الخميس، 16 يوليو 2009

إستراتيجية الإستعمار و التحرير-ج1


هذا الكتاب القيم هو أحد إبداعات المفكر الموسوعى د.جمال حمدان رحمه الله, هذا المفكر العبقرى الذى أعطى فى كتاباته أبعاداً جديدة للقارىء العربى يفهم بها العلاقات المتشابكة بين الجغرافيا و التاريخ و السياسة, و يلخص ذلك فى فقرات عبقرية موجزة مثل: (إن التاريخ هو معمل الجغرافى كما قيل,و هو كذلك مخزن الاستراتيجى الذى لا ينضب, و كل منهما يستمد منه خامته و يجرى عليها تجاربه.و بالنسبة للجغرافى بالذات, فإن التاريخ إذا كرر نفسه-و هو قد يفعل-فهذا التكرار هو الجغرافيا:أعنى أن الجغرافيا بهذا هى الجذر الجبرى للتاريخ, و عملية استقطاب له و تركيز.أكثر من هذا, ليس التاريخ كما عبر البعض إلا جغرافيا متحركة,بينما أن الجغرافيا تاريخ توقف, و هما معا أشبه شىء بقرص الطيف:إذا سكن على عجلته تعددت ألوانه فإن هو دار و تحرك استحال لوناً جديداً واحداً) و كذلك (البيئة قد تكون فى بعض الأحيان خرساء,و لكنها تنطق من خلال الإنسان.و ربما تكون الجغرافيا صماء, و لكن ما أكثر ما كان التاريخ لسانها.و لقد قيل بحق إن التاريخ ظل الإنسان على الأرض,بمثل ما أن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان).

و فى هذا الكتاب الذى كتبه مؤلفه فى عالم يموج بالصراع بين قوى الإستعمار و حركات التحرير, وضح الكاتب فى مقدمته أن الإستعمار ليس بشىء حديث نسبياً يعود الى القرن التاسع عشر أو عصر الكشوف الجغرافية, و أنه لفهم استراتيجية القوى العالمية لابد أن نوغل الى أبعد أعماق التاريخ لأنه بالدور التاريخى الكامل وحده تبرز الاستراتيجية الكامنة لأى إقليم و تتضح الشخصية الإقليمية, و من خلال هذا البعد التاريخى يمكن فهم الحاضر و من ثم التنبؤ بالمستقبل.

-----------------------------------------------------------

العصور القديمة

عرض الكاتب تاريخ الاستعمار فى شكل محاولات متكررة من جماعة بشرية للسيطرة على جماعة أخرى فى صورة هجرات و غزوات و غارات يكون الدافع الأساسى لها هو الاستحواذ على الثروات الطبيعية الموجودة لدى الجماعة المغلوبة و التى تفتقر اليها الجماعة الغالبة فى بيئتها الأصلية, و الصراع فى جوهره بين قوى بر و بر, بين الجبل و السهل, أو بين الاستبس و الغابة.

من أبرز الأمثلة هى غارات و غزوات الهكسوس و الآلان و الهون, و هى غزوات تخريبية لم تبنِ حضارة أو دولة لها قابلية للإستمرار, بقدر ما كانت بسبب طرد البيئة الصحراوبة الصعبة لساكنيها و بحثهم عن الدفء و الخضرة و الماء.

لكن مع هذا شهد العالم القديم نوعاً آخر من الاستعمار التوسعى كان أساسه الصراع بين قوى البر و البحر للفوز (بالموقع و الموضع معاً), و لعل أبرز الأمثلة إمبراطورية الإسكندر التوسعية, و التى ورثتها روما, فجمعت بين السيطرة على ثروات الأمم المغلوبة, و بين اكتساب أماكن لها أهميتها الاستراتيجية.

و هذا الصراع بين القوى-قوى البر و البحر الاستعمارية-أبرز أهمية المناطق البينية و لزوم السيطرة عليها, و كونها منطقة صراع تخضع مرة لسيطرة هذه أو تلك, و تمثل هذا أكثر ما تمثل فى منطقة الشرق الأوسط التى كانت ضحية الصراع بحكم موقعها بين الإمبراطورية الفارسية و الرومانية, الى أن تبدلت الأدوار فى العهد الوسيط.

------------------------------------------------------

العصور الوسطى

ظهرت قوة الدولة الإسلامية العربية و توسعت شرقاً و غرباً, و لكن يوضح الكاتب أن هذه الدولة أبعد ما تكون عن فكر الإستعمار بل إنها(أول فصل فى جغرافيا التحرير) فقد كانت(امبراطورية تحريرية بمعنى الكلمة حررت كل هذه المناطق من ربقة الاستعمار الفارسى أو الرومانى و لم تعرف الدولة الجديدة عنصرية أو حاجزاً لونياً).

و إن كان الكاتب قد أشار على إستحياء إلى عوامل (ميتافيزيقية) غير مادية تفسر هذا الاتساع الذى بلغته الدولة الإسلامية فى زمن وجيز و العامل الرئيس هو الإيمان, فإنه أبرز السبب المادى لتفكك الدولة مفسراً ذلك بترامي أطرافها و كثرة الحواجز الصحراوية بين الحواضر الزراعية الخصبة-العراق-الشام-مصر-الأندلس..الخ-بالإضافة لتكالب قوى البر و البحر المحيطة بهذه القوة البرية البحرية الجديدة, لكنه لم يشر للضعف الروحى بدوره كسبيل للتفكك لأن الدراسة جغرافية تاريخية سياسية فى الأساس.

فى مراحل التفكك تعرضت الدولة العربية الإسلامية لهجمات خارجية كثيرة أبرزها الاستعمار الصليبى و الهجمة المغولية, و التى كانت فى وقت شبه متزامن أوقعت الدولة بين شقى الرحى حتى كتب النصر للمسلمين و توقف كلا منهما, و إن كان الإستعمار الصليبى فصلا مبكراً من الإستعمار الأوروبى الحديث و نشوء المد القومى بها.

ورثت الدولة العثمانية الدولة العربية الإسلامية, و كان توسعها (ضفدعياً) أى أنها تقفز على منطقة لتسيطر عليها ثم تعود لتسيطر على منطقة أخرى قبلها(مثال أن سيطرتها على شرق أوروبا سبقت زمنياً فتح القسطنطينية).

بدأت الدولة العثمانية كقوة بر ثم تحولت الى قوة بر و بحر معاً, و كان للموقع أثره فى تحولها فيما بعد الى منطقة بينية كما سيتضح فى الأسطر القادمة.

---------------------------------------------------

عصر الكشوف الجغرافية

يبدأ الكاتب هنا فى عرض الاستعمار فى صورة جديدة, حيث يميز بين الاستعمار الذى ظهر مع بداية عصر الكشوف الجغرافية فى القرنين السادس عشر و السابع عشر بأنه إستعمار سكانى إستيطانى, كما نرى من إستيطان الأسبان و البرتغاليين فى الأمريكتين, و استيطان الانجليز فى امريكا الشمالية و استراليا..الخ.

أما الاستعمار فى القرن التاسع عشر فقد كان إستعماراً إستغلالياً إقتصادياً فى المقام الأول, و فى الفصول التالية سنرى أنواعاً أخرى من الإستعمار منها الإستعمار الأيدلوجى حينما تصدر قوى أيدلوجيتها الى دول أخرى لكى تسير فى ركابها مثلما دأب الإتحاد السوفييتى على تصدير شيوعيته الثورية.

كانت الضغوط التى تتعرض لها اوروبا الغربية من الشرق دافعا لها لعبور المحيط و الاستكشاف و الاستعمار, هذا إلى جانب كونها بيئة بحرية فى المقام الأول.

تنقلت مراكز القوى الإستعمارية حسب قوة الدولة, فقد بدأ مع البرتغال رغم كونها دولة صغيرة الحجم بعدما صارت فى الطليعة بإكتشافها طريق رأس الرجاء الصالح و وصولها الى الهند على يد فاسكو دا جاما الذى اعتمد على البحار العربى أحمد بن ماجد.

كان من أهداف البرتغاليين ضرب الطريق التجارى القديم الذى كان يسيطر عليه العرب المسلمون, كانت البضائع تنزل فى القلزم (السويس), ثم تحمل على الجمال الى الفرما على البحر المتوسط, و منها تنتقل الى اوروبا, و كانت مصر تحصل ضرائب نتيجة لهذا مرور مثلما يحدث فى قناة السويس حالياً,( لذا كان هذا من أسباب نشوء القتال بين المماليك و البرتغاليين).

من جهة أخرى, كان الأسبان قد فتحوا آفاقاً جديدة للإستعمار بإكتشاف الامريكتين, و انفتحت شهية أوروبا لتغزو العالم الجديد, و كان التبشير هو السمة المشتركة بين البرتغاليين و الأسبان, أما نمط الاستعمار للأسبان فهو الاستعمار الاستيطانى السكنى.

-----------------------------------------------------

الإستعمار البحرى

نشأت قوة استعمارية جديدة هى هولندا, لكنها سرعان ما بدأت تفقد مستعمراتها بنمو القوة البحرية لكل من فرنسا و إنجلترا و اللتان تنافستا بدوريهما فى تقسيم تركة من سبقوهم, هذا غير الاستيلاء على ما حازوه من أراض و مستوطنات, و كانت محاولة نابليون لتأسيس إمبراطورية فى المشرق فى مصر و الشام لكى تكون توطئة لضرب بريطانيا فى الهند, لكن الأمور حسمت للقوة البحرية فى النهاية بإنتصار إنجلترا فى الطرف الأغر.

برزت إنجلترا كقوة بحرية من الأساس, فهى جزيرة ذات أسطول قوى مكنها من الانتقال بقوتها الى أى مكان, و إستطاعت أن ترث القوى الاستعمارية الأخرى, و كانت سياستها أن تترك القوى الأخرى فى القارة تتصارع حتى تضعف جميعا فتتقدم هى لترثها, و كانت تحرص أيضاً على عدم إستئثار طرف بالقوة و السيادة فتعمل على دعم الطرف الأضعف فى مواجهة المنافس و يتضح هذا أوضح ما يتضح فى سياستها التقليدية مع منافستها الدائمة:فرنسا.

---------------------------------------------

الإستعمار البرى

كان أبرز الأمثلة التى عرضها الكاتب هو نشوء قوة روسيا البرية, لكن ما نود التركيز عليه ليس تاريخ روسيا الإستعمارى فى الأساس, و إنما التشابه فى الأساس الإستعمارى بين قوى البر و قوى البحر و كون الفرق فقط فى الطبيعة و الظروف, و إن حرصت كلتا القوتين على الإحتفاظ بمساحة فاصلة-بينية-بينهما تمثلت فى الدولة العثمانية المتداعية.

------------------------------------------

الإنقلاب الصناعى و الإستعمار

كان للثورة الصناعية و الإنقلاب الصناعى دوراً دافعاً و قوة منشطة للإستعمار و مغيرة من شكله, ليس بسبب التطور فى تقنية الأسلحة بالطبع, و لكن فى الأساس لتطور وسائل النقل و ظهور وسائل جديدة مثل القطار الذى حقق (وحدة اليابس) , و السفينة البخارية التى حققت (وحدة المحيط) ليصبح العالم القديم قارة عالمية لا عدة قارات.

من جهة أخرى-سياسياً-سهلت تلك الوسائل ضبط و ربط الدولة, فيسر ذلك نمو الدول و ترامى أطرافها بعد أن كان الإتساع و البعد عن العاصمة يسهل التمرد و الإنفصال.أما خارجياً, فتطور المواصلات سيسهل على الإمبراطوريات الظهور و الإرتباط بمستعمراتها مهما ترامت أطرافها و بعدت المسافات.

من جهة أخرى كان الإنقلاب الصناعى عاملاً حفازاً لفتح شهية الإستعمار, فالصناعة تبحث دوماً عن مصادر الخامات و أسواق تصريف السلع.

و كان النموذجين المتتاليين تاريخياً للإستعمار ما بين عصرى الكشوف الجغرافية و عصر الإنقلاب الصناعى هما إستعمار المعتدلات ثم الإستعمار المدارى على الترتيب, و ننتهز الفرصة للتمييز بين أنماط الإستعمار ذاته.

فالبنسبة لمرحلة إستعمار المعتدلات, فقد تميزت بإتجاه الأوروبيين لإستعمار عروض معتدلة تقترب فى طبيعة المناخ من مثيله فى بلادهم, و بدأ بإستعمار شرائح ساحلية فى البداية مكونة رؤوس جسور لتعميق الإستعمار, و تميز بكونه إستعماراً سياسياً لجأت فيه كل دولة لتوسعة أراضيها و نفوذها فى العالم الجديد-و القديم أيضاً-مع كونه إستعماراً إستيطانياً إبادياً تم فيه القضاء على أعداد كبيرة من أهل البلاد الأصليين-مثل الهنود الحمر فى أمريكا-و إحلال مستوطنين مستعمرين مكانهم.

و مع الإنقلاب الصناعى, ظهر الإستعمار المدارى, حيث سيطرت أوروبا فى أقل من قرن على معظم أفريقيا و آسيا و مبتلعة معظم العالم العربى أخيراً فى سباق إستعمارى غرضه توسيع المجال الحيوى و الإستراتيجى لكل دولة, و بالطبع إستنزاف ثروات الأمم المغلوبة و جعلها مصدراً للخامات و سوقا لتصريف السلع, و هو نموذج الإستعمار الإستغلالى الإقتصادى, و بهذا صارت دولة كمصر مثلاً مزرعة قطن لانكشاير بعد أن كانت سلة غلال روما.

و فى صفحات الكتاب عرض عالمنا الكبير نماذج تاريخية لتطور هذا الإستعمار فى أفريقيا و آسيا, ثم أبرز حالة إسرائيل كنموذج للإستعمار فى العصر الحديث مقارناً بين صورته و بين أنماط الإستعمار القديم, فهو إستعمار: طائفى بحت, و عنصرى مطلق, و إستعمار سكنى إستيطانى قائم على إبادة أهل البلاد الأصليين, و قد أوجز حمدان هذه النقطة بقوله: (أنها-إسرائيل-تجمع أسوأ ما فى نماذج الإستعمار السكنى, ثم تضيف إليه الأسوأ منه:هى كأستراليا و أمريكا انتظمت قدراً محققاً من إبادة الجنس, و كجنوب أفريقيا تعرف قدراً محققاً من العزل الجنسى, و لكنها تختلف عن الجميع فى أنها طردت كل السكان الأصليين خارجها ليتحولوا إلى لاجئين على حدودها, و إسرائيل بهذا كله أعلى-أم نقول أدنى-مراحل الإستعمار السكنى).

و إسرائيل تجسيم للإستعمار المتعدد الأغراض, فهى مع كل ما سبق تمثل إستعماراً إستراتيجياً و إستعماراً إقتصادياً, و هى إستعمار توسعى ذو مخططات معروفة, و هى إجمالاً إستعمار بالأصالة و الوكالة معاً:بالأصالة لأنها أقيمت لتحقيق رؤية الصهيونية العالمية, و بالوكالة لأنها أقيمت لتحقق إرادة الإستعمار الغربى و تكون له الطليعة و رأس الحربة فى بلادنا كما أوضحنا هذا فى مقال سابق لنا يحمل نفس الإسم.

و نكتفى بهذا القدر من هذا الكتاب الجميل الصعب فى عرضه و تلخيصه لأنه بحق يستحق قراءة و تشرب كل حرف منه, و بإذن الله نكمل عرض بقية الكتاب لاحقاً.

الجمعة، 19 يونيو 2009

غرناطة


مع الأيام الأولى لسقوط المدينة تبدأ أحداث رواية (ثلاثية غرناطة) للكاتبة المبدعة رضوى عاشور, حيث تنقل لنا أحداث السقوط و ما تلاها من وقائع, بدأت بوعود كاذبة من المنتصرين بعدم التعرض لحرية المغلوبين فى الدين و اللغة و أسلوب الحياة, ثم التنكر لكل الوعود و التحول لسياسة الإختيار بين التنصر أو الرحيل, و ما صاحب ذلك من إضطرار من إختار البقاء للتظاهر بتغيير ملته جهراً مع ممارسة شعائرها سراً, و التحدث بالقشتالية جهاراً و بالعربية خفية, و إرتداء الأزياء القشتالية و التسمى بأسمائهم...الخ.

تعرض الكاتبة كل هذا من خلال حياة أسرة غرناطية تتنوع الشخصيات بداخلها, و كأنها تيارات يجنح بعضها للخضوع و الإستسلام بحجة الحفاظ على الأمن و البعد عن المشاكل, فى حين ينزع بعضها إلى التمرد, و يتوق الآخر الى الحرية و العيش فى الجبال مع المجاهدين فى القرى المعزولة يقدم لهم العون, و يساعد من يسعى إلى الهجرة لديار الإسلام.

يذهب أحد أبطال القصة للعيش فى إحدى القرى الثائرة على الأسبان فى جبال البشرات, و يعود بعد غياب طويل ليقص على أهل بيته أسلوب الحياة هناك, (حيث يُسمع صوت الأذان, و حيث يتحدث الجميع بالعربية, و يحتكمون لشريعة الإسلام) يقص عليهم هذا و هم مأخوذون بحديثه و ما يصفه و كأنه قد ذهب للجنة و عاد لهم ليقص عليهم ما لا عين رأت و لا خطر على قلب بشر.

فى مشهد آخر فى القصة نجد الأسرة و قد ذهبت لحضور القداس فى الكنيسة, حيث يضطرون للذهاب بإنتظام و التظاهر بأداء الشعائر لئلا يقعون فى براثن ديوان التحقيق(محاكم التفتيش), و تفكر إحدى بطلات القصة فى أهلها الذين راحوا ضحية أحكام هذا الديوان و حكم عليهم بالموت لأنهم غسلوا والدهم و صلوا عليه و دفنوه بطريقة المسلمين, بل و قرأوا عليه القرآن!!

تنظر المرأة على يمينها بعينين مليئتين بالدموع فترى تمثال المصلوب معلقاً على الحائط, تخطو إليه و كأنها ذاهبة (لتصلى), و لا تملك إلا أن تقول((و السلام على يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا, ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذى فيه يمترون)).

فى مشهد آخر يقبض على بطلة أخرى بتهمة ممارسة السحر, و هى تهمة عقوبتها الموت حرقاً, و من خلال الإستجواب فى ديوان التحقيق يسألها المحقق ما إذا كانت تركب دابة بالليل و تطير بها إلى أماكن بعيدة, فتجيب بأنها لا تعلم عن أحد قد إستطاع أن يقوم بذلك إلا محمد نبى المسلمين(صلى الله عليه و سلم), و تقص عليهم قصة الإسراء, فينتبه المحقق إلى أن المسألة أخطر من هذا, فالمتهمة لا تزال تحتفظ فى داخلها بالحب لنبى المسلمين, فليكن جزاءها الموت تطهيراً لها!!.

ثم نرى الجدة و هى تضم حفيدها إلى صدرها, و هو يلح عليها أن تقص عليه قبل نومه قصة الإسراء, و لا يصبر على سماع ما جرى فى كل سماء فيطلب السماء السابعة ليستمع لوصف الجنة و سدرة المنتهى.

و تدمع عينى حين أرى فرحة الأهل المستضعفين كلما سمعوا عن ثورة يقوم بها بعضهم ضد الملك, و عن ثورة قامت فى البشرات كالعادة, حيث اختار الثوار(ملكاً بسطوا تحت قدميه أعلاماً مزينة بالأهلة, فولى وجهه شطر بيت الله و صلى بهم)و استعاد اسمه القديم (ليصبح هرناندو دى قرطبة إي بالور محمد بن أمية).

الرواية رواية أجيال, الجيل الرئيس فى القصة كان فى طور الطفولة يوم سقوط غرناطة, و عاش مرحلة التدجين و التنصر الإجبارى فى مطلع شبابه, و على هذا الوضع ربى الجيل الذى يليه, محاولاً أن يغرس فيه بعض ما تعلم من الآباء, و أن يبقى على الدين و على العربية فى قلوب أبنائه حتى لا يذوبوا فى التيار, فى الوقت الذى إستسلم فيه آخرون للأوضاع الجديدة فتنصروا بالفعل و تركوا الدين و تخلوا عن الهوية و اللسان, فى حين عبر آخرون البحر فراراً بدينهم إلى ديار الإسلام.

من الجميل فى القصة-بخلاف أسلوبها الرشيق-هو عرض وقائع تاريخية و وثائق مثبتة فى ثنايا القصة, مثال لذلك تلك الفتوى المبعوثة من أحد فقهاء المغرب إلى(المسلمين المستضعفين فى الأندلس القابضين على دينهم كالقابضين على الجمر), يوضح لهم فيها كيف يتصرفون و الرخص التى يجب أن يأخذوا بها حتى لا يقعوا تحت طائلة أعدائهم و يعاقبوهم على ممارستهم لشعائر الإسلام, و هذه الفتوى وثيقة تاريخية حقيقية مذكورة فى كتب التاريخ.

أيضاً تعرض القصة إستهجان المسلمين المورسكيين للقوانين(الغبية) التى صاغها القشتاليون ليمحوا هويتهم تماماً, و التهم الجاهزة التى تكفى واحدة منها للوقوع فى براثن ديوان التحقيق, مثل التحدث بالعربية, أو إمتلاك كتب عربية أو نسخ من القرآن, و ذكر النبى و الصلاة عليه(عليه أفضل الصلاة و السلام), و الإمتناع عن شرب الخمر أو أكل لحم الخنزير, و كذلك الغسل و الإستحمام خصوصاً فى يوم الجمعة!! نعم, فالتاريخ يقص علينا أن من التهم التى كانت توجه للمسلمين المورسكيين كثرة الإستحمام, يكفى هذا لكى يؤمن القشتاليون بأنك تدعى التنصر و ما زالت تمارس طقوس دينك خفية.

فى نفس الوقت الذى أقرأ فيه هذه الرواية بدأت فى قراءة رواية (المخطوط القرمزى) للروائى الأسبانى أنطونيو غالا, و هى رواية تسرد وقائع حياة أبى عبد الله الصغير آخر ملوك المسلمين فى الأندلس, و كأنها مكتوبة بيده, و يعرض الكاتب فى ثنايا سرده صورة للحياة فى الأندلس العربى حيث يتعايش العرب المسلمون مع النصارى المستعربين و القشتاليين مع اليهود, فى مجتمع لا يعرف إلا أن الجميع(أندلسيون), و هى تكملة للصورة بقلم كاتب من المعسكر الآخر, و من قراءة هذه الصور الإنسانية المكتوبة مع الرجوع لكتب التاريخ يفهم المرء سبب رفض العديد من المسلمين ترك ديارهم فى الأندلس الجميلة حتى بعد سقوك الحكم الإسلامى, ثم ترددهم فى هذا بعد التنكر للوعود, حتى لم يغادر من غادر إلا مضطراً, فراراً بدينه و أهله.

و قراءة تاريخ الأندلس ككل, يجعلنا نشعر بمدى تفرد هذا القطر من بين أقطار الإسلام, و مدى حب أهله له و إعتزازهم به, تجلى هذا فى أهازيجهم و أشعارهم و كتاباتهم, فى كلمات إبن زيدون و موشحات إبن الخطيب و إبن زمرك, و حتى المقرى لما كتب تاريخه سماه (نفح الطيب فى غصن الأندلس الرحيب).

الأندلس الجميلة التى كانت نموذجاً بشرياً حقيقياً للتعايش و الرقى و الحضارة, هى دليل على قدرتنا على إستيعاب الآخر و قبوله, و دليل على عدم قدرتهم على قبولنا و التعايش معنا رغم كل دعاوى التسامح و المحبة.

قصة الأندلس مأساة حقيقية , فهو فردوسنا المفقود الذى كلما مررت بآثار عظمة الإسلام الباقية به حتى يومنا هذا لا تملك إلا أن تبكى حسرة و حزناً على ضياع أرض, و أهل, و دين.

و كما قال أبى البقاء الرندى فى ختام مرثيته للأندلس:

من أجل هذا يغص القلب من كمد...........إن كان فى القلب إسلام و إيمان

قراءة هذه الرواية الممتعة بأسلوبها و حرفيتها, و المؤلمة لأحداثها, أعادتنى إلى فترة قراءتى لموسوعة دولة افسلام فى الأندلس لمحمد عبد الله عنان, حيث عشت المأساة بالتفصيل, صعوداً مع لحظات مجد و عز مع طارق بن زياد و عبد الرحمن الداخل و عبد الرحمن الناصر و المنصور بن أبى عامر و بن تاشفين و يعقوب المنصور, و هبوطاً مع سقوط المدائن:طليطلة و قرطبة و إشبيلية و بلنسية, و أخيراً غرناطة.

لكن ميزة الرواية التاريخية بوجه عام أنها ترتفع بك من مجرد رص الحقائق التاريخية الصماء, لكى تعايش أهل تلك الفترة معايشة حقيقية و كأنك بينهم, تفرح لأفراحهم, و تضحك معهم, و تبكى معهم, و هكذا عدت مرة أخرى لأندلسى و غصت فى غرناطة و تمشيت على ضفاف نهر حدرة و سلكت فى البيازين و تطلعت إلى الحمراء, و طفت فى القرى و الجبال و غدوت و رحت إلى بلنسية, أتطلع فى الوجوه بحثاً عن وجه عربى أسمر و عيون سود و شعر فاحم كى يأنس كل منا بالآخر فى وجه الإضطهاد, و لكى أتحدث معه بالعربية و أصلى معه و أقرأ معه القرآن و نصلى على الحبيب.

أهديت هذه القصة لشخصية عزيزة جداً على قلبى, و لنفس الشخصية أهدى هذا المقال, و أتمنى أن يكون مشجعاً لكل من يقرأه على إقتناء هذه الرواية.

الجمعة، 5 يونيو 2009

القادة



القادة هو عنوان كتاب للصحافى الشهير بوب وودوورد الذى فجر فضيحة ووتر جيت الشهيرة, و كما ورد على غلاف الكتاب أنه(صراع بين تساؤلات الجيش و نزوات السياسة فى حرب الخليج).
حرب الخليج المذكورة هنا هى حرب الخليج الثانية-غزو العراق للكويت-و لما كنت قد عاصرت هذه الحرب فى صباى, فقد تأخرت فى قراءة هذا الكتاب رغم وجوده فى مكتبتى من زمن, لكن نحتاج لأن نسترجع التاريخ القريب حتى لو عاصرناه, و خصوصاً أن من كانوا أبطال الأمس القريب هم أيضاً أبطال اليوم, و ربما المستقبل القريب أيضاً.
ففى هذا الكتاب نقرأ أسماء جورج بوش الأب(الرئيس),ديك تشينى(وزير الدفاع), كولين باول(رئيس الأركان), بول وولفويتز...الخ, و هم نفس اللاعبين-مع زملا جدد-فى حرب الخليج الثالثة (احتلال العراق).
يبدأ الكتاب بعرض الأيام الأولى من وصول بوش الأب للرئاسة, و تكوينه لإدارته الجديدة و ما يدور فى الكواليس حتى يتم الإختيار, و من ثم يستمر حتى منتصف الكتاب تقريباً فى عرض أزمة بنما التى انتهت بتدخل أمريكا عسكرياً لإسقاط الديكتاتور نورييجا و القبض عليه و محاكمته!(اليس هذا السيناريو مألوفاً؟).
يفرد الكاتب النصف الثانى من الكتاب لعرض أزمة الخليج من بدايتها, فيبدأ الكاتب بعرض الاستخبارات الأمريكية على بوش صوراً ملتقطة بالأقمار الصناعية لتحركات تقوم بها القوات العراقية تجاه حدودها الجنوبية فى 16 يونيو 1990, و على مدى الأسابيع التالية كان من الواضح أن الألوية العراقية تزداد فى الجنوب, و كان هذا مصاحباً لتوترات فى العلاقة بين العراق و جيرانه الخليجيين و بالأخص الكويت و الإمارات, و يرجع هذا لسياسات هذه الدول النفطية أثناء حرب العراق مع إيران و التى اعتبرها العراق مضرة له و أنها كبدته خسائر إقتصادية فادحة.
هذا غير الخلاف الحدودى الأصلى بين العراق و الكويت, و إيمان العراق بأن الكويت بإستغلالها بعض الحقول الحدودية قد سرقت نفطه.
فى 19 يوليو صرح تشينى فى مؤتمر صحفى إجابة على سؤال حول التهديدات العراقية للكويت حول مسألة النفط,بأن أمريكا(تأخذ على محمل الجد أى تهديد ضد المصالح الأمريكية أو أصدقائها فى المنطقة).
استدعى صدام السفيرة الأمريكية لديه, و طلبت منه(بحق الصداقة) أن يعيد النظر فى نواياه, و رد صدام أنه من خلال تدخل الرئيس المصرى حسنى مبارك وافق على محادثات مع الكويتيين.
فى حين رأى البعض أن حشد القوات العراقية كان غرضه(التهويل)و الضغط النفسى على الكويت, فقد رأى آخرون أن أحداً لم يكن ليحرك كل هذه القوات إلا و هو ينوى إستخدامها.
فى فجر الثانى من أغسطس عبرت القوات العراقية الحدود بالفعل, و تم الغزو.
كانت المشاورات داخل الإدارة الأمريكية حول رد الفعل الفورى, و بعد الشجب و الإدانة بدأ بحث سبل الرد العسكرى و كيفيته, و كان هذا هو الشاغل للإدارة طوال الفترة اللاحقة, بجوار إستراتيجية أخرى هى الحصار الإقتصادى و قطع المعونات لإجبار العراق على الإستسلام و الإنسحاب.
كان هاجس بوش-تاجر النفط السابق-أن يسيطر صدام على السعودية أيضاً فيكون بيده فى النهاية 40%من احتياطى بترول العالم, و عرض الجنرال شوارزكوف-صار لاحقاً قائد القوات الأمريكية المشاركة فى المعركة-نوعين من ردود الفعل العسكرية, الأول ضربات جوية إنطلاقاً من حاملات الطائرات يكون هدفها القوات العراقية و خطوط النفط التى يصدر منها العراق نفطه, و قرر أن هذه الهجمات لا يمكن أن تطول و لن تكبد العراق خسائر كبيرة.
أما الرد الثانى فهو خطة لحماية السعودية تستدعى نقل ما بين مائة الى مائتى ألف عسكرى , و لا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا سمحت السعودية بإنشا سلسلة من القواعد الأمريكية بها, و هى مسألة غير محتملة نظراً للتردد العربى السابق فى الأمور المماثلة.(سرعان ما تغير هذا).
نلاحظ هنا إختلاف تعاطى القادة العرب مع الأمر فى بداية الأزمة مع تعاطيهم معه فى نهايتها, ففى مكالمة هاتفية بين بوش و الملك فهد اتفقا على أن اجتياح الكويت غير مقبول, لكن بوش لم يتفق مع فهد(الشديد الحذر و متردد التأييد للغرب على حد تعبير الكاتب)لم يتفق معه على أسلوب فى التعامل مع العراق.
و فى مكالمة أخرى مع الملك حسين و الرئيس مبارك كانت وجهة نظرهما هى(منحهما مزيداً من الوقت و ترك العرب يحاولون تدبير الأمر)يعنى لا تتدخلوا.
عرض بوش على الأمير بندر بن سلطان سفير السعودية فى أمريكا صوراً جوية لحشد بعض القوات العراقية على الحدود الشرقية للمملكة, و عرض نقل القوات الأمريكية سابقة الذكر لحماية السعودية, و بلغ السفير الأمر للملك فهد الذى طلب رؤية الصور بنفسه.
أراد فهد تأكيدات عن صحة التهديد العراقى, فالكويت قد أجلت طلب المساعدة من أمريكا لأن الكويتيين ارتابوا فى أن يُستخدم التهديد العراقى كوسيلة ليطأ الجنود الأمريكيون أرضهم, و كانت نفس الريبة فى نفوس السعوديين.
وصل تشينى للسعودية ليعرض الصور, و ليوضح خطورة الموقف و (عواقبه الوخيمة)على السعوديين إذا تأخروا فى طلب المساعدة كما فعلت الكويت, و أشار للعلاقات(التاريخية)و الصداقة بين الشعبين, و أكد أنه(بعد زوال الخطر ستعود قواتنا إلى بلادها), و حينها علق الأمير عبد الله-الملك حالياً-بصوت خافت بالعربية(أتمنى أن تفعلوا ذلك).
كان تشينى فى الوقت ذاته قلقاً من أن يلجأ السعوديون الى طلب المساعدة العربية و الدولية قبل غيرها.(طبعاً السبب مفهوم).
بدأ نقل القوات الأمريكية على الفور فى نفس الشهر-أغسطس-و إنشاء مركز قيادة للقوات ترأسه الجنرال شوارزكوف.
الأشهر التالية شهدت شد و جذب بين أنصار الحل العسكرى و انصار الحل الدبلوماسى و إنتظار ما نتائج الحصار الإقتصادى و العقوبات,مع سيل من النداءات الى صدام بالإنسحاب, كان عدداً كبيراً منها من مبارك.
فى 29 نوفمبر توصل الأمريكيون الى انتزاع قرار من مجلس الأمن بإستخدام(كافة الوسائل الضرورية)ضد العراق فى حال لم ينسحب من الكويت قبل 15 يناير1991.
فى جلسة مع قواده قال بوش((...هذه ليست فيتنام,و لن تطول هذه المسألة, فمبارك يقول:نحن دربنا الطيارون العراقيون,فهم عديمو الفائدة)).
و علت الضحكات داخل الغرفة.
فشلت المفاوضات بين بيكر وزير الخارجية و بين طارق عزيز وزير خارجية العراق, و بدا أنه لا سبيل لأى حل دبلوماسى.
فى 16 يناير بدأت الحرب و التى استمرت ل42 يوماً, انتهت بإعلان العراق استسلامه و إنسحابه من الكويت, بعد أن دمر ما دمر, و حرق ما حرق من حقول النفط.
الى هنا انتهى الكتاب, و لنا تعقيبات غير ملاحظاتنا وسط السطور السابقة.
أولاً:التاريخ حلقات متصلة, و حاضر اليوم تاريخ الغد, و كما قلنا فى بداية المقال أن أبطال الأمس القريب هم أيضاً ابطال اليوم, لذا رأينا كيف أن نفس الفريق هو الذى قاد بضراوة الحملة العسكرية التى احتلت و ما زالت تحتل العراق الى يومنا هذا.
ثانياً:بوب وودوورد رغم أنه كاتب معروف بنزاهته, إلا أن هذا لا يعنى أن نأخذ كل كلامه بشكل مسلم به, فهو يعرض الموقف و كأن التحرك العراقى كان مفاجئاً للجميع بما فيهم بوش و إدارته, و حتى لو لم نسلم بنظرية المؤامرة و بأن الأمريكيون أعطوا الضوء الأخضر لصدام عميلهم الأول فى المنطقة, فعلى الأقل أى عاقل لابد أن يؤمن أن أمريكا استغلت الفرصة-و استغلتها بكل مهارة-لتضع قدمها-و تثبتها-فى المنطقة,و أن تحركها من الأساس لحماية مصالحها و السيطرة بشكل نهائى على منابع النفط, و لم يكن من أجل سواد عيون العرب بالطبع.
ثالثاً:كان العرب فى البداية-كما بدا من التصريحات و ردود الأفعال-يودون أن تحل المشكلة فيما بينهم, لكن فى النهاية فتحوا الباب لأمريكا, فى الأيام الأخيرة قبل الحرب بدا و كأن التساؤلات الموجهة من العرب لأمريكا ليست:هل ستضربون صدام أم لا؟ و إنما التساؤل:متى ستضربونه؟
رابعاً:أشرنا الى تخوف تشينى من ان يبادر السعوديون الى طلب المساعدة العربية و الدولية قبل غيرها, و السبب مفهوم, أن الفرصة سانحة لكى تضع أمريكا-و أمريكا وحدها-قدمها فى المنطقة بقوتها العسكرية و ليست الاقتصادية فقط, و لعلنا نذكر أنه إثر أزمة البترول التى نشأت فى عام 73 حينما قطع العرب بترولهم عن الدول المؤيدة لإسرائيل, كان هناك اقتراح داخل الادارة الأمريكية بإحتلال منابع البترول فى الخليج.
خامسا:مبارك الذى كان يسعى فى البداية لحل المشكلة داخلياً و كرر نداءاته لصدام بالإنسحاب, هو مبارك الذى طمأن بوش فيما بعد من قدرات الطيارين العراقيين و عدم كفاءتهم و أنه يعرف هذا(لأننا دربناهم), و هو الذى خرج علينا فى حرب العراق 2003 ليقول أنه مندهش لأن الأمريكيون أخبروه أنهم سينهون الأمر سريعاً, فى حين أنه قد طال!!
سادساً:أمريكا منذ دخلت لم تخرج, و اتخذت صدام كفزاعة تخيف بها العرب ليظلوا تحت حمايتها, لكن ها هو صدام لم يسقط فحسب, بل أعدم, فهل خرجوا؟و لم يخرجوا و لم تنضب بعد آخر قطيرة بترول من أرض العرب؟!.
سابعاً:فى كتاب أسرار حرب الخليج لتوم ماثيوز, ذكر أن أحد استراتيجيى بوش قد قال: (كنا عازمين على إنهاء هذه الحرب عندما نريد نحن, و لا بيوم واحد ابكر)
كان الأمريكيون متخوفون من نجاح الوساطات السوفيتية فى إقناع صدام بالإنسحاب, و كانوا مصرين على تدمير قوة صدام تماماً قبل أن يوقفوا إطلاق النار.
سابعاً:ظلت سياسة إدارة بوش فيما تبقى له, ثم إدارة كلينتون طوال فترتيه قائمة على حصار العراق و إماتته موتاً بطيئاً, مع ضربات محدودة من وقت لآخر-تذكروا قصف ملجأ العامرية فى بغداد فى عام 98 فى عهد كلينتون الديمقراطى الطيب كأوباما.
ثامناً:جاء بوش و فى رأسه من البداية قطف الثمرة بعد أن نضجت و استوت, و إحتل بلداً أنهكه الحصار و تدمرت قوته العسكرية, و أكمل الخطة المرسومة, و حينما يظن أحد أن الخطة ستتغير بتغير الشخص فهو واهم, فهذا لا يحدث إلا فى البلاد المتخلفة كبلادنا حيث يرتبط النظام بالشخص, و يكون الفرد الأوحد الملهم الذى يقود الدولة هو الذى يرسم كل السياسات و يمحو كل ما فعله سابقه و يبدأ من الصفر, فمن مرتم فى أحضان الإنجليز إلى مرتم فى أحضان السوفييت يليه مرتم فى أحضان الأمريكان, أما الدول الكبرى ذات المؤسسات فتعمل قياداتها على رسم السياسة بما يحقق مصالح الأمة الدائمة, و قدد تتغير الوجوه و الأساليب فقط, لكن المصالح ثابتة.
تاسعاً:بالأمس زارنا أوباما بوجه مبتسم و لسان عذب, و بما أن اليوم ذكرى النكسة, فإن تعاطى المخدوعين به هو نكسة أيضاً, على الأقل نكسة فكرية, لأننا كأننا ننسى أن من يخاطبنا هو رأس الدولة التى تعتبر أكبر أعدائنا, و الداعم الرئيس للكيان الصهيونى, و نفس اللسان العذب الذى سمعناه بالأمس هو الذى قال:أن إرتباط أمريكا بإسرائيل مسألة لا نقاش بها!!
لن نقول أن التاريخ يعيد نفسه, فهو لا يفعل هذا إلا فى حالة واحدة فقط, مع المغفلين الذين لا يقرأون تاريخهم-ناهيك عن تاريخ غيرهم-و لا يتعلمون من دروس الماضى, و صدق المتنبى حين قال:إذا رأيت نيوب الليث بارزةً.....فلا تظنن أن الليث يبتسمُ
و حسبنا الله و نعم الوكيل, حسبنا الله و ليس أوباما أو غيره.
 

الأحد، 26 أبريل 2009

الاستشهاد

قد يكون من الغريب أن أسارع الى كتابة هذه الخاطرة و أنا أستمع لمقطوعة موسيقية وردت فى نهاية فيلم (الطريق الى ايلات).
أستمع إليها و أمام عينى تمر مشاهد أذكرها, صور الضباط المشاركين فى العملية, ثم تأتى الموسيقى فى لحظة شديدة الشجن تتزامن مع عرض صورة الشهيد الوحيد فى العملية(رقيب محمد فوزى البرقوقى).
عند هذه اللحظة أشعر بقشعريرة و أن شعر جسدى يقف!!
هذه اللحظة تذكرنى بمرة أخرى, فيلم(عمالقة البحار), الذى تدور احداثه فى فترة العدوان الثلاثى, و بطولة ضباط البحرية المصرية و صمودهم فى وجه المعتدين, و فى مشهد يظهر طاقم السفينة و قد استشهد كله, و على وجوههم امارات الطمأنينة و الهدوء, و أذكر أن الدموع وقتها قد طفرت من عينى.
مشهد آخر, كنت و صديق نتذاكر البطولات التى حدثت فى حرب أكتوبر, ذكر لى أنه قد حضر محاضرة ألقاها محارب قديم كان ضابطاً شارك فى الحرب, كان يتحدث عن النقاط الحصينة التى أقامها اليهود, و مدى صعوبة دكها و تدميرها و السيطرة عليها, فكان الاستيلاء عليها عن طريق الأفراد هو الوسيلة المتبعة, و كان الجندى يتحرك من تلقاء نفسه بدون تلقى أى أوامر, فيلقى نفسه فوق المدفع الرشاش البارز من النقطة الحصينة ليكون جسده درعاً , و ليحمى زملاءه و يفسح لهم الطريق للعبور و السيطرة.
أتخيل هذا المشهد فأقول لصديقى كفى, و عيناى تدمعان.
أتذكر لقاءً تليفزيونياً مع الشيخ حافظ محمد قائد المقاومة المسلحة فى السويس أيام حرب رمضان, يتكلم الرجل العجوز عن البطولات التى قام بها أهل البلد فى القتال مع اليهود, و كيف اضطروا الى دفن بعض الشهداء فى اماكنهم فى الشوارع, و تنتهى الحرب و تمر الأيام و تحفر الشوارع ليجدوا أجساد الشهداء كما هى بدمائها الساخنة, و ابتسامة الرضا على وجوههم, الأجساد الطيبة فى الأرض الطيبة التى تأبى أن تأكل أجساد الشهداء.
أستمر فى التذكر و فى الكتابة جنباً الى جنب, يمر أمام عينى شريط من مشاهد رأيتها فى أفلام سينمائية, أو وثائقية, أو لقطات حية من الأخبار, أتذكر شهداء سقطوا فى ميادين القتال فى سيناء و مرج عيون و كابل و الفلوجة و غزة, و أبرياء استشهدوا فى مذابح جماعية كما حدث فى سربرينتشا و جروزنى و جنين, أتذكر شهداء أحد الذين بكى عليهم الرسول صلى الله عليه و سلم, و شهداء مؤتة, و شهداء القادسية و اليرموك و الزلاقة و حطين و عين جالوت, أتذكر شهداء التل الكبير الذين راحوا ضحية الخيانة, و شهداء هزيمة يونيو الذين راحوا ضحية ال......
أتذكر شهداء الدعوة و الجهاد على مر العصور, أتذكر أن كل هؤلاء قد حملوا أرواحهم على أكفهم و بذلوا أنفسهم لكى نعيش نحن, و لكى تصلنا دعوة الله, و لكى تصبح كلمة الذين كفروا السفلى و كلمة الله هى العليا.
أتذكر أن أى شهيد هو فى الأصل مقاتل أو مقاوم أو مجاهد, و هذه هى الخطوة السابقة لكى تصل لهذه المنزلة, أو قل, لكى تصل لهذه الغاية, نعم هى الغاية طالما كنا ننتمى لأمة تبغى إحدى الحسنيين:نصر أو شهادة.
أتذكر سيدنا خبيب بن عدى و هو معلق فوق الصليب بين مشركى مكة و يقول لهم:
و لست أبالى حين أُقتلُ مسلماً.........على أى جنبٍ كان فى الله مصرعى
و ذلك فى ذات الإلهِ و إن يشأ.........يبارك فى أوصالِ شلوٍ مُمزعِ
أتذكر أحاديث مختلفة لرسولنا الكريم: من جهز غازياً فقد غزا, و من خلف غازيا فى أهله بخير فقد غزا.
من طلب الشهادة بصدق, بلغه الله منازل الشهداء و لو مات على فراشه.
أتذكر دعاء سيدنا عمر:اللهم أرزقنى شهادةً فى سبيلك, و اجعل موتى فى حرم رسولك.
أتذكر كل هذا و أكثر, و أردت أن تتذكروه معى.

الاثنين، 20 أبريل 2009

رأس الحربة



عندما كان المرء يعجب فى صغره لرؤية إسرائيل و هى تعربد فى الدنيا, و تفعل كل ما تفعله بدون حساب, و بتأييد مطلق من العالم الغربى و على رأسه أمريكا, فإن التفسير الذى كنا نجده ممن هم أكبر منا, أن هذا راجع لأن اليهود متحكمون بشكل كبير فى إقتصاديات الدول الكبرى, و أنهم لهذا يشكلون التوجه و القرار السياسى لهذه الدول.

هذا التبرير يوحى أن ساسة هذه الدول كأنهم مغلوبون على أمورهم, و كأنهم واقعون طوال الوقت لضغوط و إبتزازات من إسرائيل و من كل لوبى صهيونى فى الغرب, و فى المقدمة اللوبى الصهيونى الأمريكى, لكن ما نود أن نوضحه فى هذا المقال أن هذا التبرير قاصر إلى حد كبير.

فوجود إسرائيل من البداية هو ثمرة للتحالف غير المقدس بين اليهود و قوى الإستعمار الغربى, تحالف بين صهاينة من أديان مختلفة, نعم من أديان مختلفة, فالصهيونية كفكر ليست حكراً على اليهود, بل إنها كفكرة تنادى بعودة اليهود إلى فلسطين قد ظهرت بين مسيحيين قبل أن يتبناها من تبناها من اليهود أنفسهم.

كان من الممكن أن أضع علامة تعجب فى نهاية الفقرة السابقة يا قارئى العزيز, لكن الأمر كله ليس فيه ما يدعو للعجب, إن أى تحالفات غير مقدسة مثل هذه قائمة فى الأساس على مبدأ المصلحة, و كما قال تشرشل:لا توجد صداقات دائمة أو عداوات دائمة, توجد فقط مصالح دائمة.

الصهيونية المسيحية حينما نشأت و نادت بعودة اليهود (لوطنهم القومى) فى فلسطين, فإن هذا كله لغرض وحيد, هو تحقيق نبؤات الكتاب المقدس, و التعجيل بقيام حرب نهاية العالم(هرمجدون) تمهيداً لعودة المسيح و حكمه الألفى السعيد(يؤمن هؤلاء بأنه لابد لعودة المسيح أن يتجمع جميع اليهود فى أرض فلسطين, ثم تقوم حرب شاملة بين قوى الخير و الشر, و يعتنق من تبقى من اليهود المسيحية و تنتصر قوى الخير-النصارى-و يعود المسيح ليحكم العالم ألف سنة ينعم فيها العالم بالسلام التام).

أما الصهاينة اليهود, و جلهم من العلمانيين و غير المتدينين, بل و الملاحدة, فنظرتهم للمسألة اليهودية نظرة قومية عنصرية بحتة, و الصهيونية مشروع قومى إستعمارى إستيطانى من الدرجة الأولى, و عندما تعلم أن هرتزل كان لديه خيارات متعددة بخلاف فلسطين لكى تقوم الدولة العبرية عليها-شرق أفريقيا(كينيا و أوغندا), الأرجنيتين, مدغشقر, سيناء!-عندها ستدرك هذه الحقيقة, و ما كان إختيار فلسطين إلا لكى تكتسب الصهيونية بعدا روحيا يجتذب معه قلوب اليهود المؤمنين المتدينين, و يكون حافزاً لهم لترك أوطانهم و الهجرة, أو قل إن شئت(العودة لوطنهم الأصلى).

و لكى يتحقق هذا كان لابد من التحالف غير المقدس مع الإستعمار الغربى, و كان لابد من إقناع القوى الغربية بأن مصلحتها فى الشرق تكتمل بوجود جيب إستيطانى دائم لها فى المنطقة, يفصل بين الدول العربية, و يقطع الطريق على أى إتصال أو وحدة, و يكون مركزاً للفكر و النمط الغربى (المتقدم) فى الشرق(المتخلف), و يكون حتى منفذاً لتصريف البضائع الغربية-بما فيها البضاعة الفكرية-يعنى بإختصار, رأس الحربة للإستعمار الغربى.

طرق الصهاينة أبواب عدة دول فى رحلتهم هذه, فى أوج قوة العسكرية البروسية الألمانية فكروا فى ألمانيا, كما فكروا فى فرنسا(كان لنابليون سبق فى هذا المضمار عندما نادى يهود العالم أثناء حملته على الشرق بالعودة الى فلسطين!), و كانت إنجلترا هى الورقة الرابحة و التى تلاقت مصلحتها مع مصالح اليهود على طول الخط فكان وعد بلفور الشهير, و عندما غربت الشمس عن الإمبراطورية البريطانية إرتموا فى أحضان الوريثة الشرعية لقوى الإستعمار:الولايات المتحدة الأمريكية.

و كما كان تحالف هذه القوة الإستعمارية الصغيرة مع الإستعمار بكافة أشكاله, لم يجد الصهاينة من اليهود حرجاً من التعاون مع عدد من المعروفين بمعاداتهم الشديدة للسامية-قد تندهش عندما تعلم أن بلفور نفسه كان معادياً للسامية-و كان التعاون بين الصهاينة و النازيين تعاوناً مشهوداً, و كل هذا لتحقيق مصلحة مشتركة للطرفين, فللجانب الصهيونى:العمل على تهجير اليهود من أوروبا إلى فلسطين, و بالنسبة للإستعمار الغربى:التخلص من عبء وجود اليهود فى المجتمعات الأوروبية(بسبب النظرة العنصرية القومية, أو عدم قدرة اليهود على الإندماج, أو عدم الإقتناع بكون اليهود عنصراً صالحاً فى المجتمع الأوروبى من الأساس) و نعود مرة أخرى لنضيف أهم نقطتين اللتان نعتبرهما ملخصاً لهذا التحالف غير المقدس: الرؤية الصهيونية المسيحية لليهود التى توجب مساعدة اليهود على (العودة) لفلسطين, و من ثم إقامة دولة لهم و العمل على دعمها على طول الخط, و السبب الثانى, هو أن تصبح رأس الحربة لقوى الإستعمار, تطعن بها بلادنا فى القلب.

لذا فالدعم غير المشروط الذى تقدمه أمريكا مثلاً لإسرائيل ليس ضعفاً من أمريكا بطبيعة الحال, فإن وجود إسرائيل كدولة طفيلية مزروعة فى المنطقة مرتبط حتى الآن بشكل كبير بالهبات الرسمية و الغير رسمية التى تصلها من الغرب, من الحكومة الأمريكية فى شكل معونات الأسلحة و المعونات المادية, و من يهود الشتات و المسيحيين الصهيونيين الذين يقدمون دعماً ماليا ضخماً لضمان بقاء دولة إسرائيل.

لكن فى لحظات معينة حينما تتصرف إسرائيل تصرفاً ضد مصلحة أمريكا, فإن أمريكا تضرب على يدها على الفور, نذكر مثلين أحدهما قديم من الخمسينيات من القرن الماضى, حينما شاركت إسرائيل فى العدوان الثلاثى على مصر, و كان لتهديد الرئيس الأمريكى أيزنهاور و ضغطه على إسرائيل أثره فى التعجيل بإنسحابها, صحيح أن بن جوريون وقتها وعد الشعب الإسرائيل أن ما حدث-من ضغط أمريكى على إسرائيل-لن يتكرر, لكن هذا الوعد أكبر من بن جوريون ذاته.

المثل الثانى قريب, حيث أبدت أمريكا إعتراضاً كبيراً على قيام إسرائيل ببيع عدد من طائرات الإستطلاع المبكر بتكنولوجيا حديثة طورتها إسرائيل إلى الصين, و حينها لم تجد إسرائيل مفراً من إلغاء الصفقة حتى لا تغضب راعيتها و أمها أمريكا.

قد ينخدع البعض لرؤية كم التزلف لليهود الذى يبديه المترشحون للرئاسة الأمريكية, و حقيقى أن اللوبى اليهودى يمثل قوة ضغط داخلية كبيرة, لكن من جانب آخر, فإن لعبة السياسة و الإنتخابات و ما تتطلبه من حتمية إجتذاب كل الأصوات و رؤوس الأموال المؤثرة القادرة على دعم العملية الإنتخابية, كل هذا يوضح سبب هذا التزلف و النفاق, لكن أى دعم غير مشروط لإسرائيل بعد هذا هو قائم بصورة أساسية على دعم مصالح أمريكا و الغرب الإستعمارى فى بلادنا.

إن الحذاء الإسرائيلى لا يدوس على رقبة أمريكا, بل إن العكس هو الصحيح, و الطريق لسقوط تل أبيب يمر بسقوط واشنطن, لا تظنوا أن أمريكا ستتنفس الصعداء إذا سقطت إسرائيل, أو إختفى كل اليهود, إنهم حتى لم يعودوا يكتفون بوجود هذا الجيب الإستيطانى, و لا بإستعمارهم الإقتصادى و الثقافى لنا, فعادوا مرة أخرى للإستعمار بشكله الكلاسيكى كما هو حادث فى العراق.

إن تغيير السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط سيكون أحد العوامل الأساسية فى تفكيك إسرائيل, فإسرائيل بكل ما تبدو عليه من تقدم و تطور و إكتفاء لا تستطيع الصمود وحدها بدون دعم قوى الإستعمار, و أعود و أكرر كلمة الإستعمار و لن أمل من تكرارها , فالبعض يظن أن الإستعمار مصطلح كلاسيكى قديم قد ولى زمنه منذ ستينيات القرن الماضى, لكن الصحيح أن هذا المفهوم موجود منذ بداية التاريخ, و سيستمر و لكنه يتخذ صوراً و أشكالاً مختلفة حسب الزمان و المكان و تغير الظرف السياسى.

و نحن لن نربط مصيرنا برغبتنا فى أن يتعطف علينا الإله الأمريكى و ينظر لنا بعين العطف و يغير سياسته نحونا, فالخيار الأول و الأساسى هو الإستمرار فى المقاومة بكل أشكالها, و على رأسها المقاومة المسلحة, تسير معها أسلحة المقاطعة و دعم المقاومين مادياً و أدبياً و معنوياً, و نشر فكر المقاومة و روح الجهاد و إحياء العزائم و رفع الهمم.

القضاء على مخططات الإستعمار التخريبية فى بلادنا هو السلاح الثانى فى معركتنا, و أبرز مظاهر التخريب هو تخريب الجيل و القضاء على الشباب:فكرياً, و حتى جسدياً, و هو ما علينا أن نقاومه-كل حسب قدرته فى المحيط الذى يتحرك به-بتصحيح المفاهيم و رفع الغشاوات عن العيون, و أن ننتقل من مقاعد التنظير إلى العمل الفعلى.

و مخاطبة الرأى العام الغربى و إستمرار التواصل معه, مع الأحرار من الشعوب الأخرى, لكى تكون الصورة واضحة أمامهم, لكى يعلموا أن مصالح بلادهم ليست فى إستمرار الإستعمار, هذا التواصل مهم, فمع تزايد عدد المؤمنين بوجهة نظرنا تتولد قوة ضغط داخلية أخرى فى الغرب, قد لا تكون حتى الآن لها نفس تأثير القوى المعادية, لكن على المدى البعيد, ستنقلب الموازين, لأن العالم يتغير, و هذه من سنن التاريخ التى تعودنا عليها.

و قد يرى كثيرون أن هذه أوهام و أضغاث أحلام, لكن التاريخ علمنا أن دوام الحال من المحال, فهناك قوى تولد و قوى أخرى تغرب عنها الشمس, و هناك آخرون همل لا يؤثرون فى أى شىء, و لكن قد يصبحوا مؤثرين بدورهم فى فترة لاحقة-كحال العرب قبل و بعد الإسلام-المهم أن نتحرك و نعمل كى نكون بدورنا من المؤثرين لا من الهمل و الأتباع.

و لسوف يأتى اليوم الذى تنكسر فيه رأس الحربة بأيادينا, و ربما يكون هذا مقروناً بإنكسار الحربة ذاتها.


الجمعة، 13 مارس 2009

محمد


المشهد الأول:
قدم رسول الله المدينة فلما دخلها جاء الانصار برجالها ونسائها فقالوا الينا يا رسول الله فقال دعوا الناقة فإنها مأمورة فبركت على باب أبي أيوب فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار فخرج اليهم رسول الله فقال أتحبونني فقالوا أي والله يا رسول الله فقال وإنا والله أحبكم وانا والله أحبكم وأنا والله أحبكم .
عندما أتذكر هذا المشهد لا يسعنى إلا أن ابتسم و أنا أشعر بمدى حنو سيدنا رسول الله على أطفال المسلمين, و على حبهم الفطرى له, و على حبه الكبير لنا.
لو كنت طفلاً على عهد النبى, بالطبع كنت سأنال من هذا الحب, لكن حسبى أننى كمسلم أحتل مساحة فى قلب رسول الله, و أصابتنى دعوته من قبل أن أولد, حتى و لو لم يرنى.
المشهد الثانى:
أُتى النبي الكريم صَلى الله عليه وسلم بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: "أتأذن لي أن أعطي هؤلاء". فقال الغلام: لا ، والله لا أؤثر بنصيبي منك أحدًا. فتلَّه ( أي وضعه ) رسول الله صَلى الله عليه وسلم في يده.
ما الذى دعا الغلام لفعل هذا؟ هل هى أنانية و قلة ذوق؟ بالطبع لا, إنه الحب.
و أنظر لرسول الله الذى إستأذن الغلام و إحترمه و لم ينهره, و أنظر لبلاغة الغلام و كيف عبر عن حبه لشخص النبى.
و كم تأثرت عندما اتصل بى شخص عزيز على ليدعونى على الغداء عنده, اعتذرت بلطف بأنى قد أكون مرتبطاً بموعد آخر, فكان رده:أنت وعدتنى أن تأتى عدة مرات, فإعتذر عن موعدك الاخر, فإنى لن أؤثر بنصيبى منك أحدا!!
المشهد الثالث:
بكي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله الصحابة: ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال: ( اشتقت إلي إخواني ) قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال : ( لا أنتم أصحابي، أما إخواني فقوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ).
نحن قد أتينا بعدك يا رسول الله, وُلدنا مسلمين لآباء مسلمين, فصرنا مسلمين بالوراثة و لكن يعلم الله أنه كلما عرفناك أكثر, أحببناك أكثر, و لقد آمنا بك و لم نرك, فهل نستحق مع كل ما نحن فيه أن نكون أخوانك؟
ربما قد أكون مفرطاً و غير جاد فى حبى, لكن كلامك هذا يعطينى الأمل.
لأنك تحبنا يا رسول الله.
المشهد الرابع:
كانت أمنا عائشة أم المؤمنين تسأل رسول الله:يا رسول الله كيف حبك لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم : مثل العقدة في الحبل ٌ فكانت رضي الله عنها تسأله كيف حال العقدة؟ فيجيب هي على حالها.
ما أعظمك يا رسول الله !أهكذا كنت تحب زوجك؟
نعم, فكونك قائداً لأمة لا يتناقض مع كونك زوجاً عطوفاً, و رؤوفاً, و رقيقاً, و محباً لزوجك.
يعلم الله أنى هكذا سأحب امرأتى, فقط سأحتاج أن أكون محمداً, و أن تكون هى عائشة.
المشهد الخامس:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عريفي عنقه السيف وهو يقول( لم تراعوا لم تراعوا)
هذا رسول الله الذى وقف يوم حنين و قد تفرق الناس من حوله ليقول بأعلى صوت:(أنا النبى لا كذب, أنا إبن عبد المطلب), بأبى أنت و أمى يا رسول الله, ما أشجعك, و ما أقواك, إنى بمجرد قراءتى لهذه القصة أشعر بالأمان.
المشهد السادس:
عندما أسر المشركون سيدنا زيد بن الدثنة بعد وقعة الرجيع, سأله أبو سفيان قبل أن يقتلوه: " أنشدك الله يا زيد ، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك تضرب عنقه، وأنك في أهلك، قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي، فقال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ".
المشهد السابع:
و فى صلح الحديبية, وفد عروة بن مسعود من قريش ليتفاوض مع رسول الله, وجعل يُكلِّم النبي- صلى الله عليه وسلم- ويرمق أصحابه، فوالله ما انتخم النبي- صلى الله عليه وسلم- نخامةً إلا وقعت في كفِّ رجلٍ منهم.. فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمر ابتدروا أمره، وإذا توضَّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلَّم خفضوا أصواتهم، وما يحدِّون إليه النظرَ تعظيمًا له.
فرجع عروة إلى أصحابه فقال:" أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت ملكًا يُعظِّمه أصحابه كما يُعظِّم أصحاب محمدٍ محمدًا، والله ما انتخم نخامةً إلا وقعت في كفِّ رجل منهم فدلك بها وجهه و جلده.
إن الحب الذى نكنه لرسول الله صلى الله عليه و سلم حب غريب, لن أقول إننا جميعاً نحبه بصدق, فإن المحب لمن يحب مطيع, و لذا فإن محبة الكثير منا له ليست جادة, لكن فى قرارة نفس كل مسلم و لو كان عاصياً, حب رسول الله راسخ.
يكفى أن تقص على أى إنسان سوى بعض المشاهد من حياة رسول الله, فلا يملك إلا أن يعجب به, و يعظمه, و يبجله, و ..و يحبه.
حب رسول الله راسخ فى قلوب جميع المسلمين, الحب الذى يوحدهم, به وحد الله العرب بعد أن كانوا قبائل متفرقة, إختاره الله لكى يوصل لنا الرسالة و يعلمنا الإسلام, إختاره الله و إصطفاه لكى ينقلنا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
حب رسول الله المصطفى المختار عامل مشترك بين كل المسلمين على إختلاف ألوانهم و ألسنتهم, إن أنس لا أنس هذا العجوز الماليزى الذى كان يطوف بجوارى حول الكعبة, كنت أدعو ثم بدأت أصلى على رسول الله بصوت مرتفع:صلى الله على محمد, صلى الله عليه و سلم, فإذا به يدير رأسه إلى و هو يبتسم و يردد معى:صلى الله على محمد, صلى الله عليه و سلم.
لا أكتب هذا الكلام بترتيب معين, و لا أريد أن اردد أن حبنا الحقيقى لرسول الله يجب أن يتمثل فى التمسك بسنته و التطبيق العملى لها, فليس منا من لا يعلم هذا فى قرارة نفسه, لكن هذه الأسطر دفقة حب لصاحب الرسالة, و محاولة لإنعاش الحب و إيقاظه فى قلب غافل لاه, ليس حب رسول الله فقط, و لكن الحب بشكل عام, نتعلمه من محمد الرسول, و القائد, و الأب, و الزوج, و الإنسان.
إن حياة رسول الله مليئة بالمشاهد التى نتعلم منها, و التى ترقق قلوبنا و تبث فيها الأمل, و الرحمة, و الإصرار, و الأمل, و الحب.
كلما قسى قلبك, افتح كتاب الله, و اقتبس من نور النبى, اقرأ قليلا فى سيرته لتنتقل إلى عالم آخر, ثم إعمد إلى إيقاظ من حولك, ذكرهم بالقول و بالكتابة, و لا تجعل هذا مقتصراً على يوم الثانى عشر من ربيع الأول من كل عام, فالحب لا يمكن إختزاله فى يوم واحد, الحب الحقيقى يعيش و يدوم.
الحب ليس كلاماً فقط, ربما يكون الكلام أسهل وسيلة للتعبير عنه, لكنه ليس كلاماً فقط.
أحبك يا رسول الله, و حتى لو لم أكن صادقاً فى هذا الحب بتقصيرى, فإنى أعلم أنك تحبنى.
اللهم صل على محمد, و على آله و صحبه أجمعين.
صلى الله على محمد
صلى الله عليه و سلم.

الجمعة، 6 مارس 2009

ثقافة التصنيف

أعود بعد إنقطاع طويل لأتكلم من جديد عن ثقافة أخرى,هى برايى إحدى الثقافات التى نحتاج أن نتخلص منها,ألا و هى:ثقافة التصنيف.
و لعلكم تتساءلون عن كون التصنيف شيئاً نحتاج أن نتجنبه, و لست أتكلم هنا عن المبدأ بشكل عام, فقد اتفقنا من قبل أن تعميم الأحكام هو من أكبر الأخطاء, لكن ربما توضح الأمثلة المعنى الذى أبغى الوصول اليه.
فمن أمثلة التصنيف المذموم الذى هو موضوع هذا المقال, هو ما يقوم به عدد من الشباب الملتزم, و خصوصاً الأخوة المنتمين للتيار السلفى, من تصنيف كل من يقابلهم حسب الانتماء السياسى, و المذهبى, و العقائدى, و الدينى.
و كأن دراسة العقيدة قد صارت وسيلة فقط لكى يمشى الإنسان فى الشارع و يصنف كل من يقابله,فهذا أزهرى اشعرى, و هذا ماتريدى, و هذا صوفى نفر منه فرار السليم من الأجربِ!!
أما هذا الفتى الذى يتكلم معى عن ضرورة المشاركة السياسية و العمل الدعوى جنباً غلى جنب, فهو من الإخوان, فدعك منه و مما يقول.
و هذا الذى يحثنى على المشاركة فى المظاهرات و الإعتصامات و إستخراج بطاقة إنتخابية فهو ثورجى من حركة كفاية, تلك الحركة التى تضم خليطاً من الإخوان و اليساريين و المستقلين و الناصريين, فدعك منهم أجمعين!!
و أنت يا صديقى اليسارى الذى يفتخر بعلمانيته و فكره المستنير فى مواجهة الظلاميين الرجعيين, إنك بمجرد أن ترى أمامك شخصاً ملتحياً فإنك تصنفه كيمينى متأخر, و ترى أنه بأفكاره المتخلفة لا يساير الزمن, و لا يواكب التطور, و أنه ليس له القدرة على فهم الأمور و رؤيتها كما تراها, طالما أن هذه اللحية تحيط بوجهه, أو أن هذه الطرحة تغطى رأسها.
هل وصل المعنى الذى أتكلم عنه؟
إننى عندما أتحدث مع إنسان ما, و أعرف إتجاهه الفكرى, و مذهبه الدينى أو السياسى, و من ثم اضعه تحت تصنيف معين, و يكون نتيجة هذا التصنيف أن أرفضه كليةً و اضرب بآرائه كلها عرض الحائط, فهذا خطأ فادح, و ظلمٌ بين.
هذا الخطأ هو إمتداد لثقافة أخرى تكلمنا عنها من قبل, و هى ثقافة الإختزال, فقولبة البشر فى قوالب جامدة, و إختزالهم فى صور يرفضها العقل هو قصور فى الرؤية و ظلم فى الحكم, و هو التطرف فى حد ذاته سواء كان من يعتنق هذا الفكر يمينياً أو يسارياً, و الحقيقة أن كل الأفكار و الثقافات الخاطئة ترتبط ببعضها البعض بسلسلة بشعة, كما أن الفكر السليم و الثقافات النيرة ترتبط ببعضها بحبل متين.
قد أختلف معك فى نواحٍ عدة, لكن هل هذا يعنى أن كل ما يخرج منى هو خطأ بالتبعية, هذا إذا بلغ بك الغرور حدً يجعلك تظن أنك قد احتكرت الحقيقة لنفسك أنت و كل من يرى رايك؟
يا من تضع لمن أمامك تصنيفاً, و ثم بناءً على هذا التصنيف تحدد موقفك منه, من أنت لتحكم على البشر من مجرد مقابلة, و من أنت لتحكم على بطلان تفكير غيرك بالكامل لأنه يختلف عنك فى الرأى, أو المذهب, أو الإنتماء السياسى, أو حتى الدين؟

قد يكون 99% مما اقوله خطأ, لكن لا يوجد إنسان كل ما يصدر منه شر أو خطأ, كما أنه لا يوجد بالتبعية إنسان كل ما يصدر منه خير أو صواب, لسنا إما ملائكة أو شياطين, و لسنا بيضاً أو سوداً, فبين هذين اللونين مساحات متسعة و درجات متنوعة من اللون الرمادى.
إذا كان تصنيفك لى دافعاً لك لكى تضعنى فى إطار ترفض به كل ما يصدر منى, فليسامحك الله, و ليهدنى و إياك.
كل شىء فى الدنيا يندرج تحت تصنيف معين, طالما أن هذا الشىء كائن و موجود و محدد, و الإنسان الذى لا نستطيع أن نصنفه هو إما إنسان غامض لدرجة لا تستطيع معها تحديد توجهه, أو إنسان متميع ليس له مبدأ أو هدف محدد.
من أجل هذا ضع لى أى تصنيف تشاء, قل عنى أنى إسلامى أو علمانى, قل عنى أنى سلفى أو إخوانى أو صوفى, قل عنى أنى يسارى أو يمينى, لكن عندما تضع لى هذا التصنيف, لا تضع على علامة(إكس) و ترفض بالتبعية كل ما يصدر منى.
نصيحة لكل من يمتلك قلماً يضع به علامة صح او خطأ على غيره, أنظر لنفسك أولاً, و عندها ستعلم أنه ليس هناك من خير خالص أو شر مطلق, و قد تمتلك الحق فى أن تصنف نفسك, أو أن تظن أن غيرك يندرج تحت تصنيف معين, لكنك لا تمتلك ابدأ الحق أن تنفى عنه صفة الإيمان, أو العقل, أو الفكر لمجرد أنه يعتنق رأياً, أو مذهباً, أو ديناً لا يتماشى و ما تراه حضرتك.

الأحد، 25 يناير 2009

الصبر



يُحكى أن رجلاً أتى عنترة و سأله:كيف تهزم أعدائك؟
قال عنترة:بالصبر
قال له الرجل:بل تهزمهم بالقوة
فرد عنترة :بل بالصبر, و إذا أردت أن تتحدانى فى القوة, فضع إصبعك فى فمى و سأضغط عليه بضرسى, و إفعل معى المثل حتى نرى من الأقوى.
وضع كل منهم إصبعه تحت ضرس الآخر و بدأ كلاهما فى الضغط إلى أن رأى عنترة علامات الألم على وجه الرجل ثم خرجت منه آهه فتح فيها فمه فأخرج عنترة إصبعه ثم زاد من الضغط على إصبع الرجل حتى قطعه.
قال للرجل:لقد كنت أتألم أكثر منك, لكن ما جعلنى أنتصر هو أنى صبرت لحظة أطول منك.
فقال له الرجل:و لم قطعت إصبعى؟
فأجاب عنترة:حتى لا تنسى هذا الدرس.
ألأ
أحاول أن أكتب عن أحد المعانى المهمة التى أفتقدها-و أزعم أن الكثير مثلى يفتقدها-ألا و هو الصبر.
لكن ما معنى الصبر؟
هل الصبر هو مجرد قوة التحمل و الوقوف بصلابة فى وجه أى موقف صعب ؟
أم أن الصبر هو الجلوس و الإستكانة و عدم إتخاذ أى خطوة إنتظاراً لأن تمر العاصفة بسلام؟
إن الموقف الأول موقف قاصر, و الموقف الثانى هو السلبية فى حد ذاتها.
فقوة التحمل و الجلد تحتاج إلى ركن ركين كى تستحق أن يطلق عليها صبرا
هذا الركن الركين هو اليقين بالله, و حسن الظن به, و التوكل عليه حق توكله.
الإيمان بأنه القوى و نحن الضعفاء بين يديه, و أنه الغنى و نحن الفقراء إليه.
هذه هى القوة الحقيقية, فنحن لسنا اقوياء فى حد ذاتنا, و لكننا فى حال قوتنا نستمد القوة من اللجوء إلى ملك الملوك القوى المتين, من الله جل جلاله و عظم سلطانه.
و فى الوقت ذاته, فإن مصمصة الشفاه, و الجلوس بلا حراك, و إنتظار أن تتغير الأمور من تلقاء نفسها ليس صبراً على الإطلاق, و الذى يقنع نفسه بهذا هو إنسان ضعيف و سلبى و واهم, هو إنسان لا يعى الفارق بين التوكل و التواكل.
و القاعدة الإلهية تقول ((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم))
إذا وقعت فى مشكلة أو أصابك بلاء, ففكر فى الأسباب التى أدت بك لهذا و حاول أن تغيرها ما استطعت.
إذا كان سببه تقصير منك, فإجبر تقصيرك, و ادع الله أن يعينك على هذا.
و إن كان سببه معصية تقوم بها, فكف عنها, و تب الى الله و استغفره و ادع الله أن يعينك على ألا تعود.
و إن كان سببه ظروف خارجة عن إرادتك, ففكر فى كيفية حل مشكلتك بالإمكانيات المتاحة, و ادع الله أن يفرج عنك.
فى كل أحوالك الزم الدعاء, الزم الركن الركين و الحصن المتين, فليس لك من أمرك شىء أيها العبد الضعيف, بل ((الأمر كله لله))
و فى أحلك الظروف تذكر قول الإمام الشافعى:
و لرب ضائقة يضيق بها الفتى .........ذرعاً,و عند الله منها المخرجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ..........فُرِجَت و كنت أظنها لا تُفرَجُ
نعم يا عزيزى, دوام الحال من المحال, فقط خذ بالأسباب حتى يتغير حالك, و فى خلال ذلك, الزم الصبر ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)), و اصحب ذلك بالدعاء((و إذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى و ليؤمنوا بى لعلهم يرشدون)), و التقوى ((و من يتق الله يجعل له مخرجاً و يرزقه من حيث لا يحتسب)), و الإستغفار((فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا,يرسل السماء عليكم مدرارا, و يمددكم بأموال و بنين و يجعل لكم جناتٍ و يجعل لكم أنهاراً)).
الصبر مرتبط بالأمل و التفاؤل, و متناسب عكسياً مع اليأس و القنوط((إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون))
الصبر ليس صبرا إن كنت متعجلا(و لكنكم قوم تعجلون)
و ليس صبرا إن كنت عاصيا, فلا يعقل أن تنتظر العون من الله و أنت معرض عنه.
الصبر هو الثبات, سواء أمام المصيبة, أو أمام العدو.
الصبر هو الطاعة.
الصبر هو اليقين.
الصبر هو الخضوع.
الصبر هو التوكل.
الصبر هو الأمل فى الله.
الصبر هو حسن الظن بالله.
هل نستغرب بعد هذا حينما نسمع أن(الصبر نصف الإيمان)؟
إذا ألمت بك مصيبة فإياك ثم إياك أن تقول : لم يا رب؟إنى لم افعل ما يستوجب هذا البلاء, فإن هذا كله من وساوس الشيطان, فأمر المؤمن كله خير, إن أصابته سراء شكر, و إن أصابته ضراء صبر. فالصبر هو مقياس إيمانك الحقيقى يا أخى.
إن إيمانك الحقيقى بالله يجب أن يترجم ترجمة حقيقية فى مثل هذه المواقف, لأن الإبتلاء فى اللغة معناه الإختبار, فإذا كنت فى إبتلاء, فلربما كان هذا إختبارٌ من الله لقوة إيمانك, و تعاطيك مع الأمور فى هذه الحالة هو السبيل لنجاحك فى الإختبار, و لكى تنجح فلابد من أن ترضى بقضاء الله, و تصبر و تحتسب, و ما يدريك لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.و تذكر أن المؤمن مبتلى.
و قد تحدث لك أشياء غير مفهومة, و تجد أن ما ترغب فيه لم يتحقق لك, فعندها تذكر أن لربك فى كل شىء حكمة, و أننا بعقولنا القاصرة لا ندرك هذه الحكمة, و أنت لا تعلم الخير و الأنسب لك, فلربما ليس مقدراً لك ما تتمناه على الإطلاق, و لربما كان مقدراً لك و لكن بعد حين, فإصبر و توكل على الله و ابذل جهدك و داوم على الاستخارة و الله يقدر لك ما فيه الخير.((و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم و الله يعلم و أنتم لا تعلمون))
و عندما تجد نفسك فى موقف صعب و تظن أنه ليس فى الكون من يعانى ما تعانيه, فتذكر نعم الله الكثيرة عليك, و تذكر أنك ما زلت افضل حالاً من الكثير من الناس, فاحمد الله على كل حال, و قل (اللهم أجرنى فى مصيبتى و اخلفنى خيراً منها)و اسأل الله أن يثبتك و يلهمك الصبر و السلوان.
اصبر إذا واجهت مشكلة, و إذا قابلت عدواً, و إذا فارقت حبيباً
اصبر و احتسب و توكل, و اعمل و اجتهد و لا تتواكل
اصبر و قلبك عامر بالإيمان بالله, و لا تركن إلى السلبية و توهم نفسك بأنك صابر.
الشعب الذى يصبر على الظلم و العسف و لا ينتفض لنيل حقوقه ليس شعباً صابراً, و لكنه شعب سلبى.
و الشعب الذى يقاوم رغم ضعف إمكاناته, و يسعى لكى ينال حقوقه, هو شعب صابر أبى.
و لنقرأ سوياً بعض ما ورد فى الصبر من الذكر الحكيم و السنة المطهرة:
((و بشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله و إنا اليه راجعون))
((إن الله مع الصابرين))
((يأيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون))
(صبراً آل ياسر, فإن موعدكم الجنة)
(إنما الصبر عند المصيبة الأولى)
((فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون))
((و العصر .إن الإنسان لفى خسر.إلا الذين آمنوا و عملوا الصاالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر))
أعتقد أنى لو أكملت هذا المقال بسرد بقية الآيات و الأحاديث التى ورد فيها لفظ الصبر, و تكلمت عن فضله, لكان هذا أبلغ البيان.
و سورة العصر قد قال عنها الإمام الشافعى: لو لم ينزل من القرآن إلا هذه السورة لكفت, لأنه أدرك هذا المعنى الهام, فكلنا فى خُسر إلا المؤمنين الذين يعملون الصالحات, و يتواصون بالحق و الخير و الفلاح, و كذلك يتواصون بالصبر فيثبت بعضهم بعضا, و يشد بعضهم أزر بعض, و هو ما نحتاج أن نفعله دوماً يا أخوتى.
هذا المقال تذكرة لى قبل أن يكون تذكرة لأى قارىء كريم, و هو كذلك تذكرة لشخص عزيز على جداً شاء القدر أن يمر معى بنفس الظروف التى نحتاج فيها لإلتماس الصبر أكثر من أى شىء.
و إنى أسأل الله أن يجزى كل أخ دعا لى و هون على و شد من أزرى و ثبتنى بكلمة أو بدعوة أو بتذكرة, فجزاكم الله خيراً أجمعين.
و الذى أطلبه من كل من تصله كلماتى أن يدعو لى بظهر الغيب أن يقضى الله حاجتى و يفرج كربتى و أن يجعلنى و إياكم من الصابرين.اللهم آمين.
يا رب
يا رب
يا رب.