة، نجد أن عبد الناصر قد أمر بإيقافها بعد أن جاءته تحذيرات مباشرة من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة من مغبة هذا العمل الذي كانت إسرائيل قد علمته بالفعل من أحد مصادرها، والمدهش أن عبد الناصر لم يكن على دراية بها أصلاً! وهو ما يعني أن عامر كان سيبدأ الحرب بضربة جوية، بينما قواته البرية ليست عندها خطة هجومية أصلاً، ولم تستكمل بعد انتشارها في مواقعها الدفاعية!


أشار مرتجي إلى أنه رغم أن طبول الحرب كانت تدق بقوة، إلا أنه إلى أن وقعت الواقعة، كان الظن المسيطر على جميع القيادات هو أن العدو لن يجرؤ على الهجوم، وإن هجم فإن هجومه لن يكون أكثر من عملية محدودة! وبالطبع فقد كان لهذا التصور أثره السلبي على مدى الجدية والقدرة على التصرف العسكري السليم، كما ذكر الرواية المعروفة لاجتماع عبد الناصر بالقادة في 2 يونيو، وتصريحه بأنه يتوقع أن ينفذ العدو ضربة جوية يوم 5 يونيو، وطلبه من قائد القوات الجوية أن يستعد لهذه الضربة، واعتراض قائد القوات الجوية وطلبه أن تكون مصر هي المبادرة للهجوم، لكن ناصر وعامر أصرا على أن مقتضيات السياسة تمنع أن تكون مصر المبادرة، وأكد ناصر على أن على الجيش أن ينفذ طبقاً لمقتضيات السياسة، وهو ما انتقده مرتجي في كتابه حيث أشار أن التوجيه بالاستعداد لمواجهة الضربة وامتصاصها لا معنى له في ظل عدم وجود استعدادات من دشم للطيارات ووسائل إنذار ودفاع جوي كافية أصلاً، بالإضافة لنقص عدد الطيارين المصريين، علماً بأن القوات الجوية للعدو كانت تفوق قواتنا في عدد المطارات والطيارين، ناهيك عن قدرات طائراتها الفانتوم والسوبر ميستير في مقابل الميج والسوخوي. ويذكر مرتجي أنه لم يحضر هذا الاجتماع، وأن ما دار به لم يخرج عن حدود الحاضرين، ولم يُبلغ القادة الميدانيين، ولم تُتخذ بناءً عليه أي استعدادات خاصة!

وقعت الواقعة بتفاصيلها المعروفة، وتسببت الضربة الجوية للعدو في تدمير 90% من القوة الجوية المصرية، بالإضافة لتدمير ممرات المطارات، واستشهد بعض الطيارين المصريين الذين قاموا بعمليات انتحارية ضد العدو. أما القوات المحتشدة في سيناء، فقد فوجئت بأن الهجوم الرئيسي قد جاء من الشمال والوسط، وكانت أغلب القوات المتمركزة هناك من قوات الاحتياط ضعيفة التدريب. قاومت القوات قدر استطاعتها، كما قاومت القوات القليلة الموجودة في قطاع غزة وقاتلت حتى آخر طلقة، وسقطت دير البلح وغزة وخان يونس ورفح، وكانت القوات تحارب تحت سماء مكشوفة يصول ويجول فيها طيران العدو دون أن يجد من يردعه.


ويقول الفريق مرتجي: "بعد الحرب سألت المشير عامر عن سبب عدم الأخذ بوجهة نظر الجمهورية بميعاد نشوب القتال...وكان رده بأنه لا يعرف في عبد الناصر أنه كاهن أو أن الوحي ينزل عليه، أو أن عنده من صفاء الروح والشفافية ما يجعله يتنبأ مستقبلاً بالأحداث، وأنه سبق وتنبأ في عام 1956 وبعد تأميم قناة السويس بأن الموقف الدولي لن يسمح للإنجليز والفرنسيين أن يشنوا هجوماً على مصر بسبب هذا التأميم، وكان هذا التنبؤ ضد رأي المخابرات الحربية التي تجمع لديها من المعلومات عن تحركات الإنجليز والفرنسيين ما يوحي بأن الهجوم على مصر مرجح جداً بل أنه مؤكد" ثم يضيف عامر "وهل يُعقل إن كان الرئيس عبد الناصر واثقاً من وقوع الحرب يوم 5 يونيو أن يسمح للوفد العراقي برئاسة رئيس الوزراء العراقي ومعهم حسين الشافعي بزيارة القوات العراقية على الجبهة معرضاً حياتهم للخطر؟ وهل يُعقل إذا أخذت رأي الرئيس بأنه حقيقة أن أطلب من جميع القادة في سيناء أن ينتظروني في مركز القيادة المتقدم في سيناء يوم 5 يونيو وأن أعرض أنا الآخر حياتي ومعي قائد الطيران والقادة الآخرين للخطر؟!"

وهنا ننتقل لنتكلم عن الموقف السوري، فبالرغم من التصعيد الحادث منذ منتصف مايو بسبب دعوى وجود حشود للعدو على الحدود السورية أساساً، وعلى الرغم من استدعاء الاحتياط وحشد الجيوش في مصر وإسرائيل، فإن النظام السوري كان رد فعله على النقيض، وعندما حلت الكارثة في الساعة التاسعة من صباح 5 يونيو، يذكر الفريق مرتجي أن "مصر والأردن اتصلتا بالسوريين طالبة مساعدة الطيران السوري في المعركة، وكان الرد السوري من أغرب الردود التي يمكن أن يتوقعها الإنسان من دولة ترى أن هناك خطراً يقف على أبوابها ويتطلب إعداد قوات بصفة دائمة لمقابلة اندلاع هذا الخطر في أي وقت، فقد ردوا بأنهم بوغتوا بالأحداث، وأن مطاراتهم ليست مستعدة، وأن طائراتهم تقوم برحلة تدريبية، وطلبوا مهلة نصف ساعة، ثم طلبوا ساعة، وفي العاشرة والدقيقة الخامسة والأربعين كرروا نفس الطلب، وكان من نتيجة الاستمهال المتكرر من جانب السوريين أن أضاع تدخل الطيران السوري فرصة ذهبية كان يمكن أن تنتهز لقلب الموقف لمصلحة العرب، إذ كان من الممكن اعتراض الطائرات الإسرائيلية وهي في طريق عودتها إلى قواعدها بعد قصف القواعد المصرية، وقد فرغت خزاناتها من الوقود ونفدت ذخيرتها، أو مهاجمة هذه الطائرات وهي جاثمة في مطاراتها تملأ خزاناتها استعداداً لشن هجمات جديدة". ويؤكد الفريق مرتجي على أنها كانت فرصة ذهبية بالفعل لأن العدو اتخذ قراراً في منتهى الجسارة، فقد خصص كامل قواته الجوية تقريباً للضربة الجوية التي دمر بها الطيران المصري، وترك 12 طائرة فقط للدفاع عن إسرائيل!

وقد استمر تقاعس النظام السوري على الجبهة الأردنية أيضاً، فقد كان الفريق عبد المنعم رياض موفداً هناك لقيادة القوات العربية المشتركة، ليجد نفسه في النهاية قائداً للقوات الأردنية فقط، وبنى خطته الدفاعية عن الضفة الغربية بتحريك لواء أردني من شمال الضفة لجنوبها للدفاع عن الخليل، وتثبيت لواء للدفاع عن القدس، والدفاع عن شمال الضفة من خلال لواء سوري، والذي لم يصل حتى بداية الحرب، ولما استعجل الفريق تحرك اللواء، تحرك اللواء ببطء بدعوى التجهيز واستكشاف الموقع، إلى أن اجتاح العدو الضفة وسقطت بالفعل، فعاد اللواء دون أن يفعل شيئاً!

أما الأنكى فهو موقف القوات السورية على جبهتها نفسها، فلم تحدث عمليات هجومية من جانب القوات إلا عمليات محدودة على مستوطنة للعدو، وعندما انتهى العدو من جبهتي سيناء والضفة، استدار للجولان، ورغم كون الخطوط الدفاعية السورية في الجولان من أقوى الخطوط الدفاعية، فقد انهار الدفاع السوري وانسحب بسرعة، وأذاعت إذاعة دمشق سقوط مدينة القنيطرة قبل وصول العدو لها بالفعل بأكثر من ساعتين!، ولما وصلت هذه الأخبار لبقية القوات انهارت وانسحبت تاركة وراءها معداتها وآلياتها ومحركاتها لا زالت تدور!

ونعود لسيناء، فعلي الرغم من الخسائر في الأرواح والمعدات، والهرج والمرج وتقدم العدو وتراجع بعض الوحدات، فقد صمدت وحدات أخرى في أماكنها وقاتلوا حتى الاستشهاد، أما في القيادة العامة في القاهرة، فقد كانت المعركة تُدار بواسطة المشير والمجموعة المحيطة به، وهم ليسوا فقط بعيدين عن مسرح الأحداث، بل أيضاً مفتقدين للخبرة والكفاءة التخطيطية، بل وحتى قوة وثبات الأعصاب.

ويذكر الفريق مرتجي أنه تواصل مع المشير يوم 6 يونيو وأخبره بأنه بالرغم من فقدان القوة الجوية وبالرغم من خسارة ما يقرب من خُمس القوات البرية، فإن الموقف لا يزال مطمئناً، وأنه من خلال المناورة بالقوات والتمركز عند خط الدفاع الثاني وتجنب المساحات المكشوفة المعرضة لخطر طيران العدو، يمكن لقواتنا أن تثبت وتوقف تقدم العدو، لحين وصول طيارات من الدول الصديقة، وخصوصاً أن أغلب الطيارين المصريين ما زالوا أحياء، وعرض عليه مقترح التحركات تفصيلياً فوافق عليه المشير، وأُبلغ قائد الجيش الميداني بهذا القرار واتفق معه بأن هذا أفضل ما يمكن عمله في الوضع الحالي. ومع ذلك، انهار المشير عامر مرةً أخرى، وأصدر أمر الانسحاب، والذي يذكر الفريق مرتجي بكل مرارة أنه علم بهذا الأمر بالصدفة، وبعد أن بدأ الانسحاب بالفعل، حيث فوجيء بمدير الشرطة العسكرية يصل لمركز القيادة المتقدم داخل سيناء ويسأل الفريق والقادة المتواجدين معه عن سبب وجودهم بالمقر حتى الآن، في حين أن الأوامر صدرت بالانسحاب وبقية القادة عبروا القناة بالفعل!

وعن كواليس قرار الانسحاب، ننتقل لكتاب (تحطيم الآلهة)، حيث يخبرنا نقلاً عن مذكرات الفريق فوزي بأن عامر استدعاه مع مدير عمليات القوات المسلحة بعد ظهر يوم 6 يونيو طالباً إعداد خطة انسحاب في 20 دقيقة! وبدون مناقشة هرعوا لإعداد الخطة وعادوا إليه ليخبروه بالخطوط العريضة للخطة، والتي تلخصت بالانسحاب التدريجي للقوات بشكل تبادلي خلال أربعة أيام، فتهكم عليهم المشير وأخبرهم أنه أصدر أمر الانسحاب بالفعل. أما مهمة الابلاغ للقادة في سيناء، فقد تمت بشكل عشوائي من خلال مجموعة الضباط المحيطة بالمشير كشمس بدران وعلي شفيق، وبدون أي مراعاة لأي تدرج قيادي، وكما ذكرنا سابقاً، فإن قائد الجبهة نفسه لم يُخطر بالقرار في حينه، غالباً لأنه كان سيعترض عليه.

ويؤكد مرتجي بأن قراراً بحجم قرار الانسحاب لا يمكن أن يكون صادراً من القيادة العسكرية بشكلٍ منفرد، وأنه لابد من موافقة القيادة السياسية، ويذكر الروايات المختلفة في هذا الصدد وحديثه مع عبد الناصر وعامر بعد الحرب، وتأكده من أن القرار عُرض على عبد الناصر قبل تنفيذه. لكن حتى هذا التأكيد لا ينفي حقيقة أن التنفيذ الكارثي للقرار هي مسؤولية عامر وحده.

ويذكر الفريق مرتجي أنه بعد الحرب سأل المشير عامر عن سبب العدول عن فكرة الدفاع والصمود في المضايق حسب الاتفاق، وأنه كان بإمكاننا الثبات لأسابيع يمكن خلالها تدخل المحافل الدولية للحل بدلاً من ضياع سيناء كلها. وأجاب المشير بأنه بعد تدمير قواتنا الجوية وتقدم العدو على المحورين الشمالي والأوسط، خشي أن تُحاصر قواتنا المسلحة وتُعزل ويُقضى عليها تماماً، ولذلك أصدر أمر الانسحاب بالأسلحة الشخصية الخفيفة، فالمعدات يمكن تعويضها، أما الفرد المقاتل فيحتاج سنوات طويلة لتعويضه، وأما الأرض، فلابد لنا من جولة أخرى مع العدو. فكرر عليه الفريق مرتجي بأن الموقف لم يكن بهذه الصورة القاتمة، وكان من الممكن إعادة تعديل وضع قواتنا والمناورة بها كما ذكرنا سابقاً، ثم أخبره بأدب بأن الصورة التي وُضعت أمامه كانت مشوهة، وأن زحاماً من المعلومات كان يصله بدون تقييم ودون تعليق، ولم تُقدم مشورة سليمة من هيئة الأركان المحيطة به...إلخ، وقابل عامر هذا الكلام كله بالصمت، وكأنه يقر التحليل الصادر من مرتجي.

يذكر الفريق مرتجي بكل مرارة أن قرار الانسحاب كلفنا 90% من معداتنا، بخلاف خسائر الأفراد من شهداء وأسرى، ثم يتحدث عن كارثة الفرقة الرابعة المدرعة أفضل الفرق والمسماة بجوهرة الجيش، التي شملها قرار الانسحاب، ثم أُمرت بعبور القناة مرة أخرى والعودة لسيناء للدفاع عن المضايق كما كان مقرراً لها طبقاً لتعليمات عبد الناصر الذي غضب من انسحاب هذه الفرقة، وفي طريق عودتها هذه دمرها طيران العدو. وفي حين يحلل عبد العظيم رمضان في كتابه هذه النقطة ويستنتج أن عبد الناصر حين أمر بثبات الفرقة في موقعها للدفاع عن المضايق لم يكن يعلم أنها غادرت سيناء بالفعل، ولم يخبره عامر بذلك ولم يناقشه بل أصدر الأمر بعودتها، فوقعت الكارثة!





وفي حين يلاحظ المطلع على كتاب عبد العظيم رمضان أنه في تحليله للأمور ومع تحميله عبد الناصر المسؤولية، إلا أنه كثيراً ما يلتمس له العذر، بينما يصب جام انتقاداته على عامر، فإن الفريق مرتجي في كتابه يصب جام غضبه على الاثنين، مع تحميل عبد الناصر النصيب الأكبر، والحديث عن عامر بشكل أكثر أدباً، ومع الاثنين، يوجه سهام الانتقاد ل(مراكز القوى) دون أن يحددهم، ويُفهم من سياق الحديث أنهم نفس مراكز القوى التي أطاح بها السادات، أي المجموعة التي كانت محيطة بعبد الناصر ومحسوبة عليه، في حين أن المجموعة المحيطة بالمشير عامر وعلى رأسها شمس بدران كانت في حد ذاتها مراكز قوى وسبباً مباشراً من أسباب الكارثة. وقد انتقد مرتجي شمس بدران بشكلٍ عابر وتحدث عن قلة خبرته وسوء تقديره وضرب مثلاً بعدم تمييزه بين الحقائق والمجاملة في اجتماعه مع السوفييت قبيل الحرب، ومخازي شمس بدران معروفة ولا تحتاج لمزيدٍ من التفصيل، وهنا أستطرد لأشير لمشهد معبر من كتاب (كنت نائباً لمدير المخابرات) لعبد الفتاح أبو الفضل لنبين مدى التأثير السلبي لهذه القيادة البائسة على عموم الضباط، فقد ذكر أبو الفضل أنه عند مقابلته أحد الضباط المنسحبين من سيناء، سأله  "لماذا لم تلتحموا مع القوات الإسرائيلية فيصعب على طيرانهم أن يضربكم؟" فأجابه  "لم يكن لدى أحدٌ منا لا النفسية و لا الرغبة لبذل مجهود لتحقيق انتصار يتحول بعده رجل كشمس بدران إلى رئيس للجمهورية. وكل من أوقعه سوء حظه من كبار قادة الجيش أو الضباط ليواجه شمس بدران بأي معارضة كان مصيره التعذيب والاضطهاد والإذلال، فلماذا نبذل جهداً تكون نتيجته وصول الإنتهازيين لأعلى المراكز؟"!

وقد فصل الفريق مرتجي رأيه في المشير عامر بمنتهى الصراحة، والذي يتلخص في كونه لم يكن صالحاً لشغل المنصب بسبب عدم حصوله على الخبرة المتراكمة اللازمة لموقعه، بالإضافة لانشغاله بالعديد من المسؤوليات المدنية بجوار عمله الأساسي، والحقيقة التي ينبغي التأكيد عليها أنه بخلاف مسؤولية ناصر عن تصعيد عامر لمنصب اللواء ثم لمنصب المشير وإبقائه في مكانه رغم فشله في 56 ثم في سوريا، وعجز ناصر عن إزاحته من موقعه، فإن عامر نفسه مسؤول عن تشتته وتشتت العديد من كبار الضباط في المسؤوليات المدنية التي اقتنص أغلبها في ضوء حرب إثبات السيادة والنفوذ والسيطرة، وقد وصل التداخل في الحياة المدنية لدرجة أن جعل عامر من نفسه راعياً لنادي الزمالك، وعين الفريق مرتجي رئيساً للنادي الأهلي، بجوار عمله قائداً لجبهة اليمن وللقوات البرية!

ولأن كتاب الفريق مرتجي يحمل الكثير من المرارة والشعور بالغبن والرغبة في تبرئة ساحة القوات المسلحة من الاتهامات التي لطخت سمعتها وسمعة قادتها، في مقابل تحميل القيادة السياسية المسؤولية الأكبر عن وصول الأمور لهذا الحد وتوريط الجيش في حرب غير مستعد لها (وهو على حقٍ في ذلك)، فإنه في هجومه على مراكز القوى كثيراً ما يشتط، ويكاد يصرح أن التعليمات الصادرة بتحرك القوات على مسرح سيناء المكشوف لطيران العدو – وخصوصاً الفرقة المدرعة الرابعة -  كان الغرض منه تدمير القوات المسلحة في إطار الصراع بين عبد الناصر وعامر! وهو ما لا يقبله عقلٌ ولا منطق، ولا يُتصور حدوثه إلا في حالة العمالة والخيانة، بالإضافة إلى أن المسؤول المباشر عن التحركات هو المشير عامر والمحيطين به، لكن يُلتمس للفريق مرتجي العذر لأن كافة الأوامر والتحركات في تلك الفترة كانت بدورها تفتقر إلى المنطق السليم.

ويشير الفريق مرتجي مرة أخرى لعلو حسابات السياسة عن المصلحة العامة، ففي حين دُفعت كتيبة دبابات تابعة للحرس الجمهوري تجاه الاسماعيلية للدفاع عنها، فقد سُحبت مرة أخرى يوم 11 يونيو لتأمين الموقف في القاهرة ضد ما ظهر من اعتراض الضباط على تنحي المشير عامر، وقد ذكر مرتجي أن عبد الناصر قال (مدام عاوزين يحاربونا في الداخل فسأريهم كيف تكون الحرب ولا يهم ما الذي سيفعله اليهود)، وهي عبارة أخرى تحتاج للتدقيق، فمصدر العبارة إما أن يكون عبد الناصر، أو قائد الحرس الجمهوري، أو سامي شرف، ومن غير المعقول أن يذكر أي من الثلاثة عبارة كهذه يدين بها نفسه، وإن كانت قيلت في الحقيقة فهي ليست أكثر من انفلات أعصاب تحت ضغط محاولة انقلاب المشير، وبالتالي فإن ذكرها في الكتاب هو بدوره من قبيل الشطط.

وفي ختام كتابه، عقد الفريق مرتجي مقارنةً بين حربي 67 و73، لخص فيها الخطايا السياسية والعسكرية في 67، بينما أشاد بالسادات وبأحمد إسماعيل وهيئة الأركان المحترفة التي تولت القيادة في 73. ثم أنهى الكتاب بابتهال لله عز وجل يستحق أن يُنقل،  قال فيه

"ضعف إيماننا، وتأله من صفوتنا من تأله وامتنع عن ذكر اسم الجلالة، وفي غمرةٍ من العظمة البشرية الزائفة طلب من كبار المفكرين البحث في صحة وجود رب العالمين.

حق علينا العقاب، وحل في صورة هزيمة سياسية عسكرية نكراء، حكمة من الحكم الإلهية، وعظة سماوية، وآية من الآيات الكريمة التي شاءت إرادتكم أن نكتوي بها، لعل المخلصين من أهل هذه البلاد والمؤمنين من شعبنا يتنبهوا لها ويستفيدوا منها ويعملوا بها، ليرفعوا من شأن مصر الحبيبة، موطن الإيمان والأصالة ومنبع الحضارة".

وإلى هنا أنهي هذا العرض لكتابٍ من أهم الكتب التي كُتبت عن هزيمة 67 لما به من تفاصيل ومعلوماتٍ غزيرة، ولكن هذه المعلومات لا يمكن بطبيعة الحال أن تؤخذ بشكلٍ مسلم به دون مقارنتها بغيرها من الروايات، وخصوصاً أن الكتاب مليء بتساؤلاتٍ من الفريق مرتجي نفسه لأحداثٍ وقعت لم يجد لها تفسيراً، وتركها للمؤرخين ولجان تقصي الحقائق ليتحروا حقيقتها، ولأن الكتابات العسكرية في بلادنا تخضع دائماً للتقييد والمنع بدعوى الأمن، حتى لو كان الحدث قد مر على حدوثه أكثر من خمسين عاماً، وحتى لو كان كل صانعيه قد واراهم الثرى، فإن المكتبة العربية فقيرة جداً للأسف في هذا الجانب، ولا نجد سوى كتب القادة الآخرين، والتي وإن وجدت بها روايات تعضد بعضها البعض، ستجد أيضاً على النقيض من ذلك روايات متضاربة ولا يخلو بعضها من الهوى وحظ النفس وربما الكذب والتدليس، ولدينا أيضاً كتابات المؤرخين القائمة على جمع الروايات المختلفة والترجيح بينها ونقدها والتعليق عليها، مع أهمية الانتباه لخلفية المؤرخ وتوجهه للانتباه لانحيازاته التي قد تطغى على موضوعيته. وفي هذا الصدد، يمكن قراءة كتاب (تحطيم الآلهة) لعبد العظيم رمضان، وكتاب (الطريق إلى النكسة: مذكرات قادة العسكرية 1967) لمحمد الجوادي، وكتاب (شاهد على حرب 1967) للفريق صلاح الدين الحديدي، وهو مكتوب بأسلوب هاديء ورصين من عسكري محترف. ونجد حديثاً جهد معتبر من د. خالد فهمي في السلسلة التي أعدها على اليوتيوب بعنوان (هزيمة يونيو المستمرة)، أو البحوث المشتركة المجموعة بكتاب (في تشريح الهزيمة)، كما لا يمكننا تجاهل ما كتبه العدو نفسه!

أما أحداث النكسة ذاتها، فمطالعة كل ما كُتب عنها تؤكد أننا حتى الآن لدينا أسئلة لا إجابات عنها، لأنها إما أُخفيت أو ذهبت مع أصحابها إلى القبور. وإن المرء ليعجب من اجتماع كل العوامل التي أدت لهذه الهزيمة الكاسحة، ويتساءل: هل من المعقول أن هذا الحدث كان مجرد صدفة؟ أو ذاك القرار كان مجرد نتيجة لإهمال وسوء تقدير أم نتيجة خيانة؟ لكن وضع الأمور في سياقها وتأمل كيف كانت أمور الأمة تُدار وبمن كانت تحكم، يؤكد أنه لم تكن الهزيمة لتحدث سوى كنتيجة مباشرة للاستبداد، أو بكلماتٍ أخرى، يمكننا أن نذكر العبارة التي يدندن بها د. وليد سيف في كتاباته، بأن (الطغاة هم شرط الغزاة)، ووضع الأمور في سياقها أيضاً يورث اليقين أن هذه الطغمة الفاسدة لم تكن لتحقق أي نصر في معركة فاصلة، ويُلخص ذلك قول الله تعالى "إن الله لا يُصلح عمل المفسدين".


وما زلنا نعيش في آثار هذه الهزيمة حتى اليوم، وما زلنا نعيش في ظل الاستبداد، مع ظروفٍ لا تختلف كثيراً عن ستين عاماً مضت، مما يعبر عن مدى بلاغة عبارة (هزيمة يونيو المستمرة).

الأحد، 25 مايو 2025

سقوط الجولان


 

كُتب هذا الكتاب بيد ضابط سابق بالجيش العربي السوري، وباالرغم من أنه لم يكن شاهد عيان على الحرب، حيث تم تسريحه من الجيش قبل الحرب بأعوام، لكن يستمد الكتاب أهميته من معرفة الكاتب الدقيقة بالجولان، لكونه قد تولى قيادة الاستطلاع على الجبهة.

بدأ الكتاب بسرد موجز لتاريخ سوريا الحديث بعد مرحلة الانتداب وما شابه من كثرة الانقلابات العسكرية وتذبذب الوضع السياسي، وما استتبعه من تأثير سلبي على الجيش، لكون كل إنقلاب يعمد إلى تصفية خصومه وتسريح أنصارهم من الجيش، وقد صاحب وصول البعث للسلطة في انقلاب عام 1963 تسريح الكثير من الضباط ومن ضمنهم الكاتب نفسه، والذي يذكر أنه "بحلول مايو 1967 كان عدد الضباط المسرحين لا يقل عن ألفي ضابط، مع عدد لا يقل عن ضعفه من ضباط الصف والجنود المتطوعين الذين يمثلون القوة الفعلية لمختلف التخصصات بالجيش، وحل محلهم عدد من ضباط الاحتياط جلهم من البعثيين، وأكثريتهم من العلويين تحديداً، وبذلك أصبح الجيش مؤسسة بوليسية لقمع الحريات والتنكيل بالشعب، لا جيشاً قادراً على صون الحدود والدفاع عن أرض الوطن. وقد رافق ذلك كله عمليات مجرمة، شملت حل بعض الوحدات المقاتلة، وتشكيل وحدات غيرها على أسس طائفية بحتة – تماماً كما فعل الفرنسيون أيام الاحتلال – وبذلك أصبح الجيش عبئاً كريهاً على عاتق الشعب، بدل أن يكون درعاً وحصناً يصون بلاده.

وقد تميزت تلك المرحلة من تصفية الجيش بصورة من العنف والتنكيل كان منها القتل والسجن والأحكام الاعتباطية والإعدام، ومصادرة الأموال والممتلكات وتضييق سبل العيش على الناس، حتى أصبح المواطن يمسي فلا يصدق أنه سيصبح بخير، أو يصبح فلا يصدق أنه سيمسي بدون أن يصيبه سوء".

بعد ذلك أفرد الكاتب فصلاً لوصف جغرافية الجولان وطبيعة أرضها ومناخها ومدى تميز موقعها وأهميتها السياسية والعسطرية، ثم أسهب في سرد الخطوط الدفاعية التي أُعدت لتجعل من الجولان حصناً يعوق أي محاولة لاختراقه، هذا بالإضافة للتحصينات الطبيعية المتمثلة في الطرق الوعرة، والتفاصيل التي عرضها تدمي القلب لأنها توضح الثمن الفادح الذي كان العدو سيتكبده لو لم تنسحب القوات المنوط بها الدفاع، لتترك الجولان لقمة سائغة للعدو.

ثم انتقل الكاتب لعرض الوضع العسكري للقوات السورية بشكل يومي منذ بداية العدوان في 5 يونيو، فذكر أن القوات السورية لم تشارك في اليوم الأول للحرب رغم نداءات مصر والأردن واتخذت وضع المراقب دون أن تحرك ساكناً رغم أن سوريا كانت السبب الأساسي لاندلاع الحرب، ومنذ صباح 6 يونيو قامت المدفعية السورية بقصف مركز استمر حتى 8 يونيو على شريط المستوطنات المقابل للجبهة السورية. وأن القوات الإسرائيلية المشغولة على الجبهات الأخرى لم تتفرغ للجبهة السورية بشكلٍ فعلي إلا في 8 يونيو، مما يؤكد أن الهزيمة الثقيلة لم تكن حتمية لو تحركت القوات السورية بشكلٍ جدي. ثم سرد تفاصيل التحركات للقوات السورية بعد ذلك والتي توحي للقاريء بأنه إما أن متخذي القرارات هم مجموعة من الحمقى منعدمي الكفاءة، وإما أنهم تعمدوا القضاء على القوات المسلحة السورية وتسليم الجولان!، والقاريء سيجد أن الكاتب يؤمن بالفرضية الثانية، ويعتبر أن ما حدث من تحريك للقوات خلال الحرب كان مسرحية هزلية للتغطية على التخلي عن الجولان وتسليمها للعدو!

من ضمن ما ذكره الكاتب هو أن الأوامر صدرت لقوات الاحتياطي للتقدم واحتلال بعض مستوطنات الشمال ومدينة صفد، ولكي تتمكن القوات المهاجمة من التقدم، صدرت الأوامر للقوات المرابطة للدفاع عن الجولان بالانسحاب!، وكانت النتيجة اختلاط الحابل بالنابل، وتسلى طيران العدو بقصف القوتين، "وكانت كارثة أفرغت المواقف الدفاعية من حماتها، وتركت الأرض عراءً أمام العدو تغطيها الجثث وهياكل الآليات!" أما الطيران السوري، فلم يظهر في سماء المعركة أبداً! ويؤكد الكاتب على أن الخطة الهجومية كانت تمثيلية الغرض منها فقط إخلاء المواقع الدفاعية من القوات.

ومنذ مساء 8 يونيو انتشرت الشائعات بصدور أوامر بالانسحاب، وبدأ بعض القادة والضباط الانسحاب بالفعل، ومنهم قائد الجيش، وقائد الجبهة الذي فر على ظهر حمار! وابعض ادعى الانسحاب إلى دمشق لحماية الثورة! ومن بقي حاول الاتصال بقيادة الجبهة التي خلت من أي مسئول، فانفرط عقد القيادة، و هرب الكثيرين، وبلغت ذروة تفاقم الأمر يوم السبت 10 يونيو بعد إذاعة بيان سقوط القنيطرة، والتي وصلها العدو بعد 17 ساعة من إذاعة البيان الكاذب!، وغصت الطرق بحشود الزاحفين هرباً من الموت سواء من الجيش أو المدنيين، بينما صمد القلائل – من غير البعثيين – وقاتلوا.

بعد العرض ليوميات الحرب، عرض الكاتب يوميات الفترة السابقة للحرب فيما يخص أهم الأحداث والتصريحات، فبدأ منذ 12 مايو بتصريحات العدو باستخدام القوة ضد سوريا، ثم ردود الأفعال في الأيام اللاحقة من تصريحات عنترية مضادة، وسفر رئيس الأركان المصري لسوريا لمعاينة الحشود الإسرائيلية المزعومة، والكثير من الكلام الحنجوري المكرر بأن القوات المسلحة في تمام الجاهزية والاستعداد وفي انتظار ساعة الحسم لهزيمة إسرائيل وتحرير فلسطين! ومنذ بداية الحرب، نجد سيل من البيانات العسكرية الكاذبة التي تدعي اسقاط عشرات الطائرات، وأن القوات السورية تتقدم داخل الأراضي المحتلة، وأن الاستعمار الأنجلوأميركي مشارك بقواته في المعركة، وهي صورة مشابهة للبيانات الكاذبة الصادرة من مصر. كما عرض تصريحات العدو، وكان من المؤلم فيها أن أجد تحليلاً واقعياً لأحد جنرالات العدو يتكلم فيه عن الجيش السوري وأن تعداده 65 ألفاً وهو رقم ضئيل بالنسبة لمساحة سورية، وأن الانقلابات التي تعاني منها سورية وينتج عنها تغيير دائم في صفوف الضباط وترفيعات مفاجئة لا تستند للخبرة ولكن للانتماء السياسي، كل هذا أضعف الجيش السوري كثيراً، أما قائد سلاح الجو، فقد صرح أن ثلثي سلاح الطيران السوري دُمر خلال ساعة واحدة، والثلث الباقي نُقل إلى مطارات خارج نطاق القتال!

بعد ذلك عدد الكاتب العديد من أوجه القصور في الاستعداد العسكري، وهي تتنوع ما بين عدم تفجير الملاغم في قوات العدو، والتي كانت ستمنعه من التقدم وتوقع به خسائر فادحة، مروراً بالفوضى في توزيع الأسلحة وتأخير توصيل الذخائر بحالة مناسبة للجبهة، وعدم وصول الطعام وماء الشرب للجبهة، والفوضى في توزيع الأفراد على أسلحة أو تكليفهم بمهام لم يتدربوا عليها من قبل، كما نفاجأ بأن النظام لم  يعلن التعبئة العامة أصلاً! وعرض صورة لأسبقية الولاء الحزبي على الهرمية العسكرية، وتحسر على الوثائق والأسلحة التي تركها المنسحبون هدية للعدو دون أن يعنوا بنسفها، ثم عرض أعمال العدو خلال الحرب والتي كان أساسها القصف الجوي، ثم تقدم المدرعات الحذر، والذي ووجه بمقاومة ضعيفة إثر انسحاب أغلب القوات المدافعة، ولقي العدو خسائر ضعيفة، كانت لتكون ضخمة لو صمدت القوات في مراكزها الدفاعية، ويحكي الكاتب أن إحدى الدبابات السورية المنسحبة تعطلت، ولم يكن أمام قائدها إلا أن يقاتل، فأدار مدفع الدبابة تجاه الدبابات الإسرائيلية المتقدمة وتمكن من تدمير ستة منها، ولم يتمكن العدو من القضاء عليه إلا بعد الاستعانة بالطيران، وعدد الكاتب العديد من البطولات الفردية لمن ثبتوا في مواقعهم، وحتى بعض أبناء الجولان ممن قاوموا بما وجدوه من أسلحة الجنود الفارين، وتمكنهم من قتل العديد من جنود العدو وتدمير العشرات من مدرعاته، فلنا أن نتخيل كيف سيكون الحال لو لم تنسحب القوات!

أشار الكاتب عدة مرات في كتابه لحزب البعث بكونه حزباً طائفياً مسيطراً عليه من الطائفة العلوية، وأن العدو يعتبر وجود هذا الحزب في السلطة ضمانة لأمن إسرائيل، وأن الحزب هو السبب الرئيس في إضعاف الجيش للأسباب التي سبق ذكرها من تسريحات واعتقالات واضطهاد وخلافه، وأن الحزب كذلك كان حريصاً على سحب المنتمين له من الجبهة، وترك ما سوى ذلك لمصيرهم، بالإضافة للقصة التي حكاها عن طلب استدعاء الشباب من أربع مدن معروف أنها ذات أغلبية سنية للزج بهم في المعارك، وتجاهل مناطق الأقليات، وكأن الهدف هو إفناء أهل السنة!

عدد الكاتب بالتفصيل مرة أخرى كل صور القصور العسكري ليدلل بها أن الهزيمة العسكرية وسقوط الجولان كان نتيجة خيانة وتدبير مسبق من حكومة البعث، والحقيقة أني قبل أن أطلع على ما كتبه كنت أعتبر الحديث عن الخيانة الصريحة من قبيل المبالغة، ولكن بعد قراءة التفاصيل فإني لا أصدق ولا أكذب، فالطغمة التي حكمت – وظلت تحكم – سوريا وقادتها لهذه الهزيمة المخزية يُتوقَع منها أي شيء، ولقد تعددت تصريحاتهم البلهاء من قبيل (أن هدف العدو كان إسقاط النظام الثوري التقدمي في سوريا، وأنه طالما لم يُفلح في هذا، فإنه لم ينتصر) و(ليس مهماً أن يحتل العدو دمشق أو حمص أو حلب، فكلها أراضٍ يمكن تعويضها، أما إذا قضى على حزب البعث، فكيف يمكن تعويضه وهو أمل الأمة العربية!)، وبعيداً عن هذا الهراء، فقد حكى الكاتب مرة عن اتفاق بين البعث والعدو بحيث يمنع القوات السورية من المشاركة الفعلية في الأيام الأولى للحرب، بما يسمح للعدو بالانفراد بالجبهتين المصرية والأردنية، مقابل عدم التعرض للقوات السورية، وأن البعث التزم بالاتفاق وكان تحريكه للقوات مجرد تمثيلية، لكن العدو في النهاية لم يلتزم بجانبه، وهذه الحكاية أرفضها عقلاً ومنطقاً، وإن كانت الشهادات الأخرى كشهادة الفريق مرتجي قائد جبهة سيناء  تؤكد على أن العدو اتخذ قراراً في منتهى الجسارة، فقد خصص كامل قواته الجوية تقريباً للضربة الجوية التي دمر بها الطيران المصري، وترك 12 طائرة فقط للدفاع عن إسرائيل، ولو شارك الطيران السوري لاستطاع تدمير طيران العدو على الأرض بعد أن يعود من ضربته لمصر والأردن، ولتغير مجرى المعركة، والحقيقة أن هذا القرار من العدو قد يكون اتخذ استناداً إلى توقع ردود أفعال النظام السوري وأنها ستكون متأخرة، وهي في هذه الحال قد تكون مقامرة أكثر من كونها جسارة، أو أن تكون نتيجة التأكد من خيانة النظام السوري بالفعل!

 وفي مرةٍ أخرى حكى الكاتب عن رسالة من العدو للقيادة السورية يوم 9 يونيو، يُحذر العدو فيها من أنه إن لم تنسحب القوات السورية من الجولان، فإن العدو لن يتوقف حتى يصل دمشق، وكانت النتيجة أنه في صباح اليوم التالي أذاع النظام السوري نبأ سقوط القنيطرة من قبل أن تسقط. وهذه الرواية يمكن قبولها عقلاً ومنطقاً، فإنه لا يُستبعد على البعثيين وعلى رأسهم الأسد أن يضحوا بالعالم كله طالما أنهم باقون على كراسيهم، حتى لو كان ما تبقى لهم ليحكموه هو مجرد خرابة.

وهكذا ينتهي هذا الكتاب الهام الذي يعطي الفرصة للمهتمين بهزيمة 1967 لاستكمال الصورة، والاطلاع على الموقف على الجبهة السورية، ولئن كانت الشهادات على الهزيمة من جانب مصر والأردن تؤكد على أن تأخر التدخل السوري وعدم مشاركة سلاح طيرانه كان لها عامل حاسم على قدرة العدو على الانفراد بالساحة، فإن المرء لا يملك إلا أن يرصد أوجه التشابه بين الجبهتين المصرية والسورية، فيما يتعلق بالفوضى، وانعدام الكفاءة، وسوء التخطيط، وحشد القوات غير المدربة، وإضاعة الفرص، والانسحاب غير المنظم، ولكن التشابه والتماثل الأعظم يكمن في (الاستبداد)، وهو ما يذكرنا مرة أخرى بالعبارة التي يدندن بها د. وليد سيف في كتاباته، بأن (الطغاة هم شرط الغزاة)، ووضع الأمور في سياقها أيضاً يورث اليقين أن هذه الطغمة الفاسدة لم تكن لتحقق أي نصر في معركة فاصلة، ويُلخص ذلك قول الله تعالى "إن الله لا يُصلح عمل المفسدين".

تاريخ فلسطين الحديث


 يتناول هذا الكتاب تاريخ فلسطين الحديث حتى نهاية الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1939، ويُعتبر من الكتب الهامة والمتميزة في مجاله، لاعتماده بشكل كبير على الأرشيفات والسجلات والرسائل والوثائق التاريخية، بل وحتى المقابلات الشخصية مع بعض صناع الحدث كالمفتي أمين الحسيني.

بدأ الكتاب بعرض لمحة عن جغرافيا فلسطين وتاريخها القديم بشكل مختصر، ثم تناول في الفصل الثاني بشكل أكثر تفصيلاً الوضع العام لفلسطين في أواخر العهد العثماني.
وهنا أستطرد قليلاً لأن من خلال هذا العرض المبدئي، يتبين للقاريء خلفية الكاتب الفكرية وتوجهه، والذي يتضح أنه قومي، وهو شيء طبيعي ومتفهم نظراً للعصر الذي شهد خروج هذا العمل للنور (أواخر الستينيات)، وبشكلٍ عام، فإن خلفية الكاتب وتوجهه تحدد انحيازاته واختياراته ومفاهيمه، ولذلك يجب على قاريء التاريخ أن ينتبه لأيديولوجية المؤرخ قبل القراءة، وأن ينتبه لمدى تأثيرها على جهده البحثي وموضوعيته، وأن ينتبه للفارق بين المعلومة والرأي، فإنه لا يُتوقع أن يخلو أي عمل من تحيزات لأن عدم التحيز هو أمرٌ مخالفٌ للطبع البشري، لكن غاية ما يرجوه المرء من الكاتب هو أن يكون موضوعياً، وأعتقد أن د. عبد الوهاب الكيالي في هذه الدراسة قد غلبت موضوعيته تحيزاته مهما ظهرت.
ومن جانبٍ آخر، فإنه من المفيد أن ينظر المرء للحدث التاريخي بأعين مؤرخين من خلفيات فكرية مختلفة حتى لو لم يتفق معها، فإن كل مؤرخ حينها سيتناول الحدث التاريخي من منظورٍ مختلف ويركز على زوايا لم يركز عليها غيره، سواء عن حقٍ أو بتعسف، وحينها لن يعدم القاريء من حصول الفائدة الناتجة من تنوع الرؤى واكتمال الصورة.
نعود لموضوع الكتاب، تحدث الكاتب عن بدء نمو ظاهرة الهجرة اليهودية لفلسطين أواخر عهد العثمانيين، وبدى الجانب القومي في تناوله للثورة العربية، وهو ما يدعونا لاستطراد آخر لأننا نحتاج ونحن ندرس مثل هذه الأحداث الفارقة أن ننتبه لمنظور أهل العصر لها، ونتفهم الدوافع والمسببات حتى لو لم نتفق معها بالضرورة، فهذه الثورة إن كانت بحساباتنا الحالية – وخصوصاً لو كانت أيديولوجيتك إسلامية - هي من قبيل الخيانة، فهي من منظور الغير رد فعل على سياسات التتريك والتهميش للعرب وغيرهم.
لعب اليهود على كل الحبال لكي يحققوا أحلامهم، ولكنهم تعلقوا بعنق بريطانيا التي رأت في تبني الحلم الصهيوني اتفاقاً في المصالح، وبالتالي كان وعد بلفور، ومن بعده وثيقة الانتداب، في الوقت الذي كان العرب فيه ممزقين ما بين الاستعمار أو الانتداب أو الملكيات المتحالفة مع الاستعمار.
نلاحظ أن وعي أهل فلسطين المبكر بخطر الصهيونية والهجرة اليهودية، وسعيهم بشتى الوسائل لتنظيم صفوفهم للوقوف ضد هذا الخطر، فنشأت العديد من الجمعيات الإسلامية المسيحية، ونشط دعاة الوحدة المطالبين بوحدة سوريا الكبرى الممزقة بين الفرنسيين والإنجليز، ويُلاحظ أنهم كانوا يُعبرون عن فلسطين بصفتها (سوريا الجنوبية)، كما تكررت الهبات والانتفاضات الشعبية الناتجة من الاحتكاك مع العدو، وعلى رأسها ثورة العشرين، وثورة البراق عام 1929. وفي وسط هذه الهبات نشأت على استحياء بعض الجماعات التي تبنت الكفاح المسلح ومنها جماعة (الفدائية)، ولكن هذه المجموعات كانت تُطارد وتحاصر وتوئد، ليس فقط بواسطة قوات الانتداب البريطاني، بل أيضاً من خلال اليهود الذين كونوا أجهزة استخبارات خاصة بهم!
على مدار الكتاب يبدو جلياً تباين المواقف بين الشباب وبين الشيوخ والوجهاء، ففي حين كان الشباب أكثر وعياً بالمخاطر وسعياً للكفاح والحل الثوري، كان الوجهاء أكثر تريثاً وميلاً للمهادنة والسلام مع الإنجليز، ولم يكن هذا مستغرباً لكون أكثرهم من الاقطاعيين أصحاب المصالح، وكانت تسيطر عليهم مشاعر الهيبة تجاه بريطانيا والخوف منها ومن قوتها، وحتى حينما قررت بريطانيا أن تعين شخصية صهيونية (هربرت صمويل) كأول مندوبٍ سامٍ لها بفلسطين، فإن الوجهاء تهيبوا حتى أن يقاطعوا الاجتماع معه!
تعدد الاضطرابات نشأ عنه تعدد للوفود التي تكرر سفرها لبريطانيا لعرض وجهة النظر العربية، والتي كانت ترجع صِفر اليدين سوى من وعودٍ بأن وعد بلفور كما تبنى فكرة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، فإنه جعل ذلك مشروطاً بعدم التعرض لحقوق أهل البلاد، وكانت الأحداث تثبت أن بريطانيا كانت تسوف وتشتري الوقت لصالح اليهود.
تحدث الكاتب عن مؤتمر القاهرة عام 1921، وهو مؤتمر هام دعا إليه تشرشل بصفته وزير المستعمرات، والتقى فيه بكبار المسؤولين الإنجليز في الشرق الأوسط ليناقش ترتيبات المنطقة في مرحلة الانتداب والاضطرابات في العراق وسوريا، وكان من ضمن توصيات المؤتمر إنشاء إمارة شرق الأردن بقيادة عبد الله بن الحسين، لتكون مأوى للفلسطينيين الذي سيضطرون مستقبلاً لمغادرة بلادهم بسبب المخطط الصهيوني!
شهدت المرحلة منذ بداية الانتداب وحتى اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 متغيرات عدة، فقد فترت الهجرة اليهودية قليلاً في العشرينيات ثم عادت لترتفع وتيرتها بشكلٍ كبير بعد صعود النازية في ألمانيا في الثلاثينيات، وازدادت معاناة الفلاحين الفلسطينيين إزاء زيادة الأعباء الاقتصادية والضرائب الحكومية عليهم، بخلاف نزع الأراضي من صغار الفلاحين وتواطؤ حكومة الانتداب لتيسير استحواذ اليهود عليها، وتعددت الصدامات بين العرب واليهود، وبين العرب وحكومة الانتداب، وفي خلال هذا كانت دعوة الشيخ عز الدين القسام تكتسب الأنصار في حيفا ومحيطها، إلى أن خرج الشيخ مع بعض أنصاره لبدء الاستعداد للجهاد أواخر عام 1935، واستشهد مع بعض رفاقه مشتبكاً مع العدو، وكان استشهاده علامة فارقة وإحدى الشرارات التي أدت لاندلاع الثورة بعدها بأشهرٍ قليلة.
مع اندلاع الثورة وبدء الاشتباكات المسلحة مع العدو وانضمام العديد من المتطوعين من خارج فلسطين لدعم الثورة، اضطر الانجليز لاستدعاء الاحتياطي وطلب قوات من مصر ومن بريطانيا ذاتها لكي تستطيع السيطرة على الموقف، وفي حين كان الشعب يسجل مواقف مشرفة في النضال والقدرة على التحرك بشكل موحد لدعم الثورة عن طريق الاضرابات العامة مثلاً، فإن القيادات مرة أخرى لم تكن على مستوى الحدث، وكانوا يصارحون الانجليز أنهم لا يستطيعون كبح جماح الجماهير كي لا يفقدوا مصداقيتهم أمامهم، أما الملكيات والحكومات العربية المحيطة، فما كان منها إلا أن ضغطت على الثوار ترضيةً لبريطانيا وثقةً بها، ودعوا لحل الإضراب والاعتماد على النيات الطيبة لصديقتهم بريطانيا!
وفي نفس السياق، كان حزب الدفاع الوطني التابع لآل النشاشيبي - المنافسين لآل الحسيني عائلة المفتي – لديه النية للموافقة على قرار تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وكان ذلك بالتواطؤ مع عبد الله ملك الأردن الذي كان سيكسب من ذلك توسيع مملكته إذا ضم إليها الضفة. ومع تباين المواقف، كان بعض الساسة يسعى لإيجاد أي قدر من المرونة والوصول لحل وسط، لدرجة أن جمال الحسيني عرض الموافقة على بقاء اليهود الحاليين في فلسطين واعتبارهم مواطنين لهم حقوق كاملة وتمثيل نسبي وحكم ذاتي في مناطقهم، لكن حتى مثل هذه التنازلات لم تقبلها حكومة الانتداب التي كان همها الأول هو كسر الثورة ومحاكمة (المتمردين).
وقد تعرضت الثورة للعديد من الضربات داخلياً وخارجياً حتى خمدت في عام 1939، الذي شهد مطلعه مؤتمراً في لندن حضرته وفود من فلسطين ومن الدول العربية (المستقلة)، وحضر كذلك وفد صهيوني بقيادة وايزمان، وقابل الإنجليز كل طرف على حدة لرفض العرب الاجتماع بالصهاينة، وكانت الطلبات العربية هي استقلال فلسطين ووقف الهجرة اليهودية وبيع الأراضي وفكرة الوطن القومي اليهودي، أما وايزمان فقد طالب باستمرار تنفيذ ما ورد بصك الانتداب وتصريح بلفور، ورفض أن يكون اليهود أقلية في فلسطين، بل وقدم البراهين والحجج التي تثبت للإنجليز الفائدة التي تعود عليهم من وجود (حليف مخلص نشيط تقدمي) في هذا الجزء من العالم. أما الإنجليز، فكان الوضع العام في أوروبا الذي ينذر بقرب نشوب الحرب دافعاً لهم لعدم إغضاب العرب وإثارة حفيظتهم، لكنهم لم يعطوا لهم شيئاً حقيقياً في المقابل، أما اليهود فقد شعروا أن بريطانيا توشك على التخلي عن سياسة الوطن القومي اليهودي، فبدأ الصهاينة في الوقت نفسه بالتطلع شيئاً فشيئاً نحو الولايات المتحدة.
وبعد أن أنهى الكتاب، وضع الكيالي ملحقاً للوثائق، أدرج به مراسلات الحسين مكماهون، وكذلك نص صك الانتداب، والمطلع على المراسلات يجد أن الإنجليز باعوا الهواء للعرب، وحفلت ردود مكماهون بعبارات مطاطة لا تلزم الإنجليز بحدود الدولة التي رغب فيها الشريف حسين، بل لقد قلصوا منها وجعلوا الشام والعراق رهناً للاعتبارات السياسية والعسكرية لكل من إنجلترا وحليفتها فرنسا، وحتى عام 1939 كانت الوفود العربية في مفاوضاتها مع الإنجليز تستدعي ما فهموه من هذه المراسلات بأن فلسطين مشمولة في المنطقة التي تعهد مكماهون نيابةً عن الحكومة البريطانية بأن يعترف باستقلال العرب فيها ويؤيده، وكان رد الإنجليز أنهم يأسفون لسوء الفهم الذي نشأ حول بعض العبارات الواردة في هذه المراسلات، وأنهم لا يرون إلا أن فلسطين وكل الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن كانت خارجة عن هذا التعهد!
أما صك الانتداب، فإن المطلع على مواده يجد أنه يُمكن أو يوصف باختصار أنه اللائحة التنفيذية لتطبيق وعد بلفور، وترتيب كافة الأوضاع التي تُمكن من إقامة الوطن القومي اليهودي على أرض فلسطين.
وإلى هنا ينتهي هذا الكتاب الهام في موضوعه والمميز في مصادر جمع مادته، وإن المرء ليأسف أن العدو قد اغتال كاتبه قبل أن يتمكن من إعداد الجزء الثاني من الكتاب. ولا يملك المرء وهو يقرأ هذه التفاصيل التاريخية، ما بين ثورة الشعب المقاوم ضعيف التسليح أمام عدو مدجج بالسلاح، وهو ما بين مطرقة العدو، وسندان القيادات المتخاذلة والحكومات العربية العميلة، إلا أن يقارن ما بين الحاضر والماضي، فنحن نشهد ما حدث حينها رأي العين، لكننا نوقن أن النهاية ستكون مختلفة، وعسى أن يكون هذا قريباً!

التطهير العرقي في فلسطين


 

يعتبر هذا الكتاب من أفضل وأهم الكتب التي تناولت النكبة، لا من جهة السرد التاريخي فقط، ولكن من جهة منهجية الدراسة في المقام الأول.
يبدأ الكتاب بمشهد سينيمائي متخيل لاجتماع حقيقي حدث في تل أبيب في 10 مارس 1948 في البيت الأحمر الذي صار مقر قيادة الهاجاناه، حيث اجتمع أحد عشر رجلاً من القيادات العسكرية والسياسية ليضعوا اللمسات الأخيرة لخطة التطهير العرقي في فلسطين، وفي مساء نفس اليوم، أرسلت الأوامر لكافة الوحدات العسكرية لتنفيذ المخطط، كلٌ في منطقته.
يذكرنا هذا المشهد وهذا الاجتماع باجتماعٍ آخر عُقد في أحد ضواحي برلين قبل هذا التاريخ بقرابة الستة أعوام، وهو المعروف باسم مؤتمر فانسي، الذي نوقشت فيه قضية (الحل النهائي) للمشكلة اليهودية، ووضعت فيه أيضاً اللمسات الأخيرة لتطهيرهم عرقياً في أراضي الرايخ، وهكذا أصبح ضحايا الأمس، جلادي اليوم.
يبني إيلان بابيه – وهو أحد أهم المنتمين لتيار المؤرخين الجدد في دولة العدو – فرضيته في هذا الكتاب على أن أغلب الدراسات التي تناولت النكبة كحدث، إما تناولته من وجهة النظر الإسرائيلية بصفته (حرب الاستقلال)، وأن السكان المحليين غادروا أراضيهم طوعاً، وإما تناولته من وجهة النظر العربية بصفته (النكبة) فحسب، والذي يعتبره بابيه تعبير مراوغ يشير إلى الحدث أكثر ما يشير إلى من تسبب به، لكن بابيه يؤكد على أن التوصيف الأدق لما جرى في النكبة هو دراستها من منظور أنها عملية تطهير عرقي.
شرع بابيه بعد مقدمته في عرض تعريف التطهير العرقي، ونماذج تاريخية لهذا العمل ومقارنتها بما جرى على أرض فلسطين، ثم انتقل إلى عرض الدوافع الصهيونية الأيديولوجية لعملية التطهير، من سعي الصهيونية لخلق دولة يهودية حصراً، ومن ثم انتقل إلى الوسائل المبكرة التي لجأ لها الصهاينة لتحقيق هذا الهدف، والتي تضافرت فيها الجهود السياسية والاقتصادية، مع الاستخباراتية والعسكرية.
كانت التحضيرات العسكرية الأولية تتضمن تشكيل نواة القوة العسكرية الصهيونية، حيث نشأت الهاجاناه في مطلع العشرينيات بغية حماية المستعمرات اليهودية، وتطورت عبر السنوات تحت أنظار ودعم سلطات الانتداب البريطاني، وحدثت لها طفرة حين تولى تدريبها الضابط الإنجليزي أورد وينجيت خلال فترة الثورة الفلسطينية الكبرى، ليقودهم في الأعمال التأديبية والانتقامية ضد القرى العربية الثائرة.
على التوازي بدأ الصهاينة جهدهم الاستخباراتي من وقت مبكر، حيث بدأوا بإعداد ملفات للقرى العربية، وقاموا بمسح كامل القرى في أرض فلسطين (بما فيها المسح الفوتوجرافي الجوي!) وتسجيل كافة المعلومات عنها، جغرافياً وبشرياً، مع تحديد العناصر الوطنية والشخصيات التي شاركت في الثورة الفلسطينية سواء بالدعم أو بالقتال المباشر، وكونت شبكة من العملاء والواشين في القرى للإبلاغ عن العناصر الوطنية والمتعاونة مع المفتي أمين الحسيني، وكل هذه المعلومات كانت تحت أيدي الوحدات العسكرية الصهيونية قبل بدء عمليات التطهير، وتصرفت على أساسها.
يؤكد بابيه على أن كل الإحصاءات تشير إلى أن أقصى ما كان بحوزة الصهاينة من أراضي فلسطين بنهاية عصر الانتداب هو 6% من مساحة فلسطين، وذلك بعد كل عمليات الشراء والإخلاء والطرد للفلاحين، وتسهيل امتلاك الأراضي من خلال سلطات الانتداب، وهذا الأمر رسخ قناعة لدى قادة الصهيونية وعلى رأسهم بن جوريون أن إقامة الدولة الصهيونية لن يكون ممكناً إلا من خلال طرد العرب من أراضيهم بالقوة، وأن هذا الطرد لن يكون ممكناً بدوره إلا من خلال القوة المسلحة وعمليات الإرهاب والتطهير العرقي.
من النقاط التي لفتت نظري مدى البراجماتية والمرونة التي كانت لدى بن جوريون ورفاقه، ومدى قدرتهم على تغيير خططهم وتطويرها في ضوء متغيرات الواقع، وكذلك قدرتهم على قراءة هذا الواقع والتقدير الصحيح لموازين القوى، ومن بعد منتصف الأربعينيات بدأ الصهاينة يشعرون بأنهم استجمعوا مقومات القوة وصاروا ينظرون إلى وجود السلطات الانتدابية نفسها كعائق، فبدأت سلسلة من العمليات الإرهابية ضد الإنجليز، وكان رد الفعل باهتاً وضعيفاً مقارنةً بالقسوة المفروطة والقمع الذي واجهت به سلطات الانتداب الثورة الفلسطينية، وانتهى الأمر بإعلان الإنجليز في فبراير 1947 أنهم قرروا مغادرة فلسطين – وإن كان هذا قد تم فعلياً في مايو 1948 - وعلى كلٍ، فما كانت إسرائيل لتكون لولا دعم الانتداب، الذي كان صكه يذكر بكل صراحة أن من أهدافه تنفيذ وعد بلفور وتمكين إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. أما فيما يخص العمليات ضد العرب، فقد تطورت الخطط، بدءاً من الخطة ألف (أ)، وصولاً إلى التصور النهائي الخطة داليت (د)، وهي الإصدار الأخير الذي شكل عمليات التطهير العرقي قبيل وأثناء النكبة.
على الصعيد الدولي، أعلنت الأمم المتحدة في نوفمبر 1947 قرار تقسيم فلسطين، وأعطت للصهاينة 56% من مساحة فلسطين، ورفضت الدول العربية القرار، أما الصهاينة فقبلوا القرار فيما يتعلق بحقهم في إقامة دولتهم، أما حدود هذه الدولة، فقد صرح بن جوريون بأنها "ستتعين بالقوة، لا بقرار التقسيم". وفي المجمل، كان للصهاينة طموح للحصول على كافة أراضي فلسطين وما بعدها، وكانوا يطورون أهدافهم طبقاً لقدراتهم المرحلية، وكانت الأولوية في هذه المرحلة هو إقامة دولة على أكبر قدر ممكن من الأراضي العربية.
بدأت عمليات التطهير العرقي أوائل ديسمبر 1947 بسلسلة من الهجمات على قرى عربية وأحياء في المدن، رداً على الأعمال التخريبية التي واكبت الاحتجاجات الفلسطينية على قرار التقسيم، وكانت هذه الأعمال (الانتقامية) الأولية من العنف الذي أدى إلى نزوح عدد كبير من الناس من بيوتهم.
في أوائل يناير 1948 بدأ دخول وحدات قليلة من المتطوعين العرب لمقاومة الصهاينة، وانتصرت القوات اليهودية عليها بسهولة، وغيرت تكتيكاتها من عمليات انتقامية إلى عمليات تطهير وطرد بالقوة، وخصوصاً بعد إقرار الخطة دالت في مارس 1948، ومع حلول أبريل 1948، كان اليهود قد نجحوا في اقتلاع 250 ألف فلسطيني من أراضيهم!
بدأ مخطط اليهود في الانتشار وفقاً للمساحة المقررة لهم بخطة التقسيم، مع الأخذ في الاعتبار أماكن المستعمرات اليهودية النائية، وقد قرر الصهاينة أنه لابد من الوصول لهذه المستعمرات وجعل كل الأراضي الواصلة لها يهودية خالية من العرب، وبدا أن الحدود قابلة للتمدد في كل الجهات، مع وجود عامل مقيد، هو حدود ما عُرف بعد ذلك بالضفة الغربية لنهر الأردن.
أشار بابيه لوجود مفاوضات مبكرة للصهاينة مع عبد الله الأول ملك الأردن، الذي كان يرغب في توسيع مملكته الصحراوية بضم أراضي الضفة الخصبة إلى مملكته، ورغم أن أراضي الضفة تضم مواقع يعتبرها الصهاينة توراتية تنتمي لوجودهم القديم في فلسطين، لكنهم كانوا عمليين ويدركون أن الكثافة السكانية العربية في الضفة تمنعهم في الوقت الحالي من احتلالها، لذا تلاقت الرؤى، وعلى إثره اكتفى الأردن خلال الحرب بنشر قوات جيشه (الفيلق العربي) على حدود الضفة الغربية، واقتصر على صد أي هجمات من الصهاينة، دون الدخول في عمليات هجومية توقف عمليات التطهير والطرد الجارية في بقية فلسطين!
أشار بابيه أيضاً لفارق القوة العسكرية بين اليهود والعرب، فقد شكل اليهود جيشاً بلغ عشية حرب 1948 50 ألف مقاتل، وصلت بعد التعبئة العامة إلى 80 ألف جندي بنهاية الصيف، في مواجهة قوة عسكرية فلسطينية متواضعة لا تجاوز 7000 بتسليح رديء، مع نحو 3000 متطوع عربي، أما إجمالي الجيوش العربية، فلم يتجاوز 50 ألف جندي، وإذا أخذنا في الاعتبار أن قسماً كبيراً منهم لم يكن ذو فعالية حقيقية – كما ذكرنا في حالة الفيلق العربي – وأن قوات جيش الإنقاذ قد تقسمت بين ثلاثة قادة (فوزي القاوقجي وحسن سلامة وعبد القادر الحسيني) واتخذت في أغلبها مواقع دفاعية وكانت تحركاتها في الأغلب وفق توجهات الدول العربية التي كانت تخشى طموحات المفتي، وأن القوات النظامية لم تكن تتحرك بتنسيق ولم تكن على نفس القدر من التسليح مقارنةً بالصهاينة الذين نجح الحزب الشيوعي الصهيوني في الحصول للصهاينة على شحنة كبيرة من الأسلحة من تشيكسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي في وقت مبكر، فقد كان هناك فارق حقيقي في القوة، مع مراعاة أن حتى الأرقام أعلاه تختلف بين المراجع، زيادةً ونقصانا. وفي رسالة لبن جوريون في فبراير 1948 ذكر موشيه شاريت أن القوات اليهودية تكفي بالكاد للدفاع عن النفس، لا للاستيلاء على البلد، فرد بن جوريون أنهم "إذا استلموا الأسلحة التي اشتروها والتي وُعدوا بها في الوقت المناسب، سيكون بإمكانهم أيضاً إيقاع ضربات مؤلمة بالسوريين في عقر دارهم، وأن يحتلوا فلسطين بأسرها، ومواجهة القوات العربية كافةً، وأن هذا ليس إيماناً صوفياً، ولكن حسابات منطقية تستند إلى معطيات عملية". كما صرح بن جوريون بأن "خريطة التقسيم تتضمن 40% من غير اليهود في الأماكن المقررة للدولة اليهودية، وأن هذه التركيبة لا تمثل أساساً متيناً لدولة يهودية من حيث الميزان الديمغرافي، وأن فقط دولة لا يقل اليهود فيها عن 80% ممكن أن تكون دولة مستقرة". وعلى هذا الأساس كانت عمليات التطهير العرقي لازمة لتشكيل هذه الدولة.
تطورت أساليب العنف الصهيوني، فمن البدء بتحرشات بالعرب تنتج عنها أعمال مقاومة تكون ذريعة لأعمال انتقامية، مروراً بعمليات التطهير الكامل بأساليبها المتعددة، تدرجاً من حصار القرى العربية بالآليات والقوات المسلحة، والإنذار والتخويف بمكبرات الصوت والمنشورات، وصولاً للتفجيرات ونسف البيوت والقتل العشوائي، مما يخلق حالة من الرعب والإرهاب تجبر الأهالي العزل على الهروب إلى القرى المجاورة، ويروون على مسامع غيرهم ما لقوا، فتكون القرية التالية مهيأة نفسياً للنزوح قبل أن تلقى نفس المصير، وهلم جرا. وكانت مجزرة قرية دير ياسين في أبريل 1948 من أهم وأشهر الأمثلة على هذه السياسة.
وبخلاف القرى، فقد استفاض بابيه في عرض تفاصيل ما حدث لأهم المدن العربية: صفد، بيسان، القدس، كما تعرضت الأحياء العربية في حيفا وعكا وغيرها من مدن الساحل لأكبر صور العنف الصهيوني، وكل هذا على مرأى ومسمع من قوات الانتداب البريطاني التي لم تحرك ساكناً حتى بعد استغاثة السكان العرب بهم، وامتلأ ميناء حيفا بأعداد كبيرة من النازحين الذين يبحثون عن وسيلة يهربون بها من الموت. واستسلمت عكا بعد أن لوثت القوات المحاصرة لها مصادر المياه بالتيفود، أما يافا فقد كانت آخر مدينة تم احتلالها، وذلك في 13 مايو قبل يومين من نهاية الانتداب، وهوجمت من قبل 5000 جندي من الهاجاناه والإرجون، وحاول الدفاع عنها عدد من المتطوعين العرب تحت قيادة ميشيل العيسى، وهو مسيحي فلسطيني، وكان من بين المتطوعين وحدة استثنائية مكونة من 50 مسلماً من البوسنة، وبعد البحث وجدت أن قضية فلسطين قد اجتذبت في هذا الوقت بخلاف المتطوعين العرب متطوعين مسلمين من البوسنة، وقد أشار لهذا أيضاً أمين الحافظ في شهادته على العصر، وبخلاف ذلك، شارك في الدفاع عدد من أفراد الجيل الثاني من فرسان الهيكل، وهم مستعمرون ألمان جاءوا البلد في منتصف القرن التاسع عشر كمبشرين دينيين، وقرروا الآن أن يدافعوا عن مستعمراتهم (وجدت إشارة لمقدم هؤلاء الألمان في كتاب الجذور الاجتماعية للنكبة)، ويستطرد بابيه بأن فرسان آخرين قد استسلموا في الجليل بدون قتال، وطردوا من أماكن تواجدهم بجوار مدينة الناصرة.
يذكر بابيه أنه في غضون أسبوعين بعد نهاية الانتداب، كانت القوات اليهودية قد وصلت إلى معظم المستعمرات اليهودية المعزولة، اثنتان منهما فقط احتلهما الفيلق العربي لأنهما كانتا واقعتين في المنطقة التي اتفق الطرفان قبل مايو 1948 على أن يحتلها الأردن ويضمها إليه، أي الضفة الغربية، وقد أصر الأردنيون على أن لهم يكون نصف القدس الذي يحوي المدينة القديمة والأماكن الإسلامية المقدسة، وحيث لم يكن هناك اتفاق مسبق بشأن القدس، فقد اضطروا للقتال من أجل حصتهم، ونجحوا في تحقيق هدفهم، وكانت تلك المرة الوحيدة التي اشتبك فيها الطرفان في معركة، وذلك خلافاً لامتناع الفيلق العربي من التدخل حينما كانت وحداته مرابطة بالقرب من القرى والبلدات الفلسطينية، بينما كان الجيش الإسرائيلي يقوم بالاحتلال والتطهير والتدمير.
ومن المعلومات التي استوقفتني، معلومة ذكرها بابيه عن قرار عدد من الأقليات الإثنية في فلسطين أن تنضم للقوات اليهودية التي استشفوا أنها ستكون الجانب المنتصر، وفي ذلك يذكر أن 500 من الدروز فروا من جيش الإتقاذ وانضموا للقوات اليهودية، ولكنهم قبل أن يغيروا معسكرهم طلبوا من القادة اليهود افتعال معركة وهمية وأخذهم أسرى! وشاركوا في عمليات التطهير العرقي في الجليل، وكذلك انضم لليهود 350 من الشركس القاطنين في قرى في شمال فلسطين، ومن هذه الأقليات تكونت نواة حرس الحدود الإسرائيلي.
ويتحدث بابيه عن ما أسماه (الحرب الحقيقية) و(الحرب المزيفة)، فبتحييد أقوى الجيوش العربية الداخلة لفلسطين (الجيش الأردني) بفعل التحالف الضمني بين الملك عبد الله والحركة الصهيونية، سمى الجنرال جلوب قائد الفيلق العربي حرب 1948 (الحرب المزيفة)، بينما اعتبر بابيه أن (الحرب الحقيقية) كانت تمثل استمرار اليهود في مخطط التطهير العرقي بالتوازي مع العمليات العسكرية الحقيقية مع بقية القوات العربية المتشرذمة، مع تكثيف عمليات التطهير خلال فترات الهدنة. وكانت مجزرة الطنطورة من أشهر المجازر التي جرت بعد اندلاع الحرب بأيامٍ قلائل.
وقد لخص بابيه أداء القوات العربية التي من المضحك أن القائد العام لها هو الملك عبد الله نفسه، فالقوة التي أرسلتها مصر تم تجميعها قبل يومين فقط من بدء الحرب، والقوات السورية كانت أفضل تدريباً والساسة كانوا أكثر التزاماً، ولكن أداء القوات على الأرض كان سيئاً لدرجة أن اليهود فكروا في توسيع حدود الدولة اليهودية شمالاً لتشمل الجولان!، أما لبنان، فقد كانت القوات القليلة التي وفرتها قد أمضت أغلب فترات الحرب في الجانب اللبناني من الحدود، أما القوات العراقية، فقد أمرتها حكومتها باتباع تعليمات الأردن، وبالتالي التمركز في الضفة الغربية وعمل عمليات دفاعية فقط في نطاق رباطها شمال الضفة، لكن القوات تحدت أوامر ساستها، وحاولت القيام بدور أكثر فاعلية، وبالتالي نجت 15 قرية عربية من الطرد، لكن تخلت عنها لاحقاً الحكومة الأردنية لصالح إسرائيل في صيف 1949 بعد اتفاقيات الهدنة! وفي المجمل كانت النجاحات الأولية للقوات العربية تشمل العمليات العسكرية في الأسابيع الثلاثة الأولى للحرب، وبنى الصهاينة أسطورة انتصارهم في الحرب على دعوى أنهم قابلوا قوات عدة دول عربية مجتمعة واستطاعوا الصمود في وجوههم، وأن السكان قد نزحوا عن أرضهم تحت طلب القوات العربية للابتعاد عن مجال العمليات العسكرية، مع التجاهل التام لجريمة التطهير العرقي.
بعد نجاح اليهود في اغتصاب ما استطاعوا اغتصابه من أرض فلسطين، تحدث بابيه عن الوجه القبيح للاحتلال، ومشكلة اللاجئين، ومعاناة الفلسطينيين الذين بقوا في أراضيهم وعرفوا لاحقاً بعرب 48، والاستيلاء على أراضي وأملاك وبيوت الغائبين، وتدنيس وهدم الأماكن المقدسة، وتدمير الأماكن التاريخية لمحو أي مظاهر لهوية عربية إسلامية. وتحدث أيضاً عن المشكلة الديمغرافية التي تواجه الكيان الصهيوني، والإجراءات التي يتخذها الصهاينة في هذا الصدد ومنها الجدار العازل الذي يبقى التجمعات الفلسطينية الكثيفة خارجه، كما خصص فصلاً أسماه (محو ذكرى النكبة) لعرض المحاولات الحثيثة للصهاينة لإزالة أي آثار للوجود العربي من الأرض المحتلة، وبخلاف عبرنة أسماء المدن والقرى والأماكن، لجأوا للتوسع في عمل الحدائق العامة وغرس الأشجار في مواقع القرى العربية المدمرة، واختاروا الصنوبريات بدلاً من النباتات الطبيعية الملائمة لمناخ فلسطين لإضفاء مظهر أوروبي على البلد، ويذكر أن الغابات الموجودة في فلسطين اليوم تحتوي على 1% فقط من أنواع النباتات الأصلية، وهي تمثل 10% فقط من إجمالي الغابات الموجودة قبل عام 1948، وفي لفتة شاعرية يذكر بابيه أنه في بعض الأحيان تعود الأشجار الأضلية إلى الظهور بطرق مذهلة، لأن الكثير من الشجر الذي غرسه الصهاينة فشل في التأقلم مع التربة الفلسطينية، فظلت الأشجار تصاب بالأمراض، وفي قرية المجيدل شوهدت بعض أشجار الصنوبر وقد انشقت نصفين، وبرز وسط الجذوع المنشقة أشجار زيتون متحدية الأشجار الغريبة التي غرست فوقها قبل 50 عاماً! وبهذه الصورة الشاعرية التي تمثل في نظري انشقاق الأرض ليخرج من بطنها أبناؤها المقاومون ضد الغزاة المحتلين، أختم هذه المراجعة لهذا الكتاب الهام الذي أتمنى لو يتاح لي أن أقرأه مرةً أخرى، والذي أعتبر قراءته واجباً على كل مهتم بالقضية الفلسطينية.

ابن الجنرال: رحلة إسرائيلي في فلسطين


 

ميكو بيليد هو ناشط سلام إسرائيلي من المتعاطفين مع الحق الفلسطيني، والرافضين لجرائم جيش الاحتلال، والمثير في قصته هو أن والده كان جنرالاً في جيش العدو، وشارك بشكل مباشر في النكبة وحرب 67
بدأ الكاتب كتابه بالحديث عن أسرته من جيل الأجداد الذين هاجروا إلى أرضنا في فلسطين من بلدان مختلفة (روسيا-أوكرانيا-بولندا..إلخ)، وعن كيفية تعارف والديه ببعضهما، وعن انضمام والده للهاجاناه والبالماخ، وعن هذا الجيل من أبناء المهاجرين الذين عبرنوا أسماءهم بدلاً من الأسماء الأوروبية واختيار والده اسم بيليد الذي يعني حديد بالعبرية، ومشاركته في حرب 48، وأنه كان يعتبر أحد أبطالها من منظورهم، ومن أهم إنجازاته تمكنه من صد هجوم للقوات المصرية في النقب!
بعد احتلال غزة خلال العدوان الثلاثي عام 56، تولى بيليد إدارة القطاع كحاكم عسكري إلى حين الانسحاب عام 57، وكان هذا أول احتكاك عن قرب بالمدنيين الفلسطينيين، ثم ترقى حتى وصل لرتبة الجنرال، وكان المسؤول عن الإمداد واللوجيستيات، وكان أحد الصقور الذين ضغطوا على الحكومة المدنية الإسرائيلية للمبادرة بالهجوم على مصر في عام 67 فيما عُرف بانقلاب الجنرالات.
بعد الحرب ببضعة سنوات ترك الخدمة، وقد تبين في نهاية الكتاب أن أحد العوامل التي غيرت تفكيره ومواقفه بشكلٍ كبير هو علمه بمذبحة قام بها أفراد من جيش العدو في غزة، حيث جمعوا عدداً كبيراً من الأطفال والشباب والرجال وأطلقوا عليهم النار ثم هرسوا أجسادهم بالمعدات ثقيلة حتى لا يتعرفهم أحد!
اتجه ماتي بيليد لمجال الأكاديميا وتخصص في الأدب العربي ودرسه في الجامعات الإسرائيلية، وأصبح منادياً للسلام مع العرب، وكان من أوائل من تواصل مع مسئولي حركة فتح منذ منتصف السبعينيات لتبادل الأفكار والرؤى حول كيفية الوصول للسلام، وإن كانت هذه الحوارات لم تكن بشكل رسمي، لكنه استطاع عمل علاقات متينة مع بعض كوادر فتح، وصولاً إلى ياسر عرفات نفسه، أي أن ياسر عرفات كان على تواصل مع الإسرائيليين بشكلٍ غير رسمي في نفس الفترة التي كان يهاجم فيها السادات في مبادرته، بغض النظر عن معارضتي الشخصية لما فعله السادات.
تردد اسم نجيب محفوظ من ضمن الشخصيات التي كان يلتقيها في مصر، وكانت أطروحته في أدب نجيب محفوظ.
سار ميكو بيليد في نفس المسار بشكلٍ مستقل، لا بتوجيه من والده، وإن كان يبدو أثر والديه فيه، وخصوصاً والدته التي أخبرته أنها رفضت في عام النكبة أن تسكن في البيت الذي عُرض عليها في أحد أرقى مناطق القدس بصفتها زوجة ضابط، لأن هذا البيت كان منزل أسرة فلسطينية كانت قد طُرددت منه.
يسرد ميكو بيليد أنشطته المختلفة وبداية علاقاته الشخصية مع الفلسطينيين المهاجرين في أمريكا حيث عاش هناك كمدرب للكاراتيه في سان دييجو، والمبادرة المشتركة من خلال الروتاري لإرسال 1000 كرسي متحرك للأطفال مناصفةً بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وزياراته المتكررة للضفة الغربية وتعرفه على دعاة المقاومة السلمية اللاعنفية في بلعين وغيرها، مع تحفظي على بعض الآراء التي نقلها عنهم، لأني أؤمن أنه لا بديل عن الكفاح المسلح مع عدو همجي مثل هذا
حكى كذلك عن مشاركاته في الاحتجاجات ضد عنف الجدار العازل، وإلقاء الجيش الإسرائيلي القبض عليه، ومحاولته لزيارة غزة عام 2008 ودخولها من جهة مصر وفشله في ذلك.
في الجزء الخاص بمصر، وصف ما لقاه من ضباط المخابرات المتواجدين عند المعبر، ورفضهم لدخوله أو فتح المعبر أصلاً بدعوى أن إسرائيل لن توافق على هذا، وهو ما يثير الألم مع ما نراه من الموقف المخزي الحاصل الآن خلال معركة طوفان الأقصى، وأنقل هنا هذه الفقرة المعبرة على لسان ميكو بيليد:

"لو كانت للمصريين يدٌ في إدارة بلدهم وحكمها، فلربما كانت الأمور تسير بشكل أفضل في كل المنطقة؛ على عكس ما هو حاصل نتيجة خضوعهم لدكتاتور وكما تبين، إن الحكومة المصرية كانت ملتزمة مع إسرائيل والولايات المتحدة في إحكام الحصار على غزة"

لكي يكون القاريء على بينة، فكون الرجل ووالده من دعاة السلام، فهذا لا يعني أنهما يؤمنان بأن اليهود ما كان لهم أن يأتوا لهذه الأرض ويستعمروها من الأساس، فالأب كان ممن قاتل في سبيل اغتصاب هذه الأرض ولم يجد في ذلك غضاضة، والابن لا ينكر كونه صهيونياً يؤمن بحق اليهود في أرضنا، لكنهما يرفضان سياسات الحكومة الإسرائيلية وعنصريتها ووحشيتها تجاه الفلسطينيين، وبخلاف دعاة (السلام) الداعين لما يسمى بحل الدولتين، فإنه يؤمن بأن الحل هو في بلد واحدة تحت نظام ديمقراطي علماني لا يفرق بين مواطنيه على خلفية الدين واللغة!

الكتاب مفيد بالطبع للاطلاع على القضية من المنظور الآخر، وعلى لمحات من داخل مجتمع العدو.

قاريء الجثث (مذكرات سيدني سميث)


 

تعد هذه السيرة الذاتية من أكثر السير التي قرأتها امتاعاً وتشويقاً، فهي ليست مجرد سيرة تنقل قارئها إلى أجواء وتفاصيل زمنٍ ماض، بل إنها تفتح أمام القاريء أبواباً ينطلق من خلالها إلى عالم الطب الشرعي وما يقابله من تحديات، ويجد تجسيداً حياً لشخصيات محققي الروايات البوليسية وعلى رأسهم شيرلوك هولمز.
على أن عنوان الترجمة العربية للكتاب ليس دقيقاً، فالعنوان الأصلي هو (Mostly Murder) أي (في الأغلب جريمة قتل)، أما العنوان الذي اختاره المترجم (قارئ الجثث: مذكرات طبيب تشريح بريطانى فى مصر الملكية) فيعوزه الدقة، فالرجل مبدئياً نيوزيلندي وليس بريطاني، وعمله كطبيب تشريح في مصر الملكية قد دام لفترة 11 عاماً فقط، من ضمن ما يقرب من 50 عاماً من الحياة العملية، وإن كانت هذه الفترة باعتراف الكاتب من أهم وأخصب فترات عمله، والتي قابل فيها من القضايا المتنوعة واكتسب فيها من الخبرات ما رافقه بقية عمره. أما الجزء الدقيق في العنوان فهو عبارة (قاريء الجثث)، لأن من يطلع على تفاصيل هذا العمل، يجد أن الطبيب الشرعي وكأنه بالفعل يقرأ ما جرى للجسد قبل الوفاة، من خلال البقايا التي تتوفر أمامه، والتي في بعض الأحيان قد لا تزيد عن بضعة عظام!
بخلاف ذلك، فإني أنتهز هذه الفرصة لأعبر عن استيائي من الغلاف، فمن الواضح أنه شأنه شأن أغلب أغلفة كتب هذه المرحلة قد صمم من خلال (الذكاء) الاصطناعي، ليخرج لنا هذا المسخ الذي يجعلك تشعر أن الطبيب هو سفاح يقف بين جثث القتلى!

يبدأ الكاتب كتابه بمشهد مثير لواقعة العثور على ثلاث عظام صغيرة في قاع بئر في مصر، وطلب الشرطة منه كإجراء روتيني تحديد ما إذا كانت العظام تخص حيواناً أم إنسانا، ليكتب لهم تقريراً يقول فيه: "إن هذه عظام سيدة شابَّة، قصيرة القامة، نحيلة القد، يتراوح عمرها بين 23 و25 عامًا عند وفاتها، والتي مر عليها ثلاثة أشهر، وذكرت أن هذه الفتاة حملت مرة أو أكثر، وأن ساقها اليسرى أقصر قليلًا من ساقها اليمنى؛ لذا فإنها مصابة بعرج ناتج عن مرض شلل الأطفال منذ صغرها. وأضفت في تقريري أنها قُتلت ببندقية محشوة بطلقات مُصنَّعة محليًّا وأُطلق عليها الرصاص من وضع أفقي على مبعدة ثلاث ياردات، وكان القاتل واقفًا أو جالسًا قبالتها ومائلًا قليلًا إلى اليسار ولم تمت الضحية على الفور ولكنها ماتت بعد إصابتها بنحو سبعة إلى عشرة أيام، وفي الغالب حدثت الوفاة نتيجة إطلاق الرصاص."، لتبدأ الشرطة تحرياتها وتنجح في تحديد شخصية الفتاة والقبض على قاتلها!
بهذه المقدمة ينجح الكاتب في تجهيز القاريء لما هو مقبلٌ عليه، ولكي يعرف أنه من مجموعة من الأدلة، مع قدرٍ من الخبرة والمعرفة والقدرة على الخيال، يمكن للطبيب الشرعي أو المحقق الاقتراب من الحقيقة بشكلٍ كبير.

بعد ذلك بدأ الكاتب سرد ذكرياته بالحديث عن أسرته، وعن نشأته في نيوزيلندا، وعن رغبته في دراسة الطب كوسيلة للإنطلاق في العالم، ثم سفره للدراسة في أفضل جامعات الطب في العالم (جامعة أدنبره التي أصر المترجم طوال الكتاب على تسميتها إدنبرج!).
تحدث سيدني سميث عن شخصية شيرلوك هولمز الذي كانت رواياته ذائعة الصيت حينذاك، وعن مؤلفها سير آرثر كونان دويل، الذي كان بدوره طبيباً في الأصل، والذي استوحى شخصية هولمز من شخصية حقيقية هي طبيب الجراحة والأستاذ الجامعي جوزيف بل، الذي اشتهر بدقة ملاحظته وقدراته الفائقة على الاستنتاج من خلال الالتفات للتفاصيل الصغيرة، وفي ذلك يذكر سميث أن المحقق أو الطبيب الشرعي يحتاج كما يذكر هولمز إلى (قوة الملاحظة وقوة التخمين ونطاق واسع من المعرفة الدقيقة)، ويضيف إلى ذلك (القدرة على التخيل المنطقي).

بعد التخرج ساقته الظروف إلى التخصص في الطب الشرعي، وبعدها جاءته الفرصة ليُعرض عليه تولي رئاسة الطب الشرعي في مصر، ليسافر إليها ويعيش فترة حافلة بالأحداث والقضايا السياسية والجنائية، وتحتل هذه الفترة ما يزيد عن ثلث الكتاب، لكنها الأكثر امتاعاً في تفاصيلها.
تتقاطع المذكرات في هذه الفترة مع مذكرات توماس راسل حكمدار القاهرة، كما تُلقي نظرة عن طبيعة الجرائم وخاصةً جرائم القتل ودوافعها، والتي كانت في الأغلب بدافع الثأر، ويتبين من القضايا المختلفة أهمية المعارف العامة للطبيب الشرعي، التي بدونها قد لا يستطيع تضييق نطاق البحث، أو توجيه التفكير للإتجاه الصحيح، وكان من أهم الأمثلة التي تدلل على ذلك هي تفاصيل العثور على بقايا بعض ضحايا ريا وسكينة، فمن ملاحظة أن شعر العانة لم يكن محلوقاً، ومن معلومة أن هذه الممارسة مقتصرة على المومسات، بخلاف السيدات المتزوجات اللاتي يحرصن على إزالة الشعر، وجه المحققين للبحث عن مومسات مفقودات، لتبدأ سلسلة من التحريات تصل للكشف عن العصابة والعثور على جثث بقية الضحايا!

من جانبٍ آخر، نجد في كثير من الحالات استعانة العدالة بالطب الشرعي للتحقيق في حالات قد تتضمن اتهامات لبعض أفرادها، وقد ذكر حالة فحصها لمسجون يشكو تعرضه للتعذيب بالسوط من الضابط، وفي حين أن لجنة من الأطباء (مصريون وأجانب) قد استبعدوا وجود تعذيب، إلا أنه أثبت لهم بالدليل أن الإدعاء حقيقي، بل وجرب ضربة السوط على ذراعه في المحكمة أمام القاضي ليوضح له شكل أثر السوط، وبذلك اقتنع القاضي وأغلب الأطباء، وأُدين الضابط.
ويعقب سميث بعد ذلك قائلاً: "والتقيت بعد ذلك بمحامٍ ذكرني بهذه القضية وأخبرني بتأثيراتها عليهم، ليس بسبب استعراضي بالسوط داخل المحكمة، وإنما لأنني وقفت كموظف حكومي إلى جانب مسجون ضد موظف حكومي آخر." وفي ذلك إثباتٌ لنزاهته وتحريه تحقيق العدالة لمعرفته أن بيده إعدام أو سجن متهم، أو تبرئته، وفي ذلك يقول: "إن مهمة القانون في تصوري هي تحقيق العدل، وأي شاهد من الخبراء يتم استدعاؤه سواء من خلال الدفاع أو المُدعي فإنه يقدم خدمة للقانون والعدالة، وربما غير رأي أحد الخبراء موقف إنسان ما في قضية بعينها؛ لذا فإن عليه أن يركز على الحقائق لا على تأكيد رأيه، ودون النظر إن كانت شهادته تقوي أو تضعف موقف المتهم في القضية أو حتى تهدم أركان القضية كلها. لقد قلت مرارًا إن رأي الخبير الشرعي قد يكون مصيريًّا وقد يؤدي بإنسان إلى الموت أو يحرره تماماً".

في ثنايا المذكرات تحدث عن حوادث الاغتيال التي حدثت لعددٍ من الأجانب والبريطانيين، ثم تحدث بالتفصيل عن اغتيال السير لي ستاك، وعن ملابسات الإيقاع بمجموعة الاغتيال من خلال فحص الرصاصات، وبالتالي تحديد السلاح المستخدم من خلال البصمة المميزة التي يتركها كل سلاح في الرصاصات المنطلقة منه! وفي حالات أخرى، تحدث عن جثث جاءت له بدعوى أن أصحابها قُتلوا برصاص من الثوار – خلال فترة ثورة 1919 – ليتمكن من خلال التشريح وفحص الرصاص المستخدم إثبات أن الضحايا قُتلوا برصاص حكومي ميري، أو رصاص من القوات الإنجليزية.
وعلى هامش ذكره للثورة، فإنه يخبرنا أن السلطات الإنجليزية كانت تستطلع آراء كبار الموظفين التابعين لها لمعرفة أفكارهم وتصوراتهم عن مستقبل العلاقة مع المصريين، وأنه أخبر المسؤول بتصوره بمنح مصر نوعًا من السيادة مثلما هو الحال في نيوزيلندا، في ظل حكومة مستقلة، متصورًا أن ذلك قد يكون مقبولًا من الطبقات المتعلمة. لكن المسؤول علق على هذا بسخرية قائلاً له أنه يبدو أنه قد أكثر من الشراب!

تحدث سميث أيضاً عن البصمات، وعن السموم ومن أهمها الزرنيخ، وعن دوره في نشر ثقافة الاحتفاظ بسجلات للبصمات لجميع المواطنين، وعن كون إدارة الطب الشرعي في مصر في ذلك الوقت رائدة على مستوى العالم في معاملها وفي تحليلاتها وفي نجاحها في حل الكثير من القضايا. وهو في كل ذلك لا ينسى الإشادة بمعاونيه المصريين.
في مجمل حديثه عن مصر والمصريين كان يتحدث بحب وتقدير وإنصاف، وقد ضحكت وأنا أقرأ هذه الفقرة التي تحدث فيها عن الرشوة، حيث قال: " وللأمانة فإن المصريين لم يكونوا وحدهم المتورطين في الرشاوى، فبعض الأجانب كانوا يقومون بالشيء نفسه وأتذكر يومًا أن سألني أحد الأصدقاء الأورُبيين إن كنت أعرف السيد إكس القاضي بأحد المحاكم المختلطة، فقلت إنني أعرفه جيدًا وسألني: "هل يمكن أن أرسل إليه صندوق شامبانيا، فإن لي دعوى استنئاف مقامة أمام دائرته؟" فقلت له: "إن الرجل شديد النزاهة، ولو أرسلت إليه صندوق شامبانيا فقد يعاقبك وتخسر دعواك" وشكرني السائل ومضى متفكرًا وبعد أكثر من أسبوع رأيته وقال لي إنه كسب الدعوى المقامةأمام القاضي إكس، وأن الفضل في ذلك يرجع إلى صندوق الشامبانيا. فاندهشت، فقال لي إنه أرسل صندوق الشامبانيا إلى القاضى باسم الطرف الآخر في الدعوى!"

بعد إنهاء خدمته في مصر، قضي بقية حياته في إدنبره متولياً عدداً من المناصب (الطب الشرعي – عمادة كلية الطب)، ويحكي لنا في بقية الكتاب عدداً من أهم القضايا التي صادفها، والتي تكاد تكون تطبيقات وتنويعات عملية لما تعلمه في مصر من خبرات، وإلى هنا ينتهي هذا الكتاب الممتع الذي تشعر عند إنهائه أنه قد جمع لك عددا من مغامرات شيرلوك هولمز أو هركيول بوارو بين دفتي كتاب واحد، لكنه يتميز بكون أحداثه حقيقية، بعيدا عن الخيال والمبالغة.
وأختم حديثي هنا بأن التطور العلمي وتطور الأدوات ووسائل الفحص بالقطع قد جعل التحديات التي تواجه الطبيب الشرعي والمحقق أقل مما كان يواجه أقرانه منذ مائة عام - فيما يخص الجرائم الاعتيادية على الأقل - لكن التطور التكنولوجي بدوره يصحبه تطورات أخرى في أنواع الجرائم، لتخلق تحديات جديدة، لكن فكرة استنطاق الجثث في عهد به تكنولوجيا متواضعة مقارنة باليوم يعوضه المواهب والقدرات النوعية التي يصطفي بها الله بعض بني آدم، والذين يعوضون نقص التكنولوجيا بتنمية مهارات البحث والتدقيق والانتباه للتفاصيل ومراكمة الخبرات، وهو شيء لا يمكن أن ينجح بدون توفيق الله، وصدق الله عز وجل إذ قال: "علم الإنسان ما لم يعلم".