الثلاثاء، 10 يونيو 2025

الطريق إلى النكسة: مذكرات قادة العسكرية المصرية 1967

 


في هذا الكتاب، يعرض د. محمد الجوادي شهادات القادة العسكريين المشاركين في هزيمة 67، وبعضها نُشر في كتب، وبعضها نُشر في مقالات.

بدأ بمذكرات اللواء عبد الحميد الدغيدي قائد سلاح الطيران والدفاع الجوي في جبهة قناة السويس وسيناء، وهو أحد الذين حوكموا بعد الهزيمة، وقد حوكم مرتين وبرأته المحكمة من كل ما نُسب إليه في كل مرة. واعتبر أن محاكمته كانت لجعله كبش فداء، وأن القوات الجوية كلها ظُلمت في الحرب، وصدر منها ومن الدفاع الجوي بطولات لم ينتبه إليها أحد. وفيما اطلعت عليه من شهادات تخص الهزيمة، فإن شهادة الدغيدي على قدرٍ عالٍ من الأهمية فيما تحتويه من تفاصيلٍ عسكرية، ولكنها في الوقت ذاته محملة بقدرٍ كبير من الغضب والمرارة، وكيل الاتهامات للككثيرين، لدرجة أنه اتهم أجهزة الدولة بأنها وراء الكتاب الذي نشره العدو بعنوان (وتحطمت الطائرات عند الفجر)! وكذلك اتهم الاتحاد السوفييتي بالتضليل والتواطؤ مع العدو.

في شهادته تجد الحرقة والغضب الشديد مما وُصمت به القوات الجوية، ويؤكد على أن المسئولين عن الهزيمة هم خمسة: عبد الناصر وعامر، ومحمد فوزي وصلاح محسن ومحمد صادق، ويشير لما أسماه جهل محمد صادق وخطأه في معلومة المدى الذي تستطيعه طائرات الميراج والذي بنيت على أساسه خطط الدفاع الجوي، وكذلك عدم تقديم معلومات عن قنبلة الممرات التي استخدمها العدو لتدمير المطارات، وأنه بالرغم من تقصيره هو ومحسن وفوزي، فقد استبقاهم عبد الناصر، وأطاح ببقية القادة، ومنهم الدغيدي الذي حذر عبد الناصر من التورط في حربٍ بلا استعداد. كما ذكر الدغيدي في ضوء استنكاره لمدى التخبط في القرارات، أنه بينما كانت لدى القوات البرية خطة دفاعية، كان للقوات الجوية خطة هجومية! ويتحسر على إلغاء الضربة الجوية الاستباقية في 27 مايو.

من المعلومات والمفاهيم العسكرية الجديدة علي هنا هو مفهوم المظلة الجوية، ويؤكد اللواء الدغيدي أن المظلات الجوية ظلت مستمرة كل نصف ساعة فوق بحيرة البردويل، ويصب جام غضبه على الضابط المسؤول الذي ألغى – لأسباب غير مفهومة – المظلة ما بين الساعة الثامنة والنصف والتاسعة من صباح 5 يونيو، وهو توقيت هجوم العدو، ويكاد يتهم الضابط بالخيانة، كما يكيل لفوزي الاتهامات لإغلاقه مركز القيادة العام صباح يوم الهجوم، وتعجب من تغيير الشفرة للرسائل المرسلة من الفريق عبد المنعم راض بمحطة عجلون والتي حذرت من الهجوم، وعدم انتباه أحد للرسالة التي أرسلها قائد مخابرات العريش برصده لتحركات مدرعات العدو ليلة 5 يونيو والتي تنبيء بهجوم وشيك، وكذلك عدم إخطار القوات البرية ببدء الهجوم البري في أم بسيس فجر يوم 5 يونيو، وكذلك غياب كافة القادة عن مراكز قيادتهم لتوجههم لاستقبال المشير بمطار بير تمادا – باستثناء الدغيدي الذي بقى في موقعه – وكلها عوامل ربما لو تغيرت لاختلف مجرى التاريخ!

الشهادة التالية كانت شهادة الفريق مرتجي في كتابه (الرفيق مرتجي يروي الحقائق)، والتي كتبت عنه مراجعة مستقلة على مدونتي هنا

والشهادة تحوي تفاصيل كثيرة، ولن نذكر من بقية الشهادات إلا ما لم نجده في هذه الشهادة.

بعد ذلك تأتي شهادة الفريق أنور القاضي رئيس هيئة العمليات، ويتحسر في بداية شهادته عن إلغاء الضربة الجوية الاستباقية المقررة في فجر 27 مايو 1967، وأن قرار الإلغاء كان بعد مقابلة عاجلة جرت بين عبد الناصر والسفير السوفييتي، وهو ما يدل على أن خططنا كانت مكشوفة للسوفييت وأنهم تسببوا في حرماننا من فرصة كان يمكن أن تقينا الكثير بعد ذلك.

ويشير إلى التضارب بين عبد الناصر وعامر، وبين القيادات العسكرية بعضها البعض، ويتحدث عن وجود قيادة عليا مكونة من المشير وومحمد فوزي وشمس بدران، وقيادة عامة تضم رئيس العمليات وقادة القوات والأسلحة، وصدرت قرارات متضاربة من القيادة العليا سببت ارتباكاً في القيادة العامة، بل ويذكر أن أوامر بدء تحرك القوات صدرت يوم 15 مايو مباشرةً من القيادة العليا دون علم القيادة العامة!، ثم يتحدث عن مسألة الحشود الإسرائيلية على حدود سوريا لينفرد بأن المعلومة أتت لناصر من مصدرين: سوفييتي وبلغاري، وأن السوريين لم يكن لديهم معلومة أصلاً! وأن التهديدات الإسرائيلية لسوريا كانت عادة سنوية تتم عند الاحتفاق بقيام دولة العدو، وأنه لولا المعلومات التي وردت من السوفييت، لم تكن القيادة المصرية لتأخذها بجدية.

كما يتحدث عن الخطة الدفاعية الأصلية المعدة للدفاع عن سيناء وأنها كانت قاصرة ولا تشمل رفح وشرم الشيخ، وأن قواتنا – مع وجود ثلثي الجيش في اليمن - كانت عاجزة حتى عن تنفيذ هذه الخطة، بله الانتقال إلى الهجوم، وأنه عند آخر مراجعة للخطة عام 1966، وفي ضوء نقص القوات والمعدات والتجهيزات وتخفيض الميزانية، حذرت هيئة العمليات في تقرير رسمي من الاندفاع إلى مواجهة عسكرية مع العدو، ولو حتى بعمليات تعرضية صغيرة، وفي مناقشة مع الفريق فوزي قال الفريق أنه (مفيش حرب مع إسرائيل، لأن حالتنا الاقتصادية لا تسمح بذلك)، ورغم عرض التقرير على القيادات العليا، اندفعنا وحدث ما حدث!

ولأن الفريق القاضي كان في مرحلةٍ ما مسئولاً عن حملة اليمن، فيذكر أنه في أكثر من مناسبة كان يحث القيادتين السياسية والعسكرية على ضرورة الانسحاب من اليمن قبل التورط أكثر وأكثر في هذا الفخ، لكن دون جدوى.

وعندما ينتقل لسرد تفاصيل الحرب، ينكر معلومة الهجوم البري الذي سبق الضربة الجوية، ثم يتحدث عن ثبات القوات المصرية في مواقعها رغم عدم وجود غطاء جوي، ويذكر أنه في الساعة الحادية عشر والنصف من صباح يوم 6 يونيو أصدر عامر أمراً بالصمود في وجه العدو في خط الدفاع الثاني، ثم تغير الموقف وصدر قرار الانسحاب الأول الساعة الخامسة مساءً، وأن الانسحاب يكون إلى غرب القناة خلال ليلتين، وأنه جرت مناقشات مع المشير بأنه لا داع للانسحاب وأن الوضع العسكري لقواتنا ليس سيئاً إلى هذا الحد، ويذكر القاضي أن رد عامر هو أنه (قرار سياسي) يعني أنه صادر من عبد الناصر، وهذه الرواية تختلف بشكلٍ كبير عن رواية الفريق فوزي في شهادته.

ومن جملة العبث أن قائد الجيش في سيناء الفريق صلاح محسن استأذن عامر في قطع الاتصال بينه وبين القيادة لكي يتفرغ لتنفيذ الانسحاب، وأذن له عامر في ذلك! وبذلك أصبحت القيادة عمياء عن تحركات القوات في سيناء، ونتذكر هنا أن الفريق مرتجي قائد الجبهة لم يُخطر أصلاً بقرار الانسحاب في حينه.

في الحادية عشرة والنصف من مساء 7 يونيو - ثالث أيام الحرب – صدر قرار آخر بإلغاء الانسحاب الأول وإيقاف عبور القوات من الشرق إلى الغرب، وإعادة وحدات الفرقة الرابعة المدرعة إلى مواقعها في خط الدفاع في الممرات، وقد قرأنا في المصادر الأخرى الكارثة التي حدثت لهذه الفرقة.

أما اليوم الرابع فكان بمثابة الانهيار الشامل، فالاتصال مع الجبهة مقطوع، والأوامر متضاربة، والقوات تتعرض لمذبحة حقيقية، فأجمعت الآراء على الانسحاب، وصدر قرار الانسحاب الثاني، واكتملت الكارثة.

بعد ذك تأتي شهادة الفريق صلاح الدين الحديدي في كتابه (شاهد على حرب 67)، وقد قرأت الكتاب منذ فترة طويلة وأجده ضمن أفضل ما كُتب عن الهزيمة لأن كاتبه وإن كان رجلاً عسكرياً برتبة عالية، إلا أنه لم يكن في منصب يجعله مشغولاً بتبرئة نفسه، بقدر ما هو معني بعرض الأوضاع بموضوعية، أضف إلى ذلك توليه مسئولية المحاكمة العسكرية لقادة الهزيمة، مما جعله يطلع على العديد من التفاصيل، وإن كان انتقى منها – فقط للأسف - ما يرى أنه يصلح للنشر!

يحلل الحديدي وضع القوات المسلحة في سنوات ما قبل الحرب، ويرى أنها حبست نفسها في خانة رد الفعل، تتصرف طبقاً لتصرفات العدو وليس طبقاً لما تمليه عليها مطالب تأمين أراضيها، إلى درجة منع إجراء أي استطلاع جوي أو أرضي للمناطق التي يسيطر عليها العدو تجنباً لإثارته وأي أعمال انتقامية منه، والاكتفاء بالمعلومات غير الدقيقة – وأحياناً غير الصحيحية – من البدو الرحل!

أما الأوضاع الداخلية العامة للجيش فقد عرضها وانتقدها وانتقد الشللية وترقي أصحاب المصالح، وتحدث بالنقد عن عامر وشمس بدران ومحمد فوزي بما يوضح عدم صلاحية كل منهم لمنصبه، وانتقد تشكيل ما سُمي بالقيادة العامة للقوات البرية في إطار الصراع على النفوذ والذي أدى في النهاية لتضارب القرارات. والقسم الأكبر من الكتاب يعرض مسببات الهزيمة الداخلية للأسباب سابقة الذكر، بالإضافة إلى حرب اليمن، وتخفيض الميزانية، وانخفاض مستوى التدريب، وسوء توزيع الضباط، واعتبار الولاء قبل الكفاءة.

وفي فصلٍ آخر نجد شهادة أخرى للحديدي عن حرب اليمن، ومن ضمن ما أشار إليه موقف عدد من الطيارين السعوديين والأردنيين الذين لجأوا بطائراتهم إلى مصر تأثراً بالمد القومي الناصري، ومعارضةً لمواقف بلادهم المعارضة له، وكذلك موقف الملك سعود.

والفصل ليس به معلومات جديدة على المطلع على ملف حرب اليمن، والتي تثير مشاعر الأسى لكونها أحد أسباب قسوة الهزيمة في 67، وأيضاً لما خسرته مصر من مبالغ طائلة ما بين مصاريف الحملة من نقل للأفراد والمعدات ومرتبات إضافية وتكاليف لإنشاء المطارات والبنية التحتية ومؤسسات حكومية ومدارس ومستشفيات، بالإضافة إلى المبالغ التي كانت تُصرف لشيوخ القبائل، أضف إلى ذلك قيمة ما لا يقل عن نصف الأسلحة والمعدات والسيارات والمخازن وخلافه، والتي رؤي أن نقلها لمصر سيتكلف مبالغ باهظة، فُتركت هدية للحكومة اليمنية، ويحكي أنه أثناء انسحاب القوات المصرية تعرضت لمظاهرات صاخبة وتعدي وقُتل ما يزيد على مائة جندي مصري.

وينتهي الكتاب بفصل طويل يعرض فيه شهادة الفريق أول محمد فوزي في كتابه (حرب الثلاث سنوات)، والذي كتبت عنه كذلك مراجعة مستقلة على مدونتي هنا


ليست هناك تعليقات: