كُتب هذا الكتاب عن الحرب بأسلوب صحافي، وما ورد به من معلومات عن الحرب نفسها لن يمثل جديداً للمطلع على الكتب الأخرى التي تناولت الحرب وفي مقدمتها مذكرات القادة العسكريين، لكن يأتي تفرد الكتاب فيما حواه من شهادات نقلها الكاتب بطريقته الصحفية من حواراته مع عدد من الجنود والضباط بل وكبار القادة، أنقل على سبيل المثال منها هذا الحوار المضحك المبكي مع أحد الجنود عقب الهزيمة، يقول وجيه ابو ذكري:
" سأروى هنا قصة طريفة مضحكة حتى البكاء، لقد التفيت بأحد
الجنود الذين تمكنوا من عبور قناة السويس فور قرار الانسحاب ، وكان يرتدى الحذاء
العسكرى، ثم البنطلون العسكرى، وفوق كل هذا جلباب، وعلى الجلباب الجاكت العسكرى،
ولا يحمل معه سلاح ... وعندما شاهد دهشتی .. قال :
-
لقد جئت
بالجلباب من باب الاحتياط، حتى اذا صدر قرار الانسحاب - كما حدث عام ١٩٥٦ - خلعت
ملابسي العسكرية وارتديت ملابسي المدنية حتى يتركنى الاسرائيليون أرحل الى قريتي.
·
والسلاح، هل
تركته ؟
-
لم أتسلم سلاحاً.
·
أين كنت ؟
-
- لا أدرى ..
·
ماذا كان يجب أن تفعل ؟
-
- لا أدرى ..
·
- وماهى
التعليمات التي أصدرها لك قائدك ؟
-
لا شي.
·
ألم تطالبوا بالسلاح؟
-
القائد نفسه
لم يكن معه سلاح .. القائد نفسه كان كل ما يشغله تدبير الغذاء لنا والماء لنا ،
وكان يضحك معنا ، ويقول أنه لو دخل بنا معركة ضد أرانب الصحراء ، فسوف تنتصر علينا
الأرانب"!
كما نقل أبو ذكري كشاهد عيان مأساة القوات المنسحبة عندما توجه
للإسماعيلية، وكان شاهداً على تضافر الأهالي وتسابقهم للتبرع بالدم وتضميد الجراح،
وحكى عن سماعهم لخطاب التنحي، وإتاحة الوزير المواصلات بالمجان لمن يريد الذهاب للقاهرة
لإبداء الدعم لعبد الناصر، مع عدم السماح للعسكريين بالمغادرة. ونقل رسالة مؤثرة
لجندي شارك في حرب اليمن، ثم كان ضمن من حُشدوا إلى سيناء، وعاش مأساة الانسحاب
وقتل العدو قائده وزملائه أمامه، واستطاع الهرب وعبور القناة، ثم واصل الهرب إلى
ليبيا لسماعه شائعة بأن المنسحبين سيحاكمون عسكرياً، ووجد ما لا يقل عن 100 جندي
مثله، آواهم الملك السنوسي وأجارهم وأعطاهم هويات مؤقتة وسمح لهم بالعمل في ليبيا.
ومن ضمن فصول الكتاب فصل مخصص عن هيكل، وبغض النظر عن أنه يبدو فيه نوع من
تصفية الحسابات، إلا أنه يوضح ليس فقط دور هيكل في تخدير الشعب المصري والشعوب
العربية بتسويق الوهم الناصري قبل الحرب، بل إن مقالاته التي كان يقرأها الجنود
والضباط على الجبهة كانت تؤكد أن مصر لن تبدأ بالقتال وبالتالي ظنوا أنه لن تقوم
الحرب، وكان ذلك دافعاً لمزيدٍ من الاسترخاء، بل إن البعض توجهوا لمدينة غزة
للشراء من السوق الحرة! وكلنا نعلم أن هيكل هو من نحت مصطلح (النكسة) ليكون أقل
وطأة من (الهزيمة)، وهو غيره من أقطاب الحكم الناصري كانوا يقللون من فجاجة
الهزيمة، وبحد وصف عبد المجيد شديد أحد الأقطاب الناصريين، أن العدو قد استولى فقط
على تلالٍ من الرمال، وهو ما يدل ليس فقط على نظرة قاصرة لسيناء، بل وعلى أولوية
التطبيل للحاكم والحرص على بقاء النظام على حساب الحفاظ على الأرض، وهو ما يذكرنا
بتصريحات مشابهة في سوريا عقب الهزيمة.
قص الكاتب بعض البطولات الفردية التي حدثت خلال الهزيمة وبعدها بقليل، منها
قصة بطل التبة في العريش، ومعركة الطيران فوق القناة وقصف الطيران المصري لقوات
العدو في يوليو 67، ثم معركة رأس العش وإغراق المدمرة إيلات.
ومن القادة الذين حاورهم أبو ذكري الفريق الجمسي، والفريق أنور القاضي رئيس
هيئة العمليات، وكان قد قابله قبل الهزيمة بسنوات أثناء حرب اليمن، وسأله عن
السيناريو الذي يراه إن حصلت مواجهة من العدو أثنار تورط بقية الجيش في اليمن، فرد
بأنها ستكون كارثة، والفريق كمال حسن علي الذي كان قائد لواء مدرع ضمن الفرقة
الرابعة المدرعة وتحدث عن كواليس الانسحاب بالمعدات سليمة ثم العودة لسيناء مرة
أخرى والتي دُمرت على إثرها مدرعات الفرقة، ويذكر على لسان كمال حسن علي قصة
مفادها أنه عقب حرب 1956، توجه أحد أقطاب المعارضة الإسرائيلية باستجواب في
الكنيست لموشي ديان، ومن ضمن أسئلته: متى يكتمل التفوق الجوي لإسرائيل بما يسمح
لها ألا تعتمد على أحد ويكون لها ذراع طويلة، ورد ديان بأن الأمر يحتاج إلى عشر
سنوات، وقد استغرق الأمر من العدو عشر سنوات بالفعل من التدريب والإعداد والتجهيز
حتى وقعت الواقعة.
نقل كذلك شهادة للفريق مرتجي لا تزيد في إطارها العام عما أورده في كتابه،
باستثناء بعض الأمور الشخصية في انتقاد عبد الناصر وعامر والفريق فوزي، ومع ذلك،
فإن كل القادة السابقين لهم شهاداتهم المنشورة سواء في كتب أو مقالات، لكن ينفرد
الكتاب بإيراد شهادة للواء صدقي الغول قائد الفرقة الرابعة المدرعة التي تعرضت
للمذبحة الشهيرة حينما صدر لها قرار الانسحاب ثم العودة مرة أخرى في ظل السيادة
الجوية للعدو، ويبدو من الشهادة مقدار الظلم والغبن الذي تعرض له هذا الرجل، كما
يتضح أن أمر الانسحاب وصله من قائد الجيش الفريق صلاح محسن رأساً، وعند الوصول للإسماعيلية وجد صلاح محسن الذي طلب منه العودة بالفرقة مرة
أخرى، وتبدو من الحوارات بينهما أن هم صلاح محسن الأول هو تنفيذ الأوامر الصادرة
له فقط مهما كانت غير عقلانية أو ستؤدي لتدمير القوات، وتنتهي الحرب ويُحاكم الغول
ويشهد صلاح محسن ضده في المحكمة ويدعي خلاف الحقيقة أنه انسحب من تلقاء نفسه وأنه
أصدر له أمراً بالبقاء في موقعه ولم ينفذه، ورغم أن الشهادات في المحكمة تضافرت
لتأييد موقفه وتبرئته، إلا أن صدر ضده حكم بالمؤبد خفف بعد ذلك إلى 5 سنوات، ويشير
الغول إلى تعمد فوزي التشهير به في الصحف حتى قبل صدور الحكم، وكذلك سوء معاملته
في مستشفى السجن، وهي مواقف تلقي أضواء أخرى مكملة لشخصية فوزي الراغب في تثبيت
مكانه في السلطة على أجساد من اعتبرهم موالين للمشير.وينقل أبو ذكري بعد ذلك شهادة
اللواء عمر هزاع أحد ضباط الفرقة الرابعة المدرعة، وهي تذهب إلى نظرية المؤامرة
المتكررة في عددٍ من شهادات الضباط، أن الغرض من الأمر بعودة الفرقة إلى سيناء هو
تخوف عبد الناصر من أن تُستخدم الفرقة في الانقلاب عليه، وهو أمرٌ أراه شديد
المبالغة.
ثم ينتقل إلى حوار مع اللواء طيار إسماعيل لبيب، وقد تناوله اللواء الدغيدي
بالنقد في مذكراته واعتبره ممن ظلمه، وهنا يُظهره أبو ذكري في صورة المظلوم، وبغض
النظر، فإنه يشير هنا لواقعة أشير إليها في بعض الكتب ولا نجد لها دليلاً، وهي أن
عبد الناصر في اجتماعه مع الطيارين في أبو صوير أعلن أنه لن تحدث حرب، وأن ما يحدث
هو مظاهرة عسكرية لا أكثر، وأن هذا الاجتماع كان مسجلاً وجمع سامي شرف بتعليمات من
عبد الناصر نسخ التسجيلات خشية تسرب ما به للشارع المصري، وأن عبد الناصر قال
لسامي شرف: لو الناس سمعته حيشنقونا في الشوارع، وأن مصدر المعلومة هو سامي شرف
نفسه عندما قابله في السجن، وحسب ما أذكر أن سامي شرف نفى هذه المعلومة لاحقاً،
لكنه ليس بالثقة الثبت حتى نصدقه على أية حال. وفي المقابل، حوكم لبيب بدعوى أنه
لم يبلغ الوحدات بمعلومات الرئيس في 2 يونيو بالضربة الجوية الوشيكة للعدو، علماً
بأنه لم تصدر تعليمات أصلاً لا من المشير ولا رئيس الأركان، ورئيس الأركان نفسه هو
الذي أمر بتقييد الدفاع الجوي أثناء طيران المشير يوم 5 يونيو، كما أغلق قبل الحرب
غرفة عمليات القوات الجوية على حد قول لبيب!
وكانت آخر شهادة عرضها هي شهادة اللواء أحمد حلمي من قوات الصاعقة عن دوره
هو وجلال هريدي، وعن قرار إرسالهم إلى الجبهة الأردنية قبل الحرب بيومين للاستعداد
لعمل غارات على قواعد ومطارات العدو انطلاقاً من الضفة الغربية، ويذكر أنه لو
توفرت لديهم معلومات كافية عن الأماكن لاستطاعوا عمل خسائر مؤثرة في العدو داخل
الأرض المحتلة، لكن صدرت لهم الأوامر كذلك بالرجوع إلى مصر، ثم قُبض عليهم بتهمة
الولاء للمشير، ويثني أحمد حلمي كذلك على أداء الجيش الأردني وعلى قتاله في حدود
إمكانياته، وعلى تنفيذه الانسحاب طبقاً للأصول العسكرية بدون فوضى، بخلاف ما حدث
على الجبهة المصرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق