الأربعاء، 11 يونيو 2025

ساعة عدل واحدة: الكتاب الأسود عن أحوال المستشفيات المصرية


سجل عددٌ من الأجانب مذكراتهم عن الفترات التي عاشوها في مصر، وعملوا بها، وكانت هذه المذكرات فرصة لتسجيل صورة مصر والمصريين في الحقبة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، وذلك بعيونٍ أجنبية عنا، تنظر لنا أحياناً بمنظورٍ منصف، وفي أحيانٍ أخرى بمنظورٍ استعماري.

ينضم هذا الكتاب إلى هذه القائمة من المذكرات، ويعرض تجربة كاتبه د. سيسيل ألبورت في التدريس بجامعة فؤاد الأول والعمل بالمستشفيات المصرية ما بين 1937 حتى 1943، وهو في هذا الكتاب يندد بشكل أساسي من الظلم والقهر والعبودية التي يعيش فيها ملايين الفلاحين المصريين، مقابل السيطرة الفاسدة لحكامهم من الباشوات، وعن الوضع الصحي المتردي في الريف والفقر المدقع ونقص التغذية الذي يودي بحياة الأطفال بمجرد فطامهم ولذا تمد بعض الفلاحات فترة رضاعة الطفل، ويذكر أن معدل وفيات الأطفال في مصر هو الثاني على مستوى العالم ويصل إلى 26.5% من إجمالي المواليد، وهو مع ذلك ينظر لمستبدٍ معروف كاللورد كرومر كإصلاحي كبير عمل لخدمة هذا البلد!، كما نجد بعض التعليقات العنصرية التي لا تتماشى مع هذه المشاعر الجياشة والمتعاطفة مع آلام الفلاحين المقهورين، فهو يقول مثلاً " يجب أن يطرد الشعب الإنجليزى من مخيلته كون المصريين من الشعوب السوداء الأفريقية، ولأنهم نتاج حضارة  متميزة، فإن قدراتهم العقلية تتساوى مع الأوروبى المتوسط فى عموميتها . بعد جيلين، فإن مستوى حضارتهم ستتساوى مع أحسن ما فى الجنس السكسونى الإنجليزي. أما الأفارقة فهم برابرة بلا تاريخ معروف ينتمون لحضارة بدائية، ويحتاجون إلى ثلاثة أو أربعة أجيال ليـتـحـضـروا ويبلغوا مستوى المصرى والأوروبي، إلا أن الإفريقى لا يتساوى مع المصرى إلا في افتقاره لدليل أخلاقي ثابت. الأفريقى لا يمتلك أبدا منهجا ثابتا للتصرفات ترضى عنه المدنية الحديثة، بعكس المصرى الذى يمتلك ميزة وراثته المعايير أخلاقية متميزة استقاها من أجداده الفراعين، وفى العهود الحديثة استقى ذلك من تعاليم نبي الإسلام."، وهو مع نظرته العنصرية يقر بتميز تعاليم الإسلام، وأن جزءاً كبيراً من مشاكل المصريين يرجع إلى عدم تطبيقهم لهذه التعاليم عملياً.


د. سيسيل ألبورت

يتكرر في الكتاب أيضاً الحديث عن الاستعمار الإنجليزي بصورة إيجابية وكأنه جاء فقط للتحديث والارتقاء بالمستوى التعليمي والصحي، وأن الباشوات هم المسؤولون عن معاناة الشعب، وكان من ضمن الفقرات التي أضحكتني قوله "لا ننسى أن فلسفة الحكم الإنجليزي تهتم بالنواحي الإنسانية وتحرم العبودية"، وفي رأيي أنه لا يكرر هذه القناعات من منطق استعماري صرف، فمحتوى الكتاب ينم عن شخصية نظيفة الروح مهما اختلفنا مع بعض أفكارها، لكنه يتكلم عن قناعة بأن الإنجليز كشعب (متمدن ومتحضر) طالما أنه احتل بلداً ما، فإن عليه مسؤولية تجاه شعبها، وأنه من المؤسف أن الإنجليز أنهوا احتلالهم وسلموا البلاد للباشوات الفاسدين، وأنهم يغضون النظرعن تردي الأوضاع مقابل الامتيازات السياسية وخصوصاً في زمن الحرب.


د. سيسيل ألبورت

تحدث عن الطالب المصري، وذكر أنه ذو ذاكرة ممتازة ربما ترجع إلى أن أجداده دأبوا على الحفظ، ويأسف قائلاً أنه فيما يبدو أن مركز الذاكرة في ذهن الطالب المصري قد نما على حساب قدرته على تحكيم المنطق، أي أن معضلة الحفظ والفهم التي عايشها أي منا في دراسته قد وجدها سيسل أمامه في الثلاثينيات، بل يقول إن الطلبة المصريين "يتوقعون دائماً أن يقوم الأستاذ باستخدام ملعقة يسقيهم بها العلم"، وهو يرى أن في طلبة الطب المصريين ضعفاً في الطب الإكلينيكي، كما تحدث عن الطالبات المصريات وأثنى على المستوى العلمي لبعضهن، وإن رأى أنهن كإناثٍ – والنساء في مصر بشكلٍ عام – يتعرضن للتمييز.

تحدث عن الأوبئة المتوطنة في مصر وعدد منها سبعاً من ضمنها البلهارسيا والانكلستوما والدوسنتاريا، وعن إهمال الحكومة في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة الملاريا، وتحدث عن الأوضاع الصحية المتردية لأغلبية الفلاحين المصريين، لدرجة ورود حالة عليه لمريض يعاني من الأمراض السبع سوياً! كما تحدث عن انتشار مرض باركنسون، وأن نتيجة تعرض مصر لكل هذه الأوبئة انخفاض متوسط العمر للطبقات الفقيرة إلى 31 عاماً!، والطبقات الأعلى متوسط عمرها ما بين ال50 وال60، وهي مع ذلك أقل ب15 عاماً من أقرانهم في إنجلترا، والأمر في جزء منه متعلق بنوعية وطبيعة الغذاء وعدم ممارسة الرياضة.

يكاد الجزء الأكبر المتكرر في نقد سيسيل ألبورت للأوضاع في مصر يتعلق بفساد الحياة الجامعية وكذلك فساد الإدارة الطبية للمستشفيات. وكثير من انتقاداته تنصب بالإسم على شخصية عُرفت بصقتها من أعلام ورواد الطب في مصر وهو علي باشا إبراهيم، فهو يظهر كعميد لكلية الطب ثم رئيس للجامعة بصورة المتعنت الرافض للتغيير أو تنفيذ أي اقتراحات أو تحسينات طالما لم تصدر من خلاله، وأثني ألبورت في الوقت ذاته على بعض من قابلهم من الأطباء والأساتذة والذين رأى أنهم حاولوا الإصلاح قدر استطاعتهم وعلى رأسهم عزمي باشا، وكان من أكثر ما انتقده هو انتشار المحسوبيات والواسطة سواء في العمل أو الامتحانات، ومن ضمن النماذج التي عرضها تعيين أحد الأطباء كمدرس بكلية الطب رغم عدم حصوله على درجة علمية لمجرد كونه الطبيب الخاص للنحاس باشا!، وانتقد ألبورت كذلك التمييز بين الطلبة على أساس طبقي وديني، وعدم انتظام حضور العديد من الأطباء الكبار بشكلٍ فيه إهمال للمرضى وتركهم إما تحت تصرف أطباء صغار قليلي الخبرة، أو تحت رحمة – أو بالأحرى عذاب – التمورجية، والذين خصص عنهم فصلاً كاملاً يتكلم عن سوء معاملتهم للمرضى والإتاوات التي يفرضونها عليهم، وكذلك سرقتهم للمستلزمات الطبية وبيعها في السوق السوداء. كما تحدث عن المحسوبيات في الحصول على الأمصال المهداة من بعض الحكومات الأجنبية، وتوزيعها على أفراد الطبقة العليا أو استخدامها في العيادات الخاصة بالأطباء، بدلاً من أن توزع على مستحقيها من عموم الشعب الكادح.

علي باشا إبراهيم

تحدث كذلك عن الأوضاع المزرية للمستشفيات من حيث قلة النظافة وانعدام بعض التجهيزات الأساسية، فمثلاً تحدث عن مستشفى فؤاد الأول التي تكلفت مليونين من الجنيهات وبُنيت على مساحة ضخمة، وكان من الممكن أن يُستخدم هذا المبلغ لبناء 3 أو 4 مستشفيات أصغر ولكن بتجهيزات لائقة، فالمستشفى مثلاً لم يكن به نظام للتدفئة، فكان المرضى يصابون داخله بالالتهاب الرئوي وبعضهم يموت!، وكذلك لم يكن به سلك يمنع الذباب، فبالتالي كانوا يصابون بأمراضٍ أخرى بجوار أمراضهم، وذكر في موضعٍ آخر أن الناس دأبوا على قول أن الداخل للقصر العيني مفقود والخارج منه مولود، بل ذكر موقفاً يستحق أن يُحكى، فقد تكلم عن مجموعة من الجنود الأفارقة المسلمين من كينيا كانوا يخدمون في قوات الحلفاء، وفرحوا عندما حضروا لمصر كبلد إسلامي، آملين أن يروا "كيف تدار بلد مطعمة بكل تلك المقاييس العظيمة، وعندما وصلوا إلى مصر وشاهدوا الحالة المحزنة التي يعيش في ظلها الفلاحون من فقر وتخلف وأجور هزيلة والقذارة والمرض، والطريقة التي يعامل بها حكام البلد مواطنيهم، أصيبوا جميعاً بخيبة أمل، وأداروا وجوههم خجلاً من زملائهم الوثنيين الذين عيروهم قائلين (أين ذلك البلد العظيم الذي طالما تفاخرتم به؟)".

مستشفى فؤاد الأول (المنيل الجامعي حالياً)

وفي بعض الفصول سرد بعض ملاحظاته عن المجتمع المصري بشكلٍ عام، وكان مما تحدث عنه أثرياء الحرب، وتركز الثروات في أيدي قلة من الباشوات، وعن المصير الذي قد يلاقيه ملاك الأراضي لو وُجدت جهة تنظم الفلاحين لينتفضوا ضد القهر والبؤس، ثم يذكر عبارة كأنه يتنبأ فيها بالثورة التي حدثت بعد أقل من 10 سنوات، حيث قال: "احتمال أن يتعرض كبار ملاك الأراضي لإعادة توزيع أراضيهم يوماً ما، يعززه حقيقة أن أبناء الفلاحين يحصلون الآن على مناصب في الجيش المصري، وسوف يكون من سوء الحظ العاثر أن تُستخدم القوات البريطانية ضد الفلاحين لمنعهم من تحطيم تلك الطبقة الأرستقراطية العفنة المتجبرة".

وبعد أن فاض به الكيل، قرر ألبورت أن يقدم استقالته من الجامعة، ولم تُقبل إلا بعد 6 شهور رفض فيها كل الإغراءات بالبقاء، وفي الوقت ذاته، وأسوةً بالكتاب الأسود لمكرم عبيد، كتب ألبورت نشرة سرد فيها كل ما شهده من سلبيات بالمستشفيات المصرية، ويذكر أن من ضمن ما تأثر به هو ما قرأه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه قال أن ساعة عدلٍ واحدة خيرٌ من عبادة سبعين عاماً.

نجح ألبورت في تجاوز الرقابة وتوزيع النشرة بشكلٍ أثار ضجة كبيرة في الحكومة والبرلمان، وكان من المثير للشجن إشارته لتخوف العديد من زملائه السابقين من إبداء الدعم له خوفاً من الرقيب ومن أي انتقامٍ من الحكومة، وذكر قصة سمعها عن ضابط اُعتقل لمجرد توزيعه صيغة القسم الذي تعهد فيه بخدمة وطنه ومليكه، وعقب ألبورت على ذلك بقوله: "إني أرتعش كلما فكرت فيما كان يحدث لي لو كنت مصرياً"، كما قال في موضعٍ آخر أيضاً أنه لا يلوم من لم يدعمه، "فست شهور في سجنٍ مصري تفوق في رزالتها نفس المدة التي تنقضي في معسكر اعتقال ألماني"!، وقد حاول مقابلة النحاس باشا والملك نفسه ولكن بلا جدوى، ورد عليه علي باشا إبراهيم رداً متهافتاً نزع إلى الشخصنة، وكذلك كان الاستجواب الذي دار في البرلمان، والذي انتهى رغم كل شيء بتجديد الثقة في الحكومة!

وإلى هنا ينتهي هذا العرض الموجز لكتابٍ أهدتني إياه زوجتي لأقرأه منذ 15 عاماً واستعاره مني حينها صديق، فتأخرت قراءتي إلى اليوم!، وقد لخصته لي حينها بأني ربما سأقول (ما أشبه الليلة بالبارحة)، وهو الخاطر الذي سيصاحب كل قاريء للكتاب وهو يقرأ عن عفن الماضي بينما أنفه قد أزكمتها نتانة الحاضر، وفي الوقت ذاته، فقراءة هذا الكتاب مفيدة لنسف الصورة الرومانسية الموجودة في مخيلة البعض للماضي، ولقاهرة الأربعينيات التي كانت الموضة تنزل فيها قبل باريس...إلخ، لأن هذه صورة انتقائية مختزلة لا تظهر فيها الغالبية العظمى من شعبنا المنكوب المكتوب عليه أن يعيش في الظلم، سواء تحت حكم الاحتلال الأجنبي، أو المحلي!

وأختم بفقرة قد لا يكون لها كبير علاقة بالموضوع، اقتبسها الكاتب من رواية مذكرات بيكويك لديكنز، وفيها يقول بيكويك لزميله "أحسن سياسة في أحوال المنازعات، هي أن تقف مع الغوغاء، فرد زميله: لكن ما العمل إذا كان هناك مجموعتان من الرعاع؟ فقال بكويك: إذن قف مع أعلاهما صوتاً".

ليست هناك تعليقات: