تلقي هذه السيرة الذاتية الممتعة الضوء على الدور الذي لعبه الاحتلال الانجليزي داخل الإدارة الحكومية المصرية من خلال المسيرة المهنية لتوماس راسل الذي بدأ كضابط مبتديء بخفر السواحل ثم مساعد مفتش ثم مفتش وتدرج في الوظائف بوزارة الداخلية وصولاً لمنصب حكمدار القاهرة. وعلى هامش هذه المسيرة يتبين لنا مدى تغلغل الاحتلال داخل الإدارة المصرية من خلال (مستشاريه) الذين كانت لهم اليد العليا على الموظفين الأتراك والمصريين.
يعرض الكتاب صورة الحياة في مصر مطلع القرن العشرين من منظور المحتل الإنجليزي، مع عرض للعديد من التفاصيل المهمة في الحياة الاجتماعية والسياسية، سواء في المدن أو الريف أو الصعيد، وحتى حياة البدو، نظراً لتنقل صاحب السيرة بين مختلف مديريات مصر على مدار خدمته. كما وصف ريف مصر وصحاريها من واقع جولاته ورحلات الصيد التي شارك فيها.
قدم الكاتب تحليله لنوعيات الجرائم المختلفة في مصر ونسبة جرائم القتل منها وأسبابها التي تعود في الأغلب للثأر، كما مر عرضاً بالحالة الصحية للمصريين في الريف والصعيد، وانتشار الأمراض المتوطنة وبالأخص البلهارسيا بينهم، وأثر تغيير نظام الري بعد تشييد القناطر المختلفة على النيل من انتشار البلهارسيا في الصعيد بعد اقتصارها على الدلتا، وبالتالي تأثير ذلك على إنتاجية العمال والفلاحين من أهل الصعيد، وحساب ذلك من خلال استطلاع آراء عدد من المقاولين عن الفارق بين انتاجية عمال الصعيد على مدار عدد من السنوات وبالأخص أعمال الحفر، والتي وجد أنها انخفضت للنصف بسبب الوهن والضعف العام الناتج من البلهارسيا.
تحدث الكاتب أيضاً عن الفروق بين سكان مصر ما بين الحضر والريف والصحراء، وبالأخص الفروق بين الفلاحين والبدو. كما تحدث كثيراً عن رحلات الصيد التي قام بها في مختلف صحاري مصر، وبالأخص الصحراء الشرقية، وتحدث باستفاضة عن قص الأثر، مع سرد للعديد من المواقف والقضايا التي ظهرت فيها مهارة قصاصي الأثر ودورهم في حل بعض القضايا الشائكة وكشف وتحديد الجاني، وأشار إلى مقولة للبدو "الصحراء لا تكذب"، وقبول النيابة لقص الأثر كأحد الأدلة، بل وطلبهم لقصاص الأثر في بعض القضايا للتأكد من نتيجة التحقيق. كما أشار إلى أهمية الطب الشرعي في البحث الجنائي، وذكر عدداً من الأسماء اللامعة في ذلك المجال ومنهم نولان وسيدني سميث، الذي تُرجمت مذكراته للعربية بواسطة نفس مترجم هذا الكتاب.
أفرد الكاتب أيضاً فصلاً للحديث عن الثعابين والرفاعية ومدى اهتمامه بهم، كما أفرد فصلاً خاصاً بالغجر وتنقلهم الدائم بين قرى مصر، وعاداتهم ولغتهم الخاصة، وأشار إلى أن قبيلتهم تُلقب بالغوازي، ولعل هذا سبب إطلاق لقب "الغازية" على الراقصات في الريف.
تحدث الكاتب أيضاً عن بدء تدريب واستخدام الكلاب البوليسية، وتحدث بشكلٍ خاص عن أشهر هذه الكلاب في مطلع القرن العشرين وهو "الكلب هول"، وأذكر أني سمعت إسمه لأول مرة في أحد الأفلام القديمة. وعرض الكاتب عدداً من القضايا التي كُشف الجاني فيها بمعاونة الكلب هول، والذي كان له قدرة فريدة في تمييز الروائح المختلفة وتتبعها.
تحدث الكاتب أيضاً عن المجتمع السفلي للقاهرة، وعن الأماكن الشهيرة بالبغاء والعاهرات والقوادين، سواء من المصريات أو الأوربيات، وعن محاولات التضييق على هذه الجرائم من خلال مداهمات بغرض ضبط الحشيش أو القمار، ولكنه للمفارقة أشار أيضاً لدور الامتيازات الأجنبية في إعاقة عمل الشرطة، فقال: "لقد كانت الامتيازات الأجنبية تعوقنا، خاصة عند التعامل مع دور البغاء غير المرخصة التي يمتلكها الأجانب. إن أحد بيوت البغاء الشهيرة لم نستطع أنا ورجالي الاقتراب منها بسبب التغيير الدائم لجنسية القوادة؛ وذلك لأن الشرطة لم يكن في إمكانها دخول بيت أجنبي من دون إذن وحضور القنصل الخاص بذلك الأجنبي أو من يمثله. وأتذكر أننا عندما وصلنا إل هذا البيت ومعنا مندوب القنصل الفرنسي للتفتيش على الرخصة لدى القوادة الفرنسية التي تدير البيت، انفتحت شراعة الباب وسمعت صونتا أجشا يقول لنا: (إن مدام يوفانا باعت البيت إلى مدام جتتيلي الإيطالية) التي من دون وجود قنصلها لا نستطيع الدخول إلى البيت. وفي الأسبوع التالي ذهبنا إلى البيت ومعنا مندوب القنصل الإيطالي لنقابل تغييرًا جديدًا في جنسية مديرة الدار. وقمتُ؛ من خلال مأمور القسم؛ بسبع محاولات تغير فيها مندوبي القناصل في كل مرة!"وهي صورة من صور أثر الامتيازات الأجنبية، وكان الكاتب في موضع آخر من الكتاب قد تكلم عن ملمح آخر من سيادة الامتيازات الأجنبية في شكل المحاكم المختلطة التي لابد أن يتحاكم أمامها المصري لو اختلف مع أجنبي، أو التي يحال لها الأجنبي لو ارتكب مخالفة أو جرما، والتي بطبيعة الحال كانت تحكم في الأغلب بالبراءة للأجنبي.
ومع كون الكاتب في مقدمة كتابه قد أشار إلى أن موضوع الكتاب مهتم في الأساس بعرض هذه الفترة من تاريخ مصر من المنظور الشرطي الأمني، بعيداً عن الحديث عن الجانب السياسي والوطني، إلا أنه خصص فصلاً للحديث عن ثورة 1919، والتي عبر عن تعاطفه مع الأماني الوطنية المصرية، وأقر بصدور أعمال غير مقبولة منه، لكنه لم يبين هذه الأعمال، بل على العكس، كان أغلب الفصل يتحدث عن أعمال الشغب والتخريب وما أسماه الفوضى، في مقابل محاولاته للتهدئة وترشيد الأمور والسيطرة على سير المظاهرات. كما ذكر عدداً من حوادث استهداف الأجانب، في حين لم يذكر مثلاً أعداد الشهداء والجرحى والمعتقلين من الثوار، وبغض النظر، فإن هذه هي المرة الأولى التي أقرأ فيها عن الثورة من المنظور الآخر.. منظور المحتل.
خصص رسل الفصول الأربعة الأخيرة للحديث عن المخدرات ومكافحتها وطرق تهريبها المختلفة بما فيها بطون الجمال، وقد اعتبر جهوده في هذا الصدد من أهم إنجازاته المهنية، وبدأها بذكر ملاحظاته حول بدء انتشار الكوكايين والهيروين في مصر خلال الحرب العالمية الأولى، وتحول المدمنين إلى حطام بشر، وسعيه لصدور تشريع قانوني يجرم امتلاك المخدرات والاتجار فيها، والذي صدر لأول مرة عام 1925، وإن كانت العقوبات في البداية خفيفة (حبس عام وغرامة 100 جنيه!).
وبسبب استفحال المشكلة، استجابت الحكومة لطلبه بتشكيل مكتب مركزي لاستخبارات المخدرات، لتعقب مصادر المخدرات المستوردة من أوروبا، وملاحقة تجار المخدرات في مصر، مع التعاون مع لجنة مكافحة المخدرات في عصبة الأمم، ويوضح رسل أن مصر كان لها دورٌ رائدٌ في هذا المجال بالرغم من أنها لم تكن عضواً بعصبة الأمم. ويلاحظ أن هذا المكتب كان من ضمن أنشطته من خلال عناصره الأوروبية الاندساس وسط بعض كبرى المنظمات والعصابات الدولية في أوروبا والتجسس عليها والإيقاع بأفرادها بالتعاون مع السلطات في الدول الأوروبية، وقد سرد رسل عدداً من العمليات التي أسفرت عن الإيقاع بعدد من شبكات تجارة المخدرات والمهربين، أما فيما يتعلق بتجار المخدرات الأجانب داخل مصر، فقد كانت معضلة الامتيازات الأجنبية تعوق إنزال العقوبات الرادعة على المهربين الأجانب الذين كانوا يُحاكمون أمام المحاكم المختلطة، ولم يتحسن الوضع إلا بعد إلغاء الامتيازات الأجنبية.
وبهذا أنهى رسل الكتاب الذي لخص فيه حياة حافلة شملت 44 عاماً من الخدمة المهنية في مصر في عددٍ من الوظائف الشرطية وصولاً لحكمدار القاهرة برتبة لواء ولقب باشا، ولا شك أن هذه الفترة الطويلة كانت ثرية بالأحداث والتفاصيل والمغامرات، وقد عبر رسل عن استمتاعه بفترة خدمته في مصر، فبجوار قيامه بأعباء وظيفته، فقد استمتع – شأنه شأن جميع الأجانب الذين استوطنوا مصر – بطقسها ونيلها وطبيعتها، وتجول فيها بالطول والعرض، ورأى فيها أشياءً سنموت دون أن نراها، واستمتع بالصيد والرحلات في الصحاري والريف.
ونلاحظ في أمثال هذه المذكرات انخراط الأجانب من جنسيات مختلفة (إنجليز – طليان – يونانيين ...إلخ) في المؤسسات الحكومية سواء في المواقع القيادية أو حتى التنفيذية الدنيا، والتي تخول لهم مواقعهم التحدث باسم الحكومة المصرية، وقد كان رسل هو المتحدث باسم مصر في الاجتماعات الخاصة بمكافحة المخدرات في عصبة الأمم. كما نلاحظ مدى تغلغلهم في المجتمع وصولاً للطبقات الدنيا، واتقان بعضهم للعربية والعامية المصرية، وتمكنهم من عمل علاقات وثيقة مع العُمد وشيوخ القبائل وحتى آحاد الناس، واستفادتهم من هذه العلاقات في التحكم والسيطرة وتسيير الأمور.
وقد يندهش القاريء من مدى الدأب والجهد والجدية التي مارس بها هذا الرجل وأقرانه أعمالهم في مصر، والتي تبدو أنها في خدمة مصر والمجتمع المصري، وعلى حد تعبير راسل: "لقد جئت أنا وزملائي الإنجليز إلى مصر في الأيام المبكرة لخدمة المصريين لاتخاذ طريقهم نحو الحكم الذاتي، والآن بعد تحقُّق الاستقلال، فإن المرء يشعر أن عمله انتهى" وهو أمرٌ مثير للسخرية، والحقيقة أن الأمر لا يعدو كون كل هذه الجهود هي في النهاية لخدمة الاستعمار وأهدافه، فكل مشروعات الطرق والسكة الحديد التي استكملها الإنجليز كانت في الأساس لخدمة خطوط المواصلات الإمبراطورية لضمان سرعة الانتقال سواء للأغراض التجارية أو العسكرية، وبطبيعة الحال فإن أي استثمار في (المستعمرة) يجب أن يؤَمَن وأن يكون استقرار المجتمع مضموناً، أما الإشارات للحالة الصحية للمصريين والحرص على إزالة ما يهددها، سواء من أمراض وأوبئة، أو من مهلكات للصحة كالمخدرات، فإن الأساس في ذلك هو ضمان استمرار الأيدي العاملة اللازمة لخدمة مشروعات الإمبراطورية البريطانية، ولتغذية مصانعها بالمواد الخام وعلى رأسها القطن.
لقد تذكرت أثناء قراءة هذا الكتاب فقرة صادفتني في مذكرات مونتجمري، يتحدث فيها عن الوضع في ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وحيثما كان مسؤولاً عن إدارة القسم الواقع تحت السيطرة البريطانية، فقد لفت النظر إلى الفروق بين أنماط الاستعمار المختلفة، وذكر أنه طالما أن ألمانيا عليها أن تدفع نفقات الاحتلال، فلابد أن تتاح لها القدرة على فعل ذلك، ولم يكن الفرنسيون محبذين لإعادة بناء ألمانيا عدوتهم القديمة، وكان الروس متعجلين للحصول على تعويضات على شكل آلات وخدمات، ثم قال نصاً: "ونظراً للاختلاف في الأهداف، كنا سنضطر إلى معاملة منطقتنا كمستعمرة، وكذلك سيفعل الفرنسيون في منطقتهم ، ولكن الفرق بين نظرياتنا الاستعمارية كان كبيراً، فالفرنسیون سيبقون منطقتهم كسيحة، بينما سنجتهد نحن لانهاض منطقتنا."، وفي هذا تلخيص لمفهوم الاستعمار البريطاني الذي يستثمر في المستعمرة لكي يعظم العائد منها، أو بتشبيه آخر، هو لا يكتفي بمص دمها، بل ينظفها ويغسلها ويسمنها أولاً، ثم يمص دمها بعد ذلك! ولو جاز لنا التشبيه، لقلنا إن الحكومات (الوطنية) في حقبة ما بعد الاستعمار هي كلها على النمط الفرنسي، هي حكومات لمص دم الشعوب وإفقارها فقط، أزاحهم الله عنا كما أزاح الاستعمار المباشر من قبلهم.
وأختم هذه المراجعة بنقل فقرة هامشية لكنها مرتبطة بالواقع المصري الحالي، حيث يقول رسل: "لقد غيَّرت الحرب العالمية الأولى (١٩١٤ – ١٩١٨م) كثيرا من الأشياء؛ فالعربان المحليون تحولوا إلى الصيد سعيا إلى الربح، وقطعوا أشجارا تتجاوز أعمارها مئات السنين وأحرقوها للحصول على فحم ليبيعوه في الوادي؛ ومع العادة الهمجية لقطع الأشجار في تلك المناطق لاستخدامها كفحم فقد اختفت الحيوانات والكائنات النادرة التي كانت تعيش بهذه المنطقة تمامًا."
وهذه الفقرة ذكرتني بهمجٍ آخرين، لكنهم يقطعون الأشجار ليحصلوا منها على فحم يبيعونه للعدو، في مزيج من الهمجية والغباء والجشع والخيانة، قطعهم الله وحرقهم، هم ومن خلفهم ومن يشتري منهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق