الأحد، 25 مايو 2025
تاريخ فلسطين الحديث
يتناول هذا الكتاب تاريخ فلسطين الحديث حتى نهاية الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1939، ويُعتبر من الكتب الهامة والمتميزة في مجاله، لاعتماده بشكل كبير على الأرشيفات والسجلات والرسائل والوثائق التاريخية، بل وحتى المقابلات الشخصية مع بعض صناع الحدث كالمفتي أمين الحسيني.بدأ الكتاب بعرض لمحة عن جغرافيا فلسطين وتاريخها القديم بشكل مختصر، ثم تناول في الفصل الثاني بشكل أكثر تفصيلاً الوضع العام لفلسطين في أواخر العهد العثماني.
وهنا أستطرد قليلاً لأن من خلال هذا العرض المبدئي، يتبين للقاريء خلفية الكاتب الفكرية وتوجهه، والذي يتضح أنه قومي، وهو شيء طبيعي ومتفهم نظراً للعصر الذي شهد خروج هذا العمل للنور (أواخر الستينيات)، وبشكلٍ عام، فإن خلفية الكاتب وتوجهه تحدد انحيازاته واختياراته ومفاهيمه، ولذلك يجب على قاريء التاريخ أن ينتبه لأيديولوجية المؤرخ قبل القراءة، وأن ينتبه لمدى تأثيرها على جهده البحثي وموضوعيته، وأن ينتبه للفارق بين المعلومة والرأي، فإنه لا يُتوقع أن يخلو أي عمل من تحيزات لأن عدم التحيز هو أمرٌ مخالفٌ للطبع البشري، لكن غاية ما يرجوه المرء من الكاتب هو أن يكون موضوعياً، وأعتقد أن د. عبد الوهاب الكيالي في هذه الدراسة قد غلبت موضوعيته تحيزاته مهما ظهرت.
ومن جانبٍ آخر، فإنه من المفيد أن ينظر المرء للحدث التاريخي بأعين مؤرخين من خلفيات فكرية مختلفة حتى لو لم يتفق معها، فإن كل مؤرخ حينها سيتناول الحدث التاريخي من منظورٍ مختلف ويركز على زوايا لم يركز عليها غيره، سواء عن حقٍ أو بتعسف، وحينها لن يعدم القاريء من حصول الفائدة الناتجة من تنوع الرؤى واكتمال الصورة.
نعود لموضوع الكتاب، تحدث الكاتب عن بدء نمو ظاهرة الهجرة اليهودية لفلسطين أواخر عهد العثمانيين، وبدى الجانب القومي في تناوله للثورة العربية، وهو ما يدعونا لاستطراد آخر لأننا نحتاج ونحن ندرس مثل هذه الأحداث الفارقة أن ننتبه لمنظور أهل العصر لها، ونتفهم الدوافع والمسببات حتى لو لم نتفق معها بالضرورة، فهذه الثورة إن كانت بحساباتنا الحالية – وخصوصاً لو كانت أيديولوجيتك إسلامية - هي من قبيل الخيانة، فهي من منظور الغير رد فعل على سياسات التتريك والتهميش للعرب وغيرهم.
لعب اليهود على كل الحبال لكي يحققوا أحلامهم، ولكنهم تعلقوا بعنق بريطانيا التي رأت في تبني الحلم الصهيوني اتفاقاً في المصالح، وبالتالي كان وعد بلفور، ومن بعده وثيقة الانتداب، في الوقت الذي كان العرب فيه ممزقين ما بين الاستعمار أو الانتداب أو الملكيات المتحالفة مع الاستعمار.
نلاحظ أن وعي أهل فلسطين المبكر بخطر الصهيونية والهجرة اليهودية، وسعيهم بشتى الوسائل لتنظيم صفوفهم للوقوف ضد هذا الخطر، فنشأت العديد من الجمعيات الإسلامية المسيحية، ونشط دعاة الوحدة المطالبين بوحدة سوريا الكبرى الممزقة بين الفرنسيين والإنجليز، ويُلاحظ أنهم كانوا يُعبرون عن فلسطين بصفتها (سوريا الجنوبية)، كما تكررت الهبات والانتفاضات الشعبية الناتجة من الاحتكاك مع العدو، وعلى رأسها ثورة العشرين، وثورة البراق عام 1929. وفي وسط هذه الهبات نشأت على استحياء بعض الجماعات التي تبنت الكفاح المسلح ومنها جماعة (الفدائية)، ولكن هذه المجموعات كانت تُطارد وتحاصر وتوئد، ليس فقط بواسطة قوات الانتداب البريطاني، بل أيضاً من خلال اليهود الذين كونوا أجهزة استخبارات خاصة بهم!
على مدار الكتاب يبدو جلياً تباين المواقف بين الشباب وبين الشيوخ والوجهاء، ففي حين كان الشباب أكثر وعياً بالمخاطر وسعياً للكفاح والحل الثوري، كان الوجهاء أكثر تريثاً وميلاً للمهادنة والسلام مع الإنجليز، ولم يكن هذا مستغرباً لكون أكثرهم من الاقطاعيين أصحاب المصالح، وكانت تسيطر عليهم مشاعر الهيبة تجاه بريطانيا والخوف منها ومن قوتها، وحتى حينما قررت بريطانيا أن تعين شخصية صهيونية (هربرت صمويل) كأول مندوبٍ سامٍ لها بفلسطين، فإن الوجهاء تهيبوا حتى أن يقاطعوا الاجتماع معه!
تعدد الاضطرابات نشأ عنه تعدد للوفود التي تكرر سفرها لبريطانيا لعرض وجهة النظر العربية، والتي كانت ترجع صِفر اليدين سوى من وعودٍ بأن وعد بلفور كما تبنى فكرة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، فإنه جعل ذلك مشروطاً بعدم التعرض لحقوق أهل البلاد، وكانت الأحداث تثبت أن بريطانيا كانت تسوف وتشتري الوقت لصالح اليهود.
تحدث الكاتب عن مؤتمر القاهرة عام 1921، وهو مؤتمر هام دعا إليه تشرشل بصفته وزير المستعمرات، والتقى فيه بكبار المسؤولين الإنجليز في الشرق الأوسط ليناقش ترتيبات المنطقة في مرحلة الانتداب والاضطرابات في العراق وسوريا، وكان من ضمن توصيات المؤتمر إنشاء إمارة شرق الأردن بقيادة عبد الله بن الحسين، لتكون مأوى للفلسطينيين الذي سيضطرون مستقبلاً لمغادرة بلادهم بسبب المخطط الصهيوني!
شهدت المرحلة منذ بداية الانتداب وحتى اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 متغيرات عدة، فقد فترت الهجرة اليهودية قليلاً في العشرينيات ثم عادت لترتفع وتيرتها بشكلٍ كبير بعد صعود النازية في ألمانيا في الثلاثينيات، وازدادت معاناة الفلاحين الفلسطينيين إزاء زيادة الأعباء الاقتصادية والضرائب الحكومية عليهم، بخلاف نزع الأراضي من صغار الفلاحين وتواطؤ حكومة الانتداب لتيسير استحواذ اليهود عليها، وتعددت الصدامات بين العرب واليهود، وبين العرب وحكومة الانتداب، وفي خلال هذا كانت دعوة الشيخ عز الدين القسام تكتسب الأنصار في حيفا ومحيطها، إلى أن خرج الشيخ مع بعض أنصاره لبدء الاستعداد للجهاد أواخر عام 1935، واستشهد مع بعض رفاقه مشتبكاً مع العدو، وكان استشهاده علامة فارقة وإحدى الشرارات التي أدت لاندلاع الثورة بعدها بأشهرٍ قليلة.
مع اندلاع الثورة وبدء الاشتباكات المسلحة مع العدو وانضمام العديد من المتطوعين من خارج فلسطين لدعم الثورة، اضطر الانجليز لاستدعاء الاحتياطي وطلب قوات من مصر ومن بريطانيا ذاتها لكي تستطيع السيطرة على الموقف، وفي حين كان الشعب يسجل مواقف مشرفة في النضال والقدرة على التحرك بشكل موحد لدعم الثورة عن طريق الاضرابات العامة مثلاً، فإن القيادات مرة أخرى لم تكن على مستوى الحدث، وكانوا يصارحون الانجليز أنهم لا يستطيعون كبح جماح الجماهير كي لا يفقدوا مصداقيتهم أمامهم، أما الملكيات والحكومات العربية المحيطة، فما كان منها إلا أن ضغطت على الثوار ترضيةً لبريطانيا وثقةً بها، ودعوا لحل الإضراب والاعتماد على النيات الطيبة لصديقتهم بريطانيا!
وفي نفس السياق، كان حزب الدفاع الوطني التابع لآل النشاشيبي - المنافسين لآل الحسيني عائلة المفتي – لديه النية للموافقة على قرار تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وكان ذلك بالتواطؤ مع عبد الله ملك الأردن الذي كان سيكسب من ذلك توسيع مملكته إذا ضم إليها الضفة. ومع تباين المواقف، كان بعض الساسة يسعى لإيجاد أي قدر من المرونة والوصول لحل وسط، لدرجة أن جمال الحسيني عرض الموافقة على بقاء اليهود الحاليين في فلسطين واعتبارهم مواطنين لهم حقوق كاملة وتمثيل نسبي وحكم ذاتي في مناطقهم، لكن حتى مثل هذه التنازلات لم تقبلها حكومة الانتداب التي كان همها الأول هو كسر الثورة ومحاكمة (المتمردين).
وقد تعرضت الثورة للعديد من الضربات داخلياً وخارجياً حتى خمدت في عام 1939، الذي شهد مطلعه مؤتمراً في لندن حضرته وفود من فلسطين ومن الدول العربية (المستقلة)، وحضر كذلك وفد صهيوني بقيادة وايزمان، وقابل الإنجليز كل طرف على حدة لرفض العرب الاجتماع بالصهاينة، وكانت الطلبات العربية هي استقلال فلسطين ووقف الهجرة اليهودية وبيع الأراضي وفكرة الوطن القومي اليهودي، أما وايزمان فقد طالب باستمرار تنفيذ ما ورد بصك الانتداب وتصريح بلفور، ورفض أن يكون اليهود أقلية في فلسطين، بل وقدم البراهين والحجج التي تثبت للإنجليز الفائدة التي تعود عليهم من وجود (حليف مخلص نشيط تقدمي) في هذا الجزء من العالم. أما الإنجليز، فكان الوضع العام في أوروبا الذي ينذر بقرب نشوب الحرب دافعاً لهم لعدم إغضاب العرب وإثارة حفيظتهم، لكنهم لم يعطوا لهم شيئاً حقيقياً في المقابل، أما اليهود فقد شعروا أن بريطانيا توشك على التخلي عن سياسة الوطن القومي اليهودي، فبدأ الصهاينة في الوقت نفسه بالتطلع شيئاً فشيئاً نحو الولايات المتحدة.
وبعد أن أنهى الكتاب، وضع الكيالي ملحقاً للوثائق، أدرج به مراسلات الحسين مكماهون، وكذلك نص صك الانتداب، والمطلع على المراسلات يجد أن الإنجليز باعوا الهواء للعرب، وحفلت ردود مكماهون بعبارات مطاطة لا تلزم الإنجليز بحدود الدولة التي رغب فيها الشريف حسين، بل لقد قلصوا منها وجعلوا الشام والعراق رهناً للاعتبارات السياسية والعسكرية لكل من إنجلترا وحليفتها فرنسا، وحتى عام 1939 كانت الوفود العربية في مفاوضاتها مع الإنجليز تستدعي ما فهموه من هذه المراسلات بأن فلسطين مشمولة في المنطقة التي تعهد مكماهون نيابةً عن الحكومة البريطانية بأن يعترف باستقلال العرب فيها ويؤيده، وكان رد الإنجليز أنهم يأسفون لسوء الفهم الذي نشأ حول بعض العبارات الواردة في هذه المراسلات، وأنهم لا يرون إلا أن فلسطين وكل الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن كانت خارجة عن هذا التعهد!
أما صك الانتداب، فإن المطلع على مواده يجد أنه يُمكن أو يوصف باختصار أنه اللائحة التنفيذية لتطبيق وعد بلفور، وترتيب كافة الأوضاع التي تُمكن من إقامة الوطن القومي اليهودي على أرض فلسطين.
وإلى هنا ينتهي هذا الكتاب الهام في موضوعه والمميز في مصادر جمع مادته، وإن المرء ليأسف أن العدو قد اغتال كاتبه قبل أن يتمكن من إعداد الجزء الثاني من الكتاب. ولا يملك المرء وهو يقرأ هذه التفاصيل التاريخية، ما بين ثورة الشعب المقاوم ضعيف التسليح أمام عدو مدجج بالسلاح، وهو ما بين مطرقة العدو، وسندان القيادات المتخاذلة والحكومات العربية العميلة، إلا أن يقارن ما بين الحاضر والماضي، فنحن نشهد ما حدث حينها رأي العين، لكننا نوقن أن النهاية ستكون مختلفة، وعسى أن يكون هذا قريباً!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك تعليق واحد:
وكتاب صالح مسعود بويصير جهاد شعب فلسطين في 50 عاما
إرسال تعليق