طالعت هذا الكتاب رغم
موقفي السلبي من كاتبه، لما أتذكره مما كنت أقرأه له في الأهرام منذ زمن، لكن هذا
الكتاب في رأيي يستحق القراءة. فقد أتاحت ظروف عمل الكاتب كمحرر عسكري ومراسل حربي
وكذلك كمستشار صحافي لوزير الحربية الاقتراب من عدد من قيادات القوات المسلحة،
وصولاً إلى الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، وفصول هذا الكتاب تضم عدداً
من المواقف التي جمعته بالرجلين، مع التمهيد التاريخي لسياق كل موقف.
كان اللقاء الأول مع
عبد الناصر في عام 1965، على خلفية لقاء عبده مباشر بالملك فيصل، وقد سافر مباشر
للسعودية عقب اتفاق جدة بين عبد الناصر وفيصل للاتفاق على إنهاء النزاع في اليمن.
التقى مباشر في بداية
وصوله للسعودية بعدد من رجال الأعمال والأمراء السعوديين، وكانوا جميعاً يتكلمون
معه بتحفظ بعيداً عن الخوض في السياسة، باستثناء الأمير الشاعر عبد الله بن فيصل،
ومدير المخابرات السعودية كمال أدهم، حيث صارحه كلٌ منهما على حدة بأنه على
استعداد لإنفاق كل ما يملك نظير أن يركع عبد الناصر، وكان رد مباشر عليهما أن ناصر
لن يركع أبداً.
بعد ذلك التقى الملك
فيصل بشكل يستحق أن يُذكر، فقد طلب من وزير الإعلام السعودي تحديد موعد لمقابلة
الملك فيصل، وتصور أن الوزير سيتصل بالقصر طالباً تحديد موعد للمقابلة، لكنه فوجيء
بالرجل يقول له بكل بساطة: اذهب وقابله، فذهب مباشر لبوابة القصر الملكي ودخل دون
أن يستوقفه أحد، إلى أو وصل لمكتب الملك، وطلب من السكرتارية مقابلة الملك، وانتظر
إلى أن سمح له بالدخول، وقابل الملك وأجرى معه حواره الصحفي.
يظهر جلياً من هذا
الحوار قدر الزهد والبساطة في حياة فيصل، وكذلك كياسته ورزانته وقدراته السياسية
العالية، فعندما حكى له مباشر ما جرى له مع كمال أدهم وعبد الله الفيصل، استنكر
الملك كلامهما، وذكر عبد الناصر بالخير، وظل طوال الحوار على نفس الوتيرة من الهدوء
والرزانة والوقار.
عاد مباشر لمصر والتقى
مصطفى أمين وعرض عليه الحوار الصحفي، فأرسله مصطفى أمين لعبد الناصر لأخذ الإذن في
نشره، وحينها طلب عبد الناصر مقابلة مباشر، وحين قابله طلب منه أن يقص عليه كل
تفاصيل الزيارة وكل ما سمعه، وجعله يعيد عليه الحكي ثلاث مرات لكي يكتشف أي ثغرة
في كلامه توحي بالكذب، ولما اطمأن له مدح مجهوده، لكنه أعلمه بأن الحوار لن يُمكن
نشره، وكان السبب غير المعلن هو أن نشر هذا الحوار سيكون في صالح فيصل الذي سيظهر
بمظهر العاقل المتسامح الذي يذكر ناصر بالخير رغم تطاول الأخير عليه لدرجة قوله في
إحدى خطبه أن سينتف ذقنه.
في الفصل التالي تحدث
عن المجموعة 39 قتال بقيادة إبراهيم الرفاعي رحمه الله، ذكر ببداية الفصل أن قرر
السفر لألمانيا لاستكمال دراسة الصحافة، وحينما هُزمت مصر في يونيو 67، قاد حملة
لجمع التبرعات من الطلبة والمقيمين المصريين والعرب هناك، وبقيمة التبرعات تم شراء
كميات من الأدوية والاحتياجات وشحنها إلى مصر، وقطع دراسته وعاد لمصر لاستكمال
عمله كمراسل حربي.
ذكر مباشر كواليس
تعرفه على إبراهيم الرفاعي وقربه منه ومشاركته في طوابير السير مع قوات الصاعقة،
ثم طلبه المشاركة بصفته المدنية في عمليات المجموعة 39 قتال، وموافقة الرفاعي
ومدير المخابرات الحربية (اللواء محمد صادق) ورئيس الأركان (الفريق الشهيد عبد
المنعم رياض) واعتراض الفريق محمد فوزي وزير الحربية رغم توقيع مباشر لإقرار بأنه
مشارك على مسئوليته دون أي مسئولية على القوات المسلحة، ثم موافقة عبد الناصر على
منحه هذا الاستثناء، وبدء مشاركته الفعلية مع المجموعة في العمليات خلف خطوط العدو
في سيناء. وتعدد لقاءاته مع عبد الناصر إثر ذلك، حيث كان يتابع العمليات الفدائية،
وينتظر بعد نهاية كل عملية مقابلة الرفاعي وبصحبته مباشر لكي يعرضا عليه تفاصيل العملية.
ويذكر مباشر أنه مع ذلك اشترك في مظاهرات الطلبة عام 68 وعلم عبد الناصر بذلك
ولكنه تصرف كرجل دولة ولم يعتقله، بل ذكر أن وجود مباشر بين صفوف الفدائيين أفيد
للبلد من وجوده في المعتقل.
وهنا أستطرد قليلاً في
الحديث عن الفريق صادق، فقد تعددت المواقف التي يًذكر فيها اللواء – ثم الفريق
فيما بعد – محمد صادق، في هذه المذكرات، ما بين إدارة المخابرات الحربية، مروراً
برئاسة الأركان، وانتهاءً بتوليه وزارة الحربية، إلى أن عزله السادات في أواخر
1972 وعين بدلاً منه المشير أحمد إسماعيل. والحقيقة أن شخصية الفريق صادق كما تظهر
هنا تختلف بشكلٍ كبير عن الشخصية التي صورها لنا السادات في مذكراته، فصادق هنا هو
مبدئياً صاحب اقتراح بدء حرب الاستنزاف واستطاع إقناع عبد الناصر بذلك، وأن بداية
النضال ستكون تحت مظلة فدائيي منظمة سيناء العربية، وصادق هو الذي منع من موقعه
كرئيس أركان حدوث إنقلاب عسكري فور وفاة عبد الناصر، وهو كذلك الذي رفض أن يخوض
الجيش في الصراع الدائر بين السادات ومجموعة مراكز القوى ومن ضمنهم وزير الحربية
الفريق فوزي، وأرسل مباشر إلى السادات برسالة طمأنة شدت من أزر السادات، وكذلك هو
الذي لمح لقائد الحرس الجمهوري الليثي ناصف أنه لو فكر في الإنقلاب على الشرعية،
فإن الجيش لن يمكنه من ذلك، وهو الذي أدار من موقعه كوزير حربية خطة القبض على قادة
الإنقلاب على النميري في السودان، وهو الذي رفض بإباء إهانة القذافي حين أرسله
السادات لليبيا لطلب دعم مالي لشراء الأسلحة بمبلغ سبق أن دفع القذافي مثله قبل
أيام لشراء مواد غذائية تحتاجها مصر، ولم يكن السادات قد أعلم صادق بهذا، فقال
القذافي منفعلاً: أنا لا أستطيع أن أطعم مصر وأسلحها في الوقت ذاته، فقام الفريق
صادق على الفور منهياً المقابلة وأعلن أنه سيعود إلى مصر مما اضطر القذافي وأعوانه
إلى استرضائه والاعتذار منه عما بدر منهم.
الخلاصة أن هذه
الشخصية تختلف عن الشخصية التي نقلتها لنا الرواية الساداتية بشكل كاريكاتوري،
والذي أميل إليه الآن أن استغناء السادات عن صادق ليس بمعزلٍ عن ما آلت إليه
الأمور مع الليثي ناصف وهيكل وغيرهم، فمن منظور ميكيافيللي صرف، فإن الحاكم لا يحب
بقاء الرجال الأقوياء الذين عاصروه في أقصى مراحل ضعفه، والذين كان لهم الفضل
عليه، خشية أن يناطحوه يوماً ما!
تحدث الكاتب أيضاً عن
القذافي، فعند وصول القذافي ورفاقه للسلطة عقب انقلابهم على الملك السنوسي عام 69،
شعر عبد الناصر بتاريخه الانقلابي بالقلق وأراد سبر غور جاره الجديد والذي لم تكن
صورته حتى معروفة، فأرسل إليه هيكل وبصحبته مصور صحفي ليلتقط للقذافي ورفاقه مئات
الصور، وكان عبد الناصر يدرس الشخصيات من خلال تأمل صورها، وأكمل تصوره للشخصية من
خلال تقرير هيكل عن المقابلة.
حينما قدم القذافي
ورفاقه لمصر في أول زيارة لهم، وجههم عبد الناصر لزيارة الجبهة قبل لقائه، كي
يلتقوا بالفريق صادق، بحيث ينقل صادق بدوره إنطباعه عنهم قبل أن يلتقيهم عبد
الناصر. ومن لقاء صادق بهم تبدت طباع القذافي وعقليته ونزقه، فمع استفسار القذافي
عن سير عمليات حرب الاستنزاف، اقترح بكل جدية نقل 3 فرق من المدرعات والمشاة
الميكانيكية من الجبهة المصرية للجبهة السورية التي لا يوجد فيها مانع مائي كقناة
السويس، وبالطبع لاقى اقتراحه استحسان الوفد الليبي، لكن الفريق صادق رد عليه
بهدوء باستحالة هذا الحل عملياً وعدم توفر امكانياته، ومع ذلك أصر الليبيون على
استحسان رأي القذافي واعتباره عبقرياً!
بعد لقاء عبد الناصر
بالقذافي ورحيل الأخير، استمر عبد الناصر في استطلاع انطباعات المحيطين به عن
القذافي، ويحكي عبده مباشر أن عبد الناصر حينما سأله عن رأيه في القذافي أجابه
بأنه شاب أخرق وخطير، بسبب الموقف الذي ذكرناه آنفاً. والحقيقة أن عبد الناصر
سرعان ما تأكد من ذلك من موقفٍ لاحق، فقد طلب القذافي من عبد الناصر تواجد قطع من
القوات البحرية المصرية لحماية السواحل الليبية وعرض دفع مقابل ذلك، فرفض عبد
الناصر مبدأ الدفع ورد بأن الجيش المصري ليس مرتزقاً وإنه سيوافق على طلب القذافي
من منطلق عروبي وقومي، وطلب القذافي أن يتبع قائد القوة البحرية تعليماته مباشرةً،
فهادنه عبد الناصر ولكنه طلب من قائد القوات ألا يقوم بأي تحرك قبل إعلامه، وحدث
ما كان متوقعاً، فقد طلب القذافي تحرك غواصة مصرية لضرب سفينة سياحية أمريكية قرب
السواحل الإسرائيلية، وعندها أصدر عبد الناصر تعليماته للقوة البحرية بالعودة بعد
أن أيقن أن القذافي قد خدعه.
انتقل الكاتب بعد ذلك
للحديث عن السادات، وجذور معرفته به، ومحطات مختلفة في حياة السادات مروراً بمرحلة
توليه منصب النائب في أواخر عهد عبد الناصر، ثم كواليس الصراع على السلطة إلى أن حُسم
الأمر لصالح السادات في مايو 1971، ودور عبده مباشر مع الفريق صادق في دعم الشرعية
الممثلة في السادات، وكواليس التخلص من الخبراء السوفييت.
يحفل الكتاب المواقف
التي تستدعي الوقوف عندها لما تحويه من مواقف مباشرة تكشف جوانب من شخصيتي عبد
الناصر والسادات، ومن ضمن ما قرأت، اخترت الفقرتين التاليتين لأنقلهما كما هما:
الفقرة الأولى على
لسان عبده مباشر أثناء حضوره مناورة للقوات المسلحة في مطلع الستينيات، فيقول:
"كنت مازلت فى
أول الطريق، وأبذل ما أستطيع من الجهد، وقدرت وأنا أرى الرئيس عبد الناصر والمشير
عامر يسيران في المقدمة وخلفهما الجميع، أننى لو اقتربت منهما، وسرت خلفهما، فربما
سمعت خبراً أو تعليقاً مفيداً أستخدمه فيما سوف أكتبه عن هذه المناورة. فأحدهما
رئيس الجمهورية القائد الأعلى، والثانى هو المشير المسئول مسئولية كاملة عن القوات
المسلحة والنائب الأول لرئيس الجمهورية. وبعد لحظات رأيت زميلا لهما من مجلس القيادة يأتي من
الخلف بخطوات سريعة محاولاً
اللحاق بهما، ولاحظ ذلك المشير. فنظر إليه ساخراً وباسماً وسأله: ((أنت عايز تعمل راسك براسنا يا ابن
الجارية؟!!)) وشاهدني الرجل
وهو يقول ذلك ورأيت نظراته الغاضبة المتسائلة عما أتى بي إلى هذا المكان ؟!.. وكيف
تركونى أسير من خلفهما وبكل هذا القرب؟!.. ولكنه ومن قلب الغضب والتساؤلات. كان
متأكدا أننى سمعت سؤاله!!
وبخطوات متعثرة عدت
إلى الخلف للابتعاد عن نظره تماما وعاصفة من القلق تعصف بي، وعشرات التساؤلات تطل من رأسي، ومخاوف بلا
حصر مما يمكن أن يلحق بى.. وكان مفجعا ومدهشاً أن أرى هذه القيادة اليوليوية
تتراجع إلى الخلف بخطوات أسرع منى، لتتوارى بعيدا عن نظرات عامر وسخريته اللاذعة
المرة.
لقد كان التساؤل
عنصريا جارحا، وبه من التطاول والازدراء الكثير حتى ولو كان الأمر مزاحا!!وأقول
لنفسى: لو كان الأمر مزاحا ما تراجع الرجل بهذه الصورة.. لقد توقعت وأنا أسمع حديث
المشير عامر، أن يطلق العضو اليوليوى النار عليه أو أن يحاول قتله ولو بأظافره، أو
أن يقول له ((عيب))على الأقل، أو أن ينسحب غاضبا ويعود إلى القاهرة فوراً، ولكن أى من هذه الاختيارات لم يتحول إلى
واقع، وانسحب الرجل وظل على علاقته بالرئيس ونائبه الأول".
وهذا الموقف يكشف
جوانب من علاقات هذه المجموعة ببعضها، ونظرتهم للسادات، سواء عامر الذي أهانه
مباشرةً، أو عبد الناصر الذي لم يعقب عما حدث أمامه، وكذلك السادات نفسه الذي صبر
على هذا الذل حتى جلس مكانهما!
أما الفقرة التالية،
فكان على هامش حواره مع جعفر النميري، عقب فشل الانقلاب الشيوعي في السودان:
"وكان الاستفسار
التالى حول قبول المواطن السودانى السياسى بالفطرة، عاشق التعددية والتنوع
السياسى، فقال: صدقت.. لقد تأكدنا أن التنظيم السياسى الواحد لا يجد القبول من
المواطنين السودانيين.
وعدت لأسأله: ولماذا
اقتدى بمصر فى هذا المجال؟! ولماذا لجأ للتأميم، والتحول إلى الاعتماد على القطاع العام فى دولة مازالت
تحبو فى مجال الصناعة؟!.. فقال: إن الرئيس عبد الناصر وراء تبني الحزب الواحد الذى
يضم كل القوى السياسية والتحول إلى طريق القطاع العام، ولم ينتظر الرجل السؤال ..
وقال: لقد دار الحوار حول الحفاظ على النظام السياسي، ومخاطر الثورات المضادة..
وكان من أهم ما قاله: إن شعوبنا لا تثور إلا عندما تشبع، وضرب مثلا بثورة 1919 م، حيث تحرك
الطلبة، ثم تحرك الفلاحون والمزارعون بعد أن باعوا إنتاجهم من القطن بأس عار قياسية نتيجة لظروف الحرب العالمية
الأولى، أما الموظفون فلم ينضموا للثورة إلا بعد أن حصلوا على مرتباتهم، وكانت
نصيحته أن يضع النظام دخول الناس تحت سيطرته، وأن يوفر لهم مطالبهم واحتياجاتهم
إلى مستوى دون الشبع حتى لا يثوروا.
وقال: إن الذي قدم له هذه المذكرة، أو هذه
الدراسة هو الدكتور إسماعيل صبري عبد الله، وقد اقتنع بها وعمل على أساسها."
وهنا لا نملك إلا أن
نعلق على السنن السيئة التي استنها عبد الناصر، فباء بإثمها وإثم من عمل بها ممن
اتبعه من الحكام العرب، كما لا يمكننا أن نغفل دور المثقفين المحيطين بالسلطة في
التنظير للاستبداد، ودعمه بالأدوات والنظريات والأفكار التي تساعد على ترسيخه،
ومنهم من فعل ذلك بحسن نية ثم ندم حين ذاق بنفسه سوط السلطة، كالسنهوري وسليمان
حافظ - سامحهما الله - ومنهم من ظل حتى آخر عمره داعماً للأنظمة المستبدة، مثل
هيكل.
وإلى هنا أختم
هذه المراجعة للكتاب، والذي أنصح من يفكر في قراءته ألا يخلط بين الشهادة الحية
للكاتب، وبين آرائه، فالشهادات الحية قابلة للتصديق في إطار مقارنتها بروايات
الآخرين في نفس المرحلة، أما الآراء فهي قراءة شخصية للكاتب تحكمها خلفيته
وأيدولوجيته التي تقبل الاتفاق أو الاختلاف معها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق