الأحد، 15 يونيو 2025

سنوات في قلب الصراع : مذكرات الفريق أول محمد أحمد صادق


 

يعيب هذه المذكرات أنها في الأغلب حُررت من تجميع عدد من مسودات كتبت على فترات زمنية مختلفة، لذا فقد تتكرر بها بعض المعلومات، ولا تلتزم بالترتيب الزمني للأحداث، وفي أحيانٍ أخرى تجد نفس الحدث بتفاصيل مختلفة وبعضها متناقض، ومثال ذلك حادثة الزعفرانة التي رُويت قصتها 3 أو 4 مرات بتفاصيل مختلفة.

بدأ صادق مذكراته بالحديث عن التنظيمات السرية المتعددة داخل الجيش، والتي كان هدفها الأساسي العمل على رحيل الاحتلال الانجليزي، وأنه ظل على تواصل مع بعض هذه التنظيمات على الرغم من عمله ضابطاً بالحرس الملكي، ويذكر أن التنظيمات استقرت في النهاية تحت لواء تنظيم واحد هو الضباط الأحرار، وأن صادق كان على علاقة طيبة بعبد الناصر وعامر، وبعد نجاح انقلاب 1952، قدم نفسه لأعضاء مجلس قيادة الثورة بصفته ضابط بالحرس الملكي، فأحسنوا استقباله، وأعرب عن رغبته في أن يستمر في الحياة العسكرية، وذكر أنه كُلف بقيادة الحرس الجمهوري، ثم تولى أركان حرب القوات المسلحة في سيناء عام 1956، وأنه ابتعد عن الصراعات البينية بين رجال الثورة، وحافظ على علاقة الود بينه وبين عامر وناصر معاً، دون أن يكون محسوباً على أي منهما.

ذكر بعد ذلك أحد المحطات المهمة في سجل خدمته، وهو عمله كملحق عسكري بألمانيا الغربية في عام 1962، وأنه استفاد من موقعه هذا بشكلٍ كبير حيث اطلع على العقيدة العسكرية الغربية، كما كان بداية الاحتكاك بالعمل المخابراتي، حيث كُلف بالاشراف على عمل المخابرات العامة هناك، وخصوصاً بعد اكتشافه لصفقة الأسلحة الألمانية الإسرائيلية، والتي أُجهضت بعد احتجاج مصر رسمياً، كما نجح في تهريب ضابط نازي سابق مقابل تقديمه وثائق متعلقة باليهود والصهيونية.

في أواخر عام 1966 تولى إدارة المخابرات الحربية، ويذكر أنه سعى لتشكيل خلايا من أبناء سيناء للعمل داخل إسرائيل للحصول على معلومات، ثم يصل لمايو 1967 حين وصلت أنباء الحشود الإسرائيلية على حدود سوريا من خلال السوفييت، ويذكر أنه أمر عناصر مدربة ومختارة بالتوجه للحدود الاسرائيلية السورية من داخل إسرائيل للتأكد من صحة هذه المعلومات، ولما تبين عدم صحتها كتب بذلك تقريراً لكل من المشير عامر وشمس بدران، كما أطلع عبد الناصر على هذه المعلومات. ويذكر المعلومة المعروفة من أن الفريق محمد فوزي بعد أن سافر لسوريا واطلع على الحدود بنفسه عاد ليؤكد نفس المعلومة، إلا أن القيادة استمرت في تصعيد الموقف من خلال حشد القوات في سيناء، ويذكر صادق أنه كان على قناعة أن القوات المسلحة المشتتة بين اليمن وسيناء غير جاهزة  للحرب، ويذكر أنه سأل عبد الناصر عن سبب حشده للقوات في سيناء رغم اتفاق تقرير صادق وقوزي عن عدم وجود حشود للعدو على حدود سوريا، ليجيبه عبد الناصر: "هل أصدق معلوماتك يا محمد ولا أصدق معلومات المخابرات الروسية؟"!

ثم يتحدث عن الاجتماع الشهير يوم 2 يونيو، ويذكر أنه قدم تقريراً مصحوباً بخريطة تبين توزيع القوات الإسرائيلية، موضحاً أن العدو يمكنه الهجوم خلال ساعات في فجر 3 يونيو، أو بالأكثر فجر 4 يونيو، وأن عبد الناصر رجح أن الهجوم سيكون 5 يونيو، وأن على القوات الجوية انتظار الضربة الأولى. وأن صادق اقترح إخلاء مطارات سيناء ولكن قائد الطيران اعترض.

وهنا لابد أن نتوقف لنذكر أنه من المفهوم أن يسعى المرء لتبرئة نفسه وتحسين صورته أمام محكمة التاريخ، لكن ما يذكره صادق هنا يتناقض تماماً مع كل ما أجمعت عليه شهادات بقية القادة العسكريين، وعلى رأسهم شهادتي الفريق مرتجي والفريق فوزي، وفي مذكرات كل منهما وردت تقارير المخابرات الحربية بشكلٍ يومي، ويتضح منها أن المخابرات في البداية أيدت معلومات السوفييت بوجود حشود على حدود سوريا، ثم عادت لتطلب التريث، وبعد ذلك أخطأت في تحديد أماكن تركز حشود العدو أمام جبهة سيناء، فحددت أن تركزها في مواجهة المحور الجنوبي، وبالتالي تحركت أغلب القوات المصرية لتحتشد في هذا الاتجاه، ليتضح أن ذلك كان خداعاً من العدو الذي كان اقتحم بقوته الضاربة من المحور الشمالي، أضف إلى ذلك أن تقرير المخابرات الحربية يوم 2 يونيو المشار إليه ذكر بالنص طبقاً لشهادة الفريق فوزي: "إن إسرائيل لن تُقدم على عمل عسكري تعرضي، وإن الصلابة العربية الراهنة ستجبر العدو بلا شك على أن يُقدر العواقب المختلفة المترتبة على اندلاع شرارة الحرب في المنطقة"، وكما نرى، فإن هذا التقرير لا يعدو كونه كلاماً إنشائياً وخطابياً، بخلاف كونه عارياً عن الصحة،

ومع ذلك، يخصص صادق فصلاً كاملاً لمناقشة دور المخابرات الحربية في الحرب، ويكرر أن معلوماته كانت أقرب للدقة والصحة في حدود الإمكانات المتاحة، وأن أحداً لم يأخذ بتحذيراته، وتحدث عن لجنة سوفييتية بقيادة المارشال زاخاروف قدمت لمصر وأجرت تحقيقاً محايداً للوقوف على أسباب الهزيمة، وكانت المخابرات الحربية ضمن من خضعوا للاستجواب، وأن التقرير النهائي للجنة أشادت فيه بتقارير وخرائط المخابرات الحربية، وأنها لم تكن تختلف عما حدث من العدو بالفعل!، ويذكر صادق أن التقرير طبع من نسختين وُجهت إحداهما لوزارة الحربية والأخرى لرئاسة الجمهورية، وأنه عندما صار رئيساً للأركان ثم وزيراً للحربية وجد أن هذا التقرير اختفى، وأن آخر معلومة عنه أنه كان في مكتب الفريق فوزي، وكذلك لم يجد النسخة التي سُلمت لعبد الناصر، ويذكر صادق أن التقرير وضح وكشف المسئولين عن الهزيمة، وربما كان هذا سبب اختفاء التقرير، كما يذكر أنه في اجتماع مع عبد الناصر بعد عام من الهزيمة، تكرر الحديث في الاجتماع عن أن إخفاق المخابرات الحربية كان من أسباب الهزيمة، فطلب عبد الناصر خرائط المخابرات الحربية في الفترة السابقة للحرب وقارنها بمواقع العدو الفعلية ليجد أن نسبة التطابق في حدود 80%، ليقول لهم بعدها: عايزين إيه من المخابرات الحربية أكتر من كدة؟، ثم يحاول صادق تفنيد ما ورد في مذكرات الفريق فوزي من هجوم على المخابرات الحربية، وقد نتفق مع جزء من دفاعه، وهو أنه ليس ذنب المخابرات أن القيادة لم تتصرف وفق المعلومات التي أرسلها مكتب مخابرات العريش صباح 5 يونيو عن تحركات العدو واستعداده للهجوم، وقد نتفق أن تحريك القيادة للوحدات العسكرية في سيناء بما يخالف الخطة قاهر كان نابعاً من قناعات لديها أكثر مما هو متعلق بتفرير المخابرات الحربية رقم 13 الصادر يوم 26 مايو عن وجود حشود للعدو بالمحور الجنوبي، وخصوصاً أن هذه التحركات بدأت قبل صدور التقرير وبعد التوجيه السياسي بتأمين شرم الشيخ والدفاع عن رفح، والتفكير في عملية تعرضية في إيلات، ولكن صادق في الوقت ذاته لم ينف أن تقريره ذلك كان خاطئاً، كما تجاهل نص التقرير الخاص بيوم 2 يونيو الذي أورده فوزي في مذكراته والذي ينفي قدرة العدو على أي عمل تعرضي، وتجاهل كذلك الحديث عن خطأ تقدير مدى طائرات الميراج الإسرائيلية، وقنبلة الممرات، كما انتقى من شهادة اللواء الدغيدي ما يعضد موقفه، في حين أن اللواء الدغيدي اعتبر صادق أحد المسئولين الأساسيين عن الهزيمة، ولم يُعنى بتجميع تقارير المخابرات بشكل يومي وعرضها في شهادته هذه، وأعتقد أن ذلك بسبب أن بعضها سيدينه، وبذلك فإن الخلاصة أن صادق انتقى ما يمكن أن يجد به ثغرات يرد بها، كما حاول قلب الطاولة بانتقاد فوزي نفسه والإشارة لعدد من أخطائه وكونه المسئول العسكري الأساسي بحكم منصبه، وضرب مثلاً بأن فوزي رد على استفسار من قائد القوات الجوية بعد بداية الحشد، ويخبره فوزي بألا يشغل باله لأن الحشد ليس أكثر من مظاهرة! وفي كل الأحوال، فإنه ليس للباحث وسيلة يتأكد من خلالها من دقة هذه الشهادات المتضاربة، إلا بالرجوع للوثائق وأصول تقارير المخابرات خلال هذه الفترة، وهي بالطبع غير متاحة أمام الباحثين، لذا ستظل الحقيقة هنا غائبة، ولو أني أرجح أن الفريق صادق في هذه الجزئية لم يكن دقيقاً أو صادقاً، لأنه من الصعب أن تتواتر بقية شهادات القادة – الذين تباينت مواقعهم ومواقفهم - ويتواطأوا على الكذب في هذا الأمر، والله أعلم.

يتحدث صادق بعد ذلك عن بدء الحرب وتحطم السلاح الجوي وقرار الانسحاب، ويدعي اتصاله بالمشير عامر والحديث معه بشكل منفعل ومقارنته بين الانسحاب المنظم في 56 مقارنةً بالنسحاب العشوائي في 67، ودفعه لسرية بقيادة الشهيد إبراهيم الرفاعي لعرقلة قوات العدو لحين إتمام الانسحاب. وبعد وقف إطلاق النار، وجه ضباط المخابرات الحربية بالتعاون مع خلايا ابناء سيناء لتجميع الجنود الشاردين الذين لم يتمكنوا من الوصول للقناة، وكذلك لنسف مخازن الأسلحة حتى لا يستفيد منها العدو.

بعد ذلك انتقل إلى الحديث عن مرحلة الصراع على السلطة بين مراكز القوى والسادات، ومحاولة فوزي لاستمالته لجانبه، والتعليمات الكتابية التي حررها له في أبريل 71 والتي لا معنى لها سوى الترتيب لانقلاب، وقراره إخفاء هذه الورقة حتى لا تتسبب في إعدام المشاركين، وانحياز صادق للشرعية وتوليه وزارة الحربية.

في الفصلٍ التالي تحدث عن أحداث أيلول الأسود وتكليف عبد الناصر له بالسفر إلى عمان للتفاوض مع الملك حسين، وتهريب ياسر عرفات إلى مصر، وقد نجح في هذه المهمة، ثم في فصلٍ تالٍ يتحدث عن نجاحه في مهمة أخرى، وهي إحباط الانقلاب الشيوعي في السودان، بدون الحاجة لأي تدخل عسكري.

خصص بعد ذلك فصلاً للحديث عن أعمال الوحدة 39 قتال بقيادة الشهيد إبراهيم الرفاعي، والأعمال المختلفة التي قاموا بها للتسلل خلف خطوط العدو وأعمال الاستطلاع والنسف وزرع الألغام والاستيلاء على بعض المعدات وأسر الجنود، وبعض العمليات تمت داخل فلسطين المحتلة نفسها انطلاقاً من الأردن.

انتقل بعد ذلك للحديث عن سياسة السادات العسكرية، وبدأها بإشاراتٍ لمساعي السادات من قبل توليه السلطة التقرب من قادة القوات المسلحة ونسج العلاقات معهم، ثم أشار إلى أن السادات في أول اجتماع مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 19 أكتوبر 1970، أشار بشكلٍ مقتضب عن تصوره "لمعركة محدودة تقتحم فيها قواتنا القناة وتحرر بضعة سنتيمترات شرق القناة، بعدها تتدخل الدول لوقف النار، وتتجه للسلام مع إسرائيل"، ولم يعط أحدٌ من الحضور الاهتمام الكافي لهذا التصور وقتها، ولكن الشهادات المختلفة لمن تعاملوا مع السادات خلال مرحلة ما قبل الحرب يجد أن هذا التصور كان لديه منذ وقتٍ مبكر.

ذكر صادق أن السادات كان ينوي تعيين أحمد إسماعيل وزيراً للحربية خلفاً لفوزي، لكنه عدل عن قراره عندما وجد سيطرة صادق على القوات المسلحة وخشي من تحركٍ ضده، فأجل هذا القرار لمرحلةٍ أخرى وعين إسماعيل مديراً للمخابرات العامة، وأخذ رأي صادق وكذلك إسماعيل فيمن يتولى منصب رئيس الأركان، ورشح صادق 5 أسماء منهم الفريق عبد القادر حسن، وسعد الشاذلي، وفي موضعٍ من الكتاب ذكر أن تقرير إسماعيل عن عبد القادر حسن كان سلبياً، في حين أننا نعلم تاريخ العلاقة السيئة بين الشاذلي وإسماعيل، وفي موضعٍ آخر يذكر أن السادات هو من استبعد عبد القادر حسن لأنه اعتبره من رجال صادق، ولم يشأ أن يكون الوزير ورئيس الأركان يداً واحدة، المهم، تم اختيار الشاذلي، واستوقفني وصف صادق له بأنه  "كثير الضجيج والدعاية لنفسه، إلا أنه رشحه لكونه ضابط وطني وشجاع ومنفذ جيد للأوامر".

سنجد في الاجتماعات التي حضرها السادات مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة تأكيداً على فشل المسار السياسي وأنه لا بديل عن الحرب، وشكاوى قادة الأسلحة من عدم اكتمال استعداداتهم لتأخر وصول بعض المعدات من الاتحاد السوفييتي، وغياب قوة الردع الجوي لتخلف الطائرات السوفييتية عن نظيرتها الأمريكية، وقدرة العدو على الوصول لعمقنا بينما لا نتمكن من الوصول لعمقه، وتكرر تبني الشاذلي لفكرة الحرب المحدودة في ضوء ما لدينا من إمكانات، وخصوصاً أنه كلما مر الوقت، فإن الفجوة بين طيراننا وطيران العدو تتسع ولا تضيق. وكل هذا يؤكد أن ما أورده الفريق فوزي في شهادته عن جاهزية القوات المسلحة لتحرير كامل سيناء بنهاية عام 1970 لم يكن صحيحاً، وحتى كلامه المعسول عن التعاون السوفييتي وتسهيلاته في شروط الدفع، تتناقض مع ما ورد في شهادة صادق وغيرها من الشهادات، ويذكر صادق على سبيل المثال إن إحدى الصفقات أصر السوفييت على أن تُسدد قيمتها فوراً وبالعملة الصعبة، فتعذر تنفيذها. هذا بخلاف المماطلة في تسليم دفعات السلاح، وقطع الغيار، وتزويدنا بأسلحة دفاعية لا هجومية..إلخ.

ويؤكد صادق أنه حتى توليه منصب وزير الحربية لم تكن للقوات المسلحة خطة هجومية، كان موجوداً فقط هي خطة دفاعية بإسم (الخطة 200) – وهي ما أوحى لنا فوزي في مذكراته أنها خطة لتحرير سيناء - وتحدث عن المشروعات الاستراتيجية التي خاضتها القوات المسلحة بشكل تدريبي وذكر أنها كانت تتم بفرضية أن قواتنا تمتلك عناصر وقوة غير متاحة فعلياً وقت المشروع، لكنها يجب أن تتوافر مستقبلاً كتوازن للقوى، وعلى هذا يمكن أن نرجع للمشروع الاستراتيجي الذي تحدث عنه الفريق فوزي في شهادته والذي ذكر أنه تم في مارس 1971، وأكد قدرة قواتنا على تنفيذ ما أسماه الخطة جرانيت، وبتوضيح صادق يتبين لنا تدليس الفريق فوزي في هذه المسألة.

تحدث صادق بعدها عن بدء التوجه لرسم خطة الهجوم في ضوء الامكانات المتاحة وغياب الردع الجوي، وقدرة شبكة الدفاع الجوي من طراز سام 2 على الدفاع عن منطقة القناة، بينما نحتاج لصواريخ سام 6 لحماية القوات المتقدمة. وتحدث بعدها عن الخلاف بينه وبين الشاذلي، حيث رأى صادق أنه من اللازم أن تتقدم القوات إلى الممرات وتتحصن بها، بينما رأى الشاذلي أن الإمكانات المتاحة لا تسمح سوى بتكوين رؤوس كباري والاحتفاظ بمسافة 12 كم فقط شرق القناة، وأننا سننتظر سنوات قبل أن يكون لدينا الإمكانات للوصول للممرات، واستمر صادق على رأيه بأن الاكتفاء بتكوين رؤوس الكباري والتصور أنها ستكفي لصد الهجمات المضادة للعدو تصور ساذج، وأن العدو سيسعى لعمل ثغرة غالباً في منطقة الدفرسوار، أو التطويق من الأجناب المكشوفة، أما الوصول للمضايق فيضمن وجود حاجز دفاعي طبيعي، ويمكننا من نقل بطاريات الدفاع الجوي لحماية قواتنا هناك، وبناءً على هذا الخلاف اتفقا على عمل خطتين، الأولى اسمها (العملية 41) ثم أصبح اسمها (جرانيت 2) وهدفها الوصول للممرات، وأطلعوا عليها السوفييت بغية إشراكهم في الاحتياجات المطلوبة للقوات المسلحة، والخطة الثانية هي رؤية الشاذلي واسمها (المآذن العالية)، واقتصر العلم بها على كبار القادة المصريين. وفي مرحلة لاحقة لتضييق الفارق بين الخطتين، تم تقسيم الخطة جرانيت إلى مرحلتين، المرحلة الأولى مماثلة لخطة المآذن العالية، والثانية يُطور فيها الهجوم للمضايق طبقاً وما يستجد من إمكانيات. وقد غمز صادق الشاذلي وقرر أنه كان متجاوباً مع السادات في رؤيته للحرب المحدودة طمعاً في منصب وزير الحربية، لكن صادق مع ذلك أثنى عليه وعلى دوره في التخطيط للحرب وأنه بدون الشاذلي لم يكن ليتحقق الإنجاز في أكتوبر 73. وفي العموم، يذكر صادق أن الخطتين كانتا جاهزتين حتى موعد إقالته، وأن الوزير الذي خلفه –أحمد إسماعيل- عُرضت عليه الخطتان واختار خطة المآذن العالية التي صار اسمها (بدر) والتي كانت القناعة المشتركة للسادات والشاذلي، ولم يضف لها أحمد إسماعيل إلا لمسات بسيطة في ضوء ما استجد من إمكانات.

تحدث صادق بعد ذلك عن تجهيز مسرح المعركة، واستعدادات الأسلحة المختلفة، وكذلك تطوير العنصر البشري، ولفت نظري أن من ضمن الاستراتيجية الجديدة "نبذ خطة رفع الروح المعنوية التي كانت مطبقة حتى يونيو 67، والتي تستند إلى الفكر الاشتراكي والدفاع عن المكتسبات الاشتراكية، والبحث عن خطة جديدة تستمد عناصرها من الدين والوطن"، وخصص فصلاً للحديث عن الساتر الترابي وكيفية الحصول على الطلمبات اللازمة لعمل الثغرات به والسرية التي أُحيطت بهذا العمل، ثم تحدث عن مشروع عمليات لم تنفذ، عملية طارق بن زياد للسيطرة على شرم الشيخ والطور، وعملية هجوم على حيفا.

خصص صادق بعد ذلك عدداً من الفصول تكلم فيها عن العلاقة مع السوفييت والتواجد السوفييتي في مصر، ومن المعروف أن العلاقة بين السوفييت وصادق كانت شديدة التوتر وبعيدة عن الدبلوماسية، لدرجة أن المارشال جريتشكو وزير الدفاع السوفييتي قال للسادات في موسكو أنه سيسافر لمصر لتحطيم أسنان صادق، واكتفى السادات بالضحك، وتحدث صادق عن المحاولات المتكررة من السوفييت للحصول على قواعد لهم في مصر، وإغراء القيادة السياسية والعسكرية بامتيازات مقابلة منذ عهد عبد الناصر، بل وأنهم استغلوا ظرف الهزيمة وكرروا الطلب يوم 6 يونيو حينما طلب منهم عبد الحكيم عامر تعويضنا عما خسرنا من طائرات، ويكرر صادق ذكر المواقف السلبية لما اعتبره – وهو محقٌ في ذلك – احتلالاً سوفييتياً، ومنها تورط بعض المستشارين السوفييت في تهريب البضائع والذهب خارج مصر، ومنع دخول المصريين بعض القواعد المتاحة لهم، كما تحدث عن دور القيادة السوفييتية في إفساد العلاقة بينه وبين السادات، ومحاولة تحريض كل منهما على الآخر.  وفي جزء من هذه الفصول، أشار إلى شكوكه في وجود علاقة مريبة بين السوفييت وأحمد إسماعيل!

وفي الفصول الأخيرة، استغرقه الحديث عن المناورات السياسية الداخلية ومساعي السادات لإزاحته، وما رآه من مساعي كلٍ من أحمد إسماعيل والشاذلي للوثوب مكانه، وينتقل لكواليس الاجتماع الشهير للمجلس الأعلى للقوات المسلحة مع السادات في 24 أكتوبر 1972، واختلافه في الرأي هو وبعض القادة مع السادات، وحرصه على تسجيل محضر هذا الاجتماع وتوزيعه على مستويين أقل في القيادة، والغريب أنه لم يهتم بإدراج المحضر نفسه في الكتاب ليشاركنا تفاصيله، ولكنه ذكر أن الصحفيين المحسوبين على السادات بإيعازٍ من الأخير قد نشروا محضراً مزيفاً يبدو فيه تقاعسه وعدم رغبته في القتال، وذلك بغية تحطيمه معنوياً، ومن يقرأ كتاب البحث عن الذات للسادات أو يشاهد الفيلم المستوحى منه سيجد صورة شديدة الكاريكاتورية لا تُعقل ولا تليق بالرجل.

وبهدا تنتهي مذكرات رجلٍ تولى قيادة القوات المسلحة في مرحلة دقيقة من تاريخها، وقد وصلتنا شهادات من سبقوه ومن خلفوه، وكلها تحمل وجهات نظر مختلفة، بعضها قد صار الرواية الرسمية، لكن تبقى هذه الرواية المفقودة مهمة لإكمال الصورة، مع عدم تسليمنا بصواب كل ما فيها، بل إن بعضها من الواضح أنه محاولة لتبرئة النفس، وهذا مُتفهم بطبيعة الحال، لذا فإنه لا غنى للقاريء عن مقارنة هذه الشهادة بشهادات المعاصرين له، سواء المتفقين أو المخالفين، وبالأخص شهادات الشاذلي والجمسي ومحمد فوزي، وسيكون من المفيد أيضاً الاطلاع على كتابٍ آخر لمحرر هذه المذكرات (عبده مباشر) يحوي فيه تفاصيل أخرى عن الرجل لم تُذكر هنا، والكتاب بعنوان (أنا وعبد الناصر والسادات: سطور من السيرة الذاتية)، وقد سبق لي كتابة مراجعة مستقلة عنه هنا

ليست هناك تعليقات: