الأحد، 25 مايو 2025

التطهير العرقي في فلسطين


 

يعتبر هذا الكتاب من أفضل وأهم الكتب التي تناولت النكبة، لا من جهة السرد التاريخي فقط، ولكن من جهة منهجية الدراسة في المقام الأول.
يبدأ الكتاب بمشهد سينيمائي متخيل لاجتماع حقيقي حدث في تل أبيب في 10 مارس 1948 في البيت الأحمر الذي صار مقر قيادة الهاجاناه، حيث اجتمع أحد عشر رجلاً من القيادات العسكرية والسياسية ليضعوا اللمسات الأخيرة لخطة التطهير العرقي في فلسطين، وفي مساء نفس اليوم، أرسلت الأوامر لكافة الوحدات العسكرية لتنفيذ المخطط، كلٌ في منطقته.
يذكرنا هذا المشهد وهذا الاجتماع باجتماعٍ آخر عُقد في أحد ضواحي برلين قبل هذا التاريخ بقرابة الستة أعوام، وهو المعروف باسم مؤتمر فانسي، الذي نوقشت فيه قضية (الحل النهائي) للمشكلة اليهودية، ووضعت فيه أيضاً اللمسات الأخيرة لتطهيرهم عرقياً في أراضي الرايخ، وهكذا أصبح ضحايا الأمس، جلادي اليوم.
يبني إيلان بابيه – وهو أحد أهم المنتمين لتيار المؤرخين الجدد في دولة العدو – فرضيته في هذا الكتاب على أن أغلب الدراسات التي تناولت النكبة كحدث، إما تناولته من وجهة النظر الإسرائيلية بصفته (حرب الاستقلال)، وأن السكان المحليين غادروا أراضيهم طوعاً، وإما تناولته من وجهة النظر العربية بصفته (النكبة) فحسب، والذي يعتبره بابيه تعبير مراوغ يشير إلى الحدث أكثر ما يشير إلى من تسبب به، لكن بابيه يؤكد على أن التوصيف الأدق لما جرى في النكبة هو دراستها من منظور أنها عملية تطهير عرقي.
شرع بابيه بعد مقدمته في عرض تعريف التطهير العرقي، ونماذج تاريخية لهذا العمل ومقارنتها بما جرى على أرض فلسطين، ثم انتقل إلى عرض الدوافع الصهيونية الأيديولوجية لعملية التطهير، من سعي الصهيونية لخلق دولة يهودية حصراً، ومن ثم انتقل إلى الوسائل المبكرة التي لجأ لها الصهاينة لتحقيق هذا الهدف، والتي تضافرت فيها الجهود السياسية والاقتصادية، مع الاستخباراتية والعسكرية.
كانت التحضيرات العسكرية الأولية تتضمن تشكيل نواة القوة العسكرية الصهيونية، حيث نشأت الهاجاناه في مطلع العشرينيات بغية حماية المستعمرات اليهودية، وتطورت عبر السنوات تحت أنظار ودعم سلطات الانتداب البريطاني، وحدثت لها طفرة حين تولى تدريبها الضابط الإنجليزي أورد وينجيت خلال فترة الثورة الفلسطينية الكبرى، ليقودهم في الأعمال التأديبية والانتقامية ضد القرى العربية الثائرة.
على التوازي بدأ الصهاينة جهدهم الاستخباراتي من وقت مبكر، حيث بدأوا بإعداد ملفات للقرى العربية، وقاموا بمسح كامل القرى في أرض فلسطين (بما فيها المسح الفوتوجرافي الجوي!) وتسجيل كافة المعلومات عنها، جغرافياً وبشرياً، مع تحديد العناصر الوطنية والشخصيات التي شاركت في الثورة الفلسطينية سواء بالدعم أو بالقتال المباشر، وكونت شبكة من العملاء والواشين في القرى للإبلاغ عن العناصر الوطنية والمتعاونة مع المفتي أمين الحسيني، وكل هذه المعلومات كانت تحت أيدي الوحدات العسكرية الصهيونية قبل بدء عمليات التطهير، وتصرفت على أساسها.
يؤكد بابيه على أن كل الإحصاءات تشير إلى أن أقصى ما كان بحوزة الصهاينة من أراضي فلسطين بنهاية عصر الانتداب هو 6% من مساحة فلسطين، وذلك بعد كل عمليات الشراء والإخلاء والطرد للفلاحين، وتسهيل امتلاك الأراضي من خلال سلطات الانتداب، وهذا الأمر رسخ قناعة لدى قادة الصهيونية وعلى رأسهم بن جوريون أن إقامة الدولة الصهيونية لن يكون ممكناً إلا من خلال طرد العرب من أراضيهم بالقوة، وأن هذا الطرد لن يكون ممكناً بدوره إلا من خلال القوة المسلحة وعمليات الإرهاب والتطهير العرقي.
من النقاط التي لفتت نظري مدى البراجماتية والمرونة التي كانت لدى بن جوريون ورفاقه، ومدى قدرتهم على تغيير خططهم وتطويرها في ضوء متغيرات الواقع، وكذلك قدرتهم على قراءة هذا الواقع والتقدير الصحيح لموازين القوى، ومن بعد منتصف الأربعينيات بدأ الصهاينة يشعرون بأنهم استجمعوا مقومات القوة وصاروا ينظرون إلى وجود السلطات الانتدابية نفسها كعائق، فبدأت سلسلة من العمليات الإرهابية ضد الإنجليز، وكان رد الفعل باهتاً وضعيفاً مقارنةً بالقسوة المفروطة والقمع الذي واجهت به سلطات الانتداب الثورة الفلسطينية، وانتهى الأمر بإعلان الإنجليز في فبراير 1947 أنهم قرروا مغادرة فلسطين – وإن كان هذا قد تم فعلياً في مايو 1948 - وعلى كلٍ، فما كانت إسرائيل لتكون لولا دعم الانتداب، الذي كان صكه يذكر بكل صراحة أن من أهدافه تنفيذ وعد بلفور وتمكين إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. أما فيما يخص العمليات ضد العرب، فقد تطورت الخطط، بدءاً من الخطة ألف (أ)، وصولاً إلى التصور النهائي الخطة داليت (د)، وهي الإصدار الأخير الذي شكل عمليات التطهير العرقي قبيل وأثناء النكبة.
على الصعيد الدولي، أعلنت الأمم المتحدة في نوفمبر 1947 قرار تقسيم فلسطين، وأعطت للصهاينة 56% من مساحة فلسطين، ورفضت الدول العربية القرار، أما الصهاينة فقبلوا القرار فيما يتعلق بحقهم في إقامة دولتهم، أما حدود هذه الدولة، فقد صرح بن جوريون بأنها "ستتعين بالقوة، لا بقرار التقسيم". وفي المجمل، كان للصهاينة طموح للحصول على كافة أراضي فلسطين وما بعدها، وكانوا يطورون أهدافهم طبقاً لقدراتهم المرحلية، وكانت الأولوية في هذه المرحلة هو إقامة دولة على أكبر قدر ممكن من الأراضي العربية.
بدأت عمليات التطهير العرقي أوائل ديسمبر 1947 بسلسلة من الهجمات على قرى عربية وأحياء في المدن، رداً على الأعمال التخريبية التي واكبت الاحتجاجات الفلسطينية على قرار التقسيم، وكانت هذه الأعمال (الانتقامية) الأولية من العنف الذي أدى إلى نزوح عدد كبير من الناس من بيوتهم.
في أوائل يناير 1948 بدأ دخول وحدات قليلة من المتطوعين العرب لمقاومة الصهاينة، وانتصرت القوات اليهودية عليها بسهولة، وغيرت تكتيكاتها من عمليات انتقامية إلى عمليات تطهير وطرد بالقوة، وخصوصاً بعد إقرار الخطة دالت في مارس 1948، ومع حلول أبريل 1948، كان اليهود قد نجحوا في اقتلاع 250 ألف فلسطيني من أراضيهم!
بدأ مخطط اليهود في الانتشار وفقاً للمساحة المقررة لهم بخطة التقسيم، مع الأخذ في الاعتبار أماكن المستعمرات اليهودية النائية، وقد قرر الصهاينة أنه لابد من الوصول لهذه المستعمرات وجعل كل الأراضي الواصلة لها يهودية خالية من العرب، وبدا أن الحدود قابلة للتمدد في كل الجهات، مع وجود عامل مقيد، هو حدود ما عُرف بعد ذلك بالضفة الغربية لنهر الأردن.
أشار بابيه لوجود مفاوضات مبكرة للصهاينة مع عبد الله الأول ملك الأردن، الذي كان يرغب في توسيع مملكته الصحراوية بضم أراضي الضفة الخصبة إلى مملكته، ورغم أن أراضي الضفة تضم مواقع يعتبرها الصهاينة توراتية تنتمي لوجودهم القديم في فلسطين، لكنهم كانوا عمليين ويدركون أن الكثافة السكانية العربية في الضفة تمنعهم في الوقت الحالي من احتلالها، لذا تلاقت الرؤى، وعلى إثره اكتفى الأردن خلال الحرب بنشر قوات جيشه (الفيلق العربي) على حدود الضفة الغربية، واقتصر على صد أي هجمات من الصهاينة، دون الدخول في عمليات هجومية توقف عمليات التطهير والطرد الجارية في بقية فلسطين!
أشار بابيه أيضاً لفارق القوة العسكرية بين اليهود والعرب، فقد شكل اليهود جيشاً بلغ عشية حرب 1948 50 ألف مقاتل، وصلت بعد التعبئة العامة إلى 80 ألف جندي بنهاية الصيف، في مواجهة قوة عسكرية فلسطينية متواضعة لا تجاوز 7000 بتسليح رديء، مع نحو 3000 متطوع عربي، أما إجمالي الجيوش العربية، فلم يتجاوز 50 ألف جندي، وإذا أخذنا في الاعتبار أن قسماً كبيراً منهم لم يكن ذو فعالية حقيقية – كما ذكرنا في حالة الفيلق العربي – وأن قوات جيش الإنقاذ قد تقسمت بين ثلاثة قادة (فوزي القاوقجي وحسن سلامة وعبد القادر الحسيني) واتخذت في أغلبها مواقع دفاعية وكانت تحركاتها في الأغلب وفق توجهات الدول العربية التي كانت تخشى طموحات المفتي، وأن القوات النظامية لم تكن تتحرك بتنسيق ولم تكن على نفس القدر من التسليح مقارنةً بالصهاينة الذين نجح الحزب الشيوعي الصهيوني في الحصول للصهاينة على شحنة كبيرة من الأسلحة من تشيكسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي في وقت مبكر، فقد كان هناك فارق حقيقي في القوة، مع مراعاة أن حتى الأرقام أعلاه تختلف بين المراجع، زيادةً ونقصانا. وفي رسالة لبن جوريون في فبراير 1948 ذكر موشيه شاريت أن القوات اليهودية تكفي بالكاد للدفاع عن النفس، لا للاستيلاء على البلد، فرد بن جوريون أنهم "إذا استلموا الأسلحة التي اشتروها والتي وُعدوا بها في الوقت المناسب، سيكون بإمكانهم أيضاً إيقاع ضربات مؤلمة بالسوريين في عقر دارهم، وأن يحتلوا فلسطين بأسرها، ومواجهة القوات العربية كافةً، وأن هذا ليس إيماناً صوفياً، ولكن حسابات منطقية تستند إلى معطيات عملية". كما صرح بن جوريون بأن "خريطة التقسيم تتضمن 40% من غير اليهود في الأماكن المقررة للدولة اليهودية، وأن هذه التركيبة لا تمثل أساساً متيناً لدولة يهودية من حيث الميزان الديمغرافي، وأن فقط دولة لا يقل اليهود فيها عن 80% ممكن أن تكون دولة مستقرة". وعلى هذا الأساس كانت عمليات التطهير العرقي لازمة لتشكيل هذه الدولة.
تطورت أساليب العنف الصهيوني، فمن البدء بتحرشات بالعرب تنتج عنها أعمال مقاومة تكون ذريعة لأعمال انتقامية، مروراً بعمليات التطهير الكامل بأساليبها المتعددة، تدرجاً من حصار القرى العربية بالآليات والقوات المسلحة، والإنذار والتخويف بمكبرات الصوت والمنشورات، وصولاً للتفجيرات ونسف البيوت والقتل العشوائي، مما يخلق حالة من الرعب والإرهاب تجبر الأهالي العزل على الهروب إلى القرى المجاورة، ويروون على مسامع غيرهم ما لقوا، فتكون القرية التالية مهيأة نفسياً للنزوح قبل أن تلقى نفس المصير، وهلم جرا. وكانت مجزرة قرية دير ياسين في أبريل 1948 من أهم وأشهر الأمثلة على هذه السياسة.
وبخلاف القرى، فقد استفاض بابيه في عرض تفاصيل ما حدث لأهم المدن العربية: صفد، بيسان، القدس، كما تعرضت الأحياء العربية في حيفا وعكا وغيرها من مدن الساحل لأكبر صور العنف الصهيوني، وكل هذا على مرأى ومسمع من قوات الانتداب البريطاني التي لم تحرك ساكناً حتى بعد استغاثة السكان العرب بهم، وامتلأ ميناء حيفا بأعداد كبيرة من النازحين الذين يبحثون عن وسيلة يهربون بها من الموت. واستسلمت عكا بعد أن لوثت القوات المحاصرة لها مصادر المياه بالتيفود، أما يافا فقد كانت آخر مدينة تم احتلالها، وذلك في 13 مايو قبل يومين من نهاية الانتداب، وهوجمت من قبل 5000 جندي من الهاجاناه والإرجون، وحاول الدفاع عنها عدد من المتطوعين العرب تحت قيادة ميشيل العيسى، وهو مسيحي فلسطيني، وكان من بين المتطوعين وحدة استثنائية مكونة من 50 مسلماً من البوسنة، وبعد البحث وجدت أن قضية فلسطين قد اجتذبت في هذا الوقت بخلاف المتطوعين العرب متطوعين مسلمين من البوسنة، وقد أشار لهذا أيضاً أمين الحافظ في شهادته على العصر، وبخلاف ذلك، شارك في الدفاع عدد من أفراد الجيل الثاني من فرسان الهيكل، وهم مستعمرون ألمان جاءوا البلد في منتصف القرن التاسع عشر كمبشرين دينيين، وقرروا الآن أن يدافعوا عن مستعمراتهم (وجدت إشارة لمقدم هؤلاء الألمان في كتاب الجذور الاجتماعية للنكبة)، ويستطرد بابيه بأن فرسان آخرين قد استسلموا في الجليل بدون قتال، وطردوا من أماكن تواجدهم بجوار مدينة الناصرة.
يذكر بابيه أنه في غضون أسبوعين بعد نهاية الانتداب، كانت القوات اليهودية قد وصلت إلى معظم المستعمرات اليهودية المعزولة، اثنتان منهما فقط احتلهما الفيلق العربي لأنهما كانتا واقعتين في المنطقة التي اتفق الطرفان قبل مايو 1948 على أن يحتلها الأردن ويضمها إليه، أي الضفة الغربية، وقد أصر الأردنيون على أن لهم يكون نصف القدس الذي يحوي المدينة القديمة والأماكن الإسلامية المقدسة، وحيث لم يكن هناك اتفاق مسبق بشأن القدس، فقد اضطروا للقتال من أجل حصتهم، ونجحوا في تحقيق هدفهم، وكانت تلك المرة الوحيدة التي اشتبك فيها الطرفان في معركة، وذلك خلافاً لامتناع الفيلق العربي من التدخل حينما كانت وحداته مرابطة بالقرب من القرى والبلدات الفلسطينية، بينما كان الجيش الإسرائيلي يقوم بالاحتلال والتطهير والتدمير.
ومن المعلومات التي استوقفتني، معلومة ذكرها بابيه عن قرار عدد من الأقليات الإثنية في فلسطين أن تنضم للقوات اليهودية التي استشفوا أنها ستكون الجانب المنتصر، وفي ذلك يذكر أن 500 من الدروز فروا من جيش الإتقاذ وانضموا للقوات اليهودية، ولكنهم قبل أن يغيروا معسكرهم طلبوا من القادة اليهود افتعال معركة وهمية وأخذهم أسرى! وشاركوا في عمليات التطهير العرقي في الجليل، وكذلك انضم لليهود 350 من الشركس القاطنين في قرى في شمال فلسطين، ومن هذه الأقليات تكونت نواة حرس الحدود الإسرائيلي.
ويتحدث بابيه عن ما أسماه (الحرب الحقيقية) و(الحرب المزيفة)، فبتحييد أقوى الجيوش العربية الداخلة لفلسطين (الجيش الأردني) بفعل التحالف الضمني بين الملك عبد الله والحركة الصهيونية، سمى الجنرال جلوب قائد الفيلق العربي حرب 1948 (الحرب المزيفة)، بينما اعتبر بابيه أن (الحرب الحقيقية) كانت تمثل استمرار اليهود في مخطط التطهير العرقي بالتوازي مع العمليات العسكرية الحقيقية مع بقية القوات العربية المتشرذمة، مع تكثيف عمليات التطهير خلال فترات الهدنة. وكانت مجزرة الطنطورة من أشهر المجازر التي جرت بعد اندلاع الحرب بأيامٍ قلائل.
وقد لخص بابيه أداء القوات العربية التي من المضحك أن القائد العام لها هو الملك عبد الله نفسه، فالقوة التي أرسلتها مصر تم تجميعها قبل يومين فقط من بدء الحرب، والقوات السورية كانت أفضل تدريباً والساسة كانوا أكثر التزاماً، ولكن أداء القوات على الأرض كان سيئاً لدرجة أن اليهود فكروا في توسيع حدود الدولة اليهودية شمالاً لتشمل الجولان!، أما لبنان، فقد كانت القوات القليلة التي وفرتها قد أمضت أغلب فترات الحرب في الجانب اللبناني من الحدود، أما القوات العراقية، فقد أمرتها حكومتها باتباع تعليمات الأردن، وبالتالي التمركز في الضفة الغربية وعمل عمليات دفاعية فقط في نطاق رباطها شمال الضفة، لكن القوات تحدت أوامر ساستها، وحاولت القيام بدور أكثر فاعلية، وبالتالي نجت 15 قرية عربية من الطرد، لكن تخلت عنها لاحقاً الحكومة الأردنية لصالح إسرائيل في صيف 1949 بعد اتفاقيات الهدنة! وفي المجمل كانت النجاحات الأولية للقوات العربية تشمل العمليات العسكرية في الأسابيع الثلاثة الأولى للحرب، وبنى الصهاينة أسطورة انتصارهم في الحرب على دعوى أنهم قابلوا قوات عدة دول عربية مجتمعة واستطاعوا الصمود في وجوههم، وأن السكان قد نزحوا عن أرضهم تحت طلب القوات العربية للابتعاد عن مجال العمليات العسكرية، مع التجاهل التام لجريمة التطهير العرقي.
بعد نجاح اليهود في اغتصاب ما استطاعوا اغتصابه من أرض فلسطين، تحدث بابيه عن الوجه القبيح للاحتلال، ومشكلة اللاجئين، ومعاناة الفلسطينيين الذين بقوا في أراضيهم وعرفوا لاحقاً بعرب 48، والاستيلاء على أراضي وأملاك وبيوت الغائبين، وتدنيس وهدم الأماكن المقدسة، وتدمير الأماكن التاريخية لمحو أي مظاهر لهوية عربية إسلامية. وتحدث أيضاً عن المشكلة الديمغرافية التي تواجه الكيان الصهيوني، والإجراءات التي يتخذها الصهاينة في هذا الصدد ومنها الجدار العازل الذي يبقى التجمعات الفلسطينية الكثيفة خارجه، كما خصص فصلاً أسماه (محو ذكرى النكبة) لعرض المحاولات الحثيثة للصهاينة لإزالة أي آثار للوجود العربي من الأرض المحتلة، وبخلاف عبرنة أسماء المدن والقرى والأماكن، لجأوا للتوسع في عمل الحدائق العامة وغرس الأشجار في مواقع القرى العربية المدمرة، واختاروا الصنوبريات بدلاً من النباتات الطبيعية الملائمة لمناخ فلسطين لإضفاء مظهر أوروبي على البلد، ويذكر أن الغابات الموجودة في فلسطين اليوم تحتوي على 1% فقط من أنواع النباتات الأصلية، وهي تمثل 10% فقط من إجمالي الغابات الموجودة قبل عام 1948، وفي لفتة شاعرية يذكر بابيه أنه في بعض الأحيان تعود الأشجار الأضلية إلى الظهور بطرق مذهلة، لأن الكثير من الشجر الذي غرسه الصهاينة فشل في التأقلم مع التربة الفلسطينية، فظلت الأشجار تصاب بالأمراض، وفي قرية المجيدل شوهدت بعض أشجار الصنوبر وقد انشقت نصفين، وبرز وسط الجذوع المنشقة أشجار زيتون متحدية الأشجار الغريبة التي غرست فوقها قبل 50 عاماً! وبهذه الصورة الشاعرية التي تمثل في نظري انشقاق الأرض ليخرج من بطنها أبناؤها المقاومون ضد الغزاة المحتلين، أختم هذه المراجعة لهذا الكتاب الهام الذي أتمنى لو يتاح لي أن أقرأه مرةً أخرى، والذي أعتبر قراءته واجباً على كل مهتم بالقضية الفلسطينية.

ليست هناك تعليقات: