الأحد، 25 مايو 2025

سقوط الجولان


 

كُتب هذا الكتاب بيد ضابط سابق بالجيش العربي السوري، وباالرغم من أنه لم يكن شاهد عيان على الحرب، حيث تم تسريحه من الجيش قبل الحرب بأعوام، لكن يستمد الكتاب أهميته من معرفة الكاتب الدقيقة بالجولان، لكونه قد تولى قيادة الاستطلاع على الجبهة.

بدأ الكتاب بسرد موجز لتاريخ سوريا الحديث بعد مرحلة الانتداب وما شابه من كثرة الانقلابات العسكرية وتذبذب الوضع السياسي، وما استتبعه من تأثير سلبي على الجيش، لكون كل إنقلاب يعمد إلى تصفية خصومه وتسريح أنصارهم من الجيش، وقد صاحب وصول البعث للسلطة في انقلاب عام 1963 تسريح الكثير من الضباط ومن ضمنهم الكاتب نفسه، والذي يذكر أنه "بحلول مايو 1967 كان عدد الضباط المسرحين لا يقل عن ألفي ضابط، مع عدد لا يقل عن ضعفه من ضباط الصف والجنود المتطوعين الذين يمثلون القوة الفعلية لمختلف التخصصات بالجيش، وحل محلهم عدد من ضباط الاحتياط جلهم من البعثيين، وأكثريتهم من العلويين تحديداً، وبذلك أصبح الجيش مؤسسة بوليسية لقمع الحريات والتنكيل بالشعب، لا جيشاً قادراً على صون الحدود والدفاع عن أرض الوطن. وقد رافق ذلك كله عمليات مجرمة، شملت حل بعض الوحدات المقاتلة، وتشكيل وحدات غيرها على أسس طائفية بحتة – تماماً كما فعل الفرنسيون أيام الاحتلال – وبذلك أصبح الجيش عبئاً كريهاً على عاتق الشعب، بدل أن يكون درعاً وحصناً يصون بلاده.

وقد تميزت تلك المرحلة من تصفية الجيش بصورة من العنف والتنكيل كان منها القتل والسجن والأحكام الاعتباطية والإعدام، ومصادرة الأموال والممتلكات وتضييق سبل العيش على الناس، حتى أصبح المواطن يمسي فلا يصدق أنه سيصبح بخير، أو يصبح فلا يصدق أنه سيمسي بدون أن يصيبه سوء".

بعد ذلك أفرد الكاتب فصلاً لوصف جغرافية الجولان وطبيعة أرضها ومناخها ومدى تميز موقعها وأهميتها السياسية والعسطرية، ثم أسهب في سرد الخطوط الدفاعية التي أُعدت لتجعل من الجولان حصناً يعوق أي محاولة لاختراقه، هذا بالإضافة للتحصينات الطبيعية المتمثلة في الطرق الوعرة، والتفاصيل التي عرضها تدمي القلب لأنها توضح الثمن الفادح الذي كان العدو سيتكبده لو لم تنسحب القوات المنوط بها الدفاع، لتترك الجولان لقمة سائغة للعدو.

ثم انتقل الكاتب لعرض الوضع العسكري للقوات السورية بشكل يومي منذ بداية العدوان في 5 يونيو، فذكر أن القوات السورية لم تشارك في اليوم الأول للحرب رغم نداءات مصر والأردن واتخذت وضع المراقب دون أن تحرك ساكناً رغم أن سوريا كانت السبب الأساسي لاندلاع الحرب، ومنذ صباح 6 يونيو قامت المدفعية السورية بقصف مركز استمر حتى 8 يونيو على شريط المستوطنات المقابل للجبهة السورية. وأن القوات الإسرائيلية المشغولة على الجبهات الأخرى لم تتفرغ للجبهة السورية بشكلٍ فعلي إلا في 8 يونيو، مما يؤكد أن الهزيمة الثقيلة لم تكن حتمية لو تحركت القوات السورية بشكلٍ جدي. ثم سرد تفاصيل التحركات للقوات السورية بعد ذلك والتي توحي للقاريء بأنه إما أن متخذي القرارات هم مجموعة من الحمقى منعدمي الكفاءة، وإما أنهم تعمدوا القضاء على القوات المسلحة السورية وتسليم الجولان!، والقاريء سيجد أن الكاتب يؤمن بالفرضية الثانية، ويعتبر أن ما حدث من تحريك للقوات خلال الحرب كان مسرحية هزلية للتغطية على التخلي عن الجولان وتسليمها للعدو!

من ضمن ما ذكره الكاتب هو أن الأوامر صدرت لقوات الاحتياطي للتقدم واحتلال بعض مستوطنات الشمال ومدينة صفد، ولكي تتمكن القوات المهاجمة من التقدم، صدرت الأوامر للقوات المرابطة للدفاع عن الجولان بالانسحاب!، وكانت النتيجة اختلاط الحابل بالنابل، وتسلى طيران العدو بقصف القوتين، "وكانت كارثة أفرغت المواقف الدفاعية من حماتها، وتركت الأرض عراءً أمام العدو تغطيها الجثث وهياكل الآليات!" أما الطيران السوري، فلم يظهر في سماء المعركة أبداً! ويؤكد الكاتب على أن الخطة الهجومية كانت تمثيلية الغرض منها فقط إخلاء المواقع الدفاعية من القوات.

ومنذ مساء 8 يونيو انتشرت الشائعات بصدور أوامر بالانسحاب، وبدأ بعض القادة والضباط الانسحاب بالفعل، ومنهم قائد الجيش، وقائد الجبهة الذي فر على ظهر حمار! وابعض ادعى الانسحاب إلى دمشق لحماية الثورة! ومن بقي حاول الاتصال بقيادة الجبهة التي خلت من أي مسئول، فانفرط عقد القيادة، و هرب الكثيرين، وبلغت ذروة تفاقم الأمر يوم السبت 10 يونيو بعد إذاعة بيان سقوط القنيطرة، والتي وصلها العدو بعد 17 ساعة من إذاعة البيان الكاذب!، وغصت الطرق بحشود الزاحفين هرباً من الموت سواء من الجيش أو المدنيين، بينما صمد القلائل – من غير البعثيين – وقاتلوا.

بعد العرض ليوميات الحرب، عرض الكاتب يوميات الفترة السابقة للحرب فيما يخص أهم الأحداث والتصريحات، فبدأ منذ 12 مايو بتصريحات العدو باستخدام القوة ضد سوريا، ثم ردود الأفعال في الأيام اللاحقة من تصريحات عنترية مضادة، وسفر رئيس الأركان المصري لسوريا لمعاينة الحشود الإسرائيلية المزعومة، والكثير من الكلام الحنجوري المكرر بأن القوات المسلحة في تمام الجاهزية والاستعداد وفي انتظار ساعة الحسم لهزيمة إسرائيل وتحرير فلسطين! ومنذ بداية الحرب، نجد سيل من البيانات العسكرية الكاذبة التي تدعي اسقاط عشرات الطائرات، وأن القوات السورية تتقدم داخل الأراضي المحتلة، وأن الاستعمار الأنجلوأميركي مشارك بقواته في المعركة، وهي صورة مشابهة للبيانات الكاذبة الصادرة من مصر. كما عرض تصريحات العدو، وكان من المؤلم فيها أن أجد تحليلاً واقعياً لأحد جنرالات العدو يتكلم فيه عن الجيش السوري وأن تعداده 65 ألفاً وهو رقم ضئيل بالنسبة لمساحة سورية، وأن الانقلابات التي تعاني منها سورية وينتج عنها تغيير دائم في صفوف الضباط وترفيعات مفاجئة لا تستند للخبرة ولكن للانتماء السياسي، كل هذا أضعف الجيش السوري كثيراً، أما قائد سلاح الجو، فقد صرح أن ثلثي سلاح الطيران السوري دُمر خلال ساعة واحدة، والثلث الباقي نُقل إلى مطارات خارج نطاق القتال!

بعد ذلك عدد الكاتب العديد من أوجه القصور في الاستعداد العسكري، وهي تتنوع ما بين عدم تفجير الملاغم في قوات العدو، والتي كانت ستمنعه من التقدم وتوقع به خسائر فادحة، مروراً بالفوضى في توزيع الأسلحة وتأخير توصيل الذخائر بحالة مناسبة للجبهة، وعدم وصول الطعام وماء الشرب للجبهة، والفوضى في توزيع الأفراد على أسلحة أو تكليفهم بمهام لم يتدربوا عليها من قبل، كما نفاجأ بأن النظام لم  يعلن التعبئة العامة أصلاً! وعرض صورة لأسبقية الولاء الحزبي على الهرمية العسكرية، وتحسر على الوثائق والأسلحة التي تركها المنسحبون هدية للعدو دون أن يعنوا بنسفها، ثم عرض أعمال العدو خلال الحرب والتي كان أساسها القصف الجوي، ثم تقدم المدرعات الحذر، والذي ووجه بمقاومة ضعيفة إثر انسحاب أغلب القوات المدافعة، ولقي العدو خسائر ضعيفة، كانت لتكون ضخمة لو صمدت القوات في مراكزها الدفاعية، ويحكي الكاتب أن إحدى الدبابات السورية المنسحبة تعطلت، ولم يكن أمام قائدها إلا أن يقاتل، فأدار مدفع الدبابة تجاه الدبابات الإسرائيلية المتقدمة وتمكن من تدمير ستة منها، ولم يتمكن العدو من القضاء عليه إلا بعد الاستعانة بالطيران، وعدد الكاتب العديد من البطولات الفردية لمن ثبتوا في مواقعهم، وحتى بعض أبناء الجولان ممن قاوموا بما وجدوه من أسلحة الجنود الفارين، وتمكنهم من قتل العديد من جنود العدو وتدمير العشرات من مدرعاته، فلنا أن نتخيل كيف سيكون الحال لو لم تنسحب القوات!

أشار الكاتب عدة مرات في كتابه لحزب البعث بكونه حزباً طائفياً مسيطراً عليه من الطائفة العلوية، وأن العدو يعتبر وجود هذا الحزب في السلطة ضمانة لأمن إسرائيل، وأن الحزب هو السبب الرئيس في إضعاف الجيش للأسباب التي سبق ذكرها من تسريحات واعتقالات واضطهاد وخلافه، وأن الحزب كذلك كان حريصاً على سحب المنتمين له من الجبهة، وترك ما سوى ذلك لمصيرهم، بالإضافة للقصة التي حكاها عن طلب استدعاء الشباب من أربع مدن معروف أنها ذات أغلبية سنية للزج بهم في المعارك، وتجاهل مناطق الأقليات، وكأن الهدف هو إفناء أهل السنة!

عدد الكاتب بالتفصيل مرة أخرى كل صور القصور العسكري ليدلل بها أن الهزيمة العسكرية وسقوط الجولان كان نتيجة خيانة وتدبير مسبق من حكومة البعث، والحقيقة أني قبل أن أطلع على ما كتبه كنت أعتبر الحديث عن الخيانة الصريحة من قبيل المبالغة، ولكن بعد قراءة التفاصيل فإني لا أصدق ولا أكذب، فالطغمة التي حكمت – وظلت تحكم – سوريا وقادتها لهذه الهزيمة المخزية يُتوقَع منها أي شيء، ولقد تعددت تصريحاتهم البلهاء من قبيل (أن هدف العدو كان إسقاط النظام الثوري التقدمي في سوريا، وأنه طالما لم يُفلح في هذا، فإنه لم ينتصر) و(ليس مهماً أن يحتل العدو دمشق أو حمص أو حلب، فكلها أراضٍ يمكن تعويضها، أما إذا قضى على حزب البعث، فكيف يمكن تعويضه وهو أمل الأمة العربية!)، وبعيداً عن هذا الهراء، فقد حكى الكاتب مرة عن اتفاق بين البعث والعدو بحيث يمنع القوات السورية من المشاركة الفعلية في الأيام الأولى للحرب، بما يسمح للعدو بالانفراد بالجبهتين المصرية والأردنية، مقابل عدم التعرض للقوات السورية، وأن البعث التزم بالاتفاق وكان تحريكه للقوات مجرد تمثيلية، لكن العدو في النهاية لم يلتزم بجانبه، وهذه الحكاية أرفضها عقلاً ومنطقاً، وإن كانت الشهادات الأخرى كشهادة الفريق مرتجي قائد جبهة سيناء  تؤكد على أن العدو اتخذ قراراً في منتهى الجسارة، فقد خصص كامل قواته الجوية تقريباً للضربة الجوية التي دمر بها الطيران المصري، وترك 12 طائرة فقط للدفاع عن إسرائيل، ولو شارك الطيران السوري لاستطاع تدمير طيران العدو على الأرض بعد أن يعود من ضربته لمصر والأردن، ولتغير مجرى المعركة، والحقيقة أن هذا القرار من العدو قد يكون اتخذ استناداً إلى توقع ردود أفعال النظام السوري وأنها ستكون متأخرة، وهي في هذه الحال قد تكون مقامرة أكثر من كونها جسارة، أو أن تكون نتيجة التأكد من خيانة النظام السوري بالفعل!

 وفي مرةٍ أخرى حكى الكاتب عن رسالة من العدو للقيادة السورية يوم 9 يونيو، يُحذر العدو فيها من أنه إن لم تنسحب القوات السورية من الجولان، فإن العدو لن يتوقف حتى يصل دمشق، وكانت النتيجة أنه في صباح اليوم التالي أذاع النظام السوري نبأ سقوط القنيطرة من قبل أن تسقط. وهذه الرواية يمكن قبولها عقلاً ومنطقاً، فإنه لا يُستبعد على البعثيين وعلى رأسهم الأسد أن يضحوا بالعالم كله طالما أنهم باقون على كراسيهم، حتى لو كان ما تبقى لهم ليحكموه هو مجرد خرابة.

وهكذا ينتهي هذا الكتاب الهام الذي يعطي الفرصة للمهتمين بهزيمة 1967 لاستكمال الصورة، والاطلاع على الموقف على الجبهة السورية، ولئن كانت الشهادات على الهزيمة من جانب مصر والأردن تؤكد على أن تأخر التدخل السوري وعدم مشاركة سلاح طيرانه كان لها عامل حاسم على قدرة العدو على الانفراد بالساحة، فإن المرء لا يملك إلا أن يرصد أوجه التشابه بين الجبهتين المصرية والسورية، فيما يتعلق بالفوضى، وانعدام الكفاءة، وسوء التخطيط، وحشد القوات غير المدربة، وإضاعة الفرص، والانسحاب غير المنظم، ولكن التشابه والتماثل الأعظم يكمن في (الاستبداد)، وهو ما يذكرنا مرة أخرى بالعبارة التي يدندن بها د. وليد سيف في كتاباته، بأن (الطغاة هم شرط الغزاة)، ووضع الأمور في سياقها أيضاً يورث اليقين أن هذه الطغمة الفاسدة لم تكن لتحقق أي نصر في معركة فاصلة، ويُلخص ذلك قول الله تعالى "إن الله لا يُصلح عمل المفسدين".

ليست هناك تعليقات: